مازلنا نذكر جيّدا عندما رفع المخلوع ابن علي شعار «لا لتسييس المساجد» ليكون ذلك منطلقا لاحتكاره منابر مساجد وجوامع البلاد للدعاية لشخصه ولنظامه وخياراته بحيث كان هذا الشعار يعني احتكار الحاكم لنفسه المساجد والمنابر دون بقيّة الأطراف والمكوّنات السياسيّة بحيث تحوّلت في جزء كبير منها إلى أبواق دعاية ودعاء لابن علي ولزوجته «الفاضلة». هكذا كانوا يقولون عنها من على المنابر. ونتيجة لذلك أصبح الولاء الأعمى مقياسا أساسيا وربما وحيدا في تعيين الأئمّة كما أصبحت المساجد مستباحة للبوليس السياسي الذي ينقل كل ما يجري أثناء الصلوات ويزيد عليه فكثيرا ما كان أحد الأئمّة يفاجأ بإقالته لتقصيره في الدعاء لولي نعمته أو لقوله كلمة حق حول وضع ما قائم. وقد كان عامّة الناس من مرتادي المساجد يتذمّرون من ذلك بأصوات منخفضة لا تكاد تسمع خاصّة عندما تتحوّل شاشية الإمام أحيانا إلى وعاء لتجميع التبرّعات لفائدة تلك الصناديق التي تكاد لا تحصى بعد أن يمهّد لها الإمام بخطبة عصماء تبني للمتبرّع قصورا وعمارات في الجنّة بينما لم تكن تلك الأموال إلاّ أشكالا من «المجبى» لفائدة الحاكم بأمره. إنّ هذا الوضع الذي كانت عليه مساجد البلاد وجوامعها كان بلا شك مرفوضا سرّا أو جهرا ممن يعلمون الدور الحقيقي لهذا المقامات المقدسة لذلك كانت من ردود الفعل الأولى بعد سقوط الدكتاتور أن تمّت إزاحة أولئك الأئمة المدّاحين من على المنابر في خطوة تبيّن لاحقا أنها كانت معدّة سلفا من طرف سياسيّ بدأ يعدّ العدّة منذ ظهور البوادر الاولى لسقوط رأس النظام للانقضاض على السلطة بكل مؤسساتها وأدواتها بما فيها المساجد والجوامع التي لم تكن تعني لهؤلاء شيئا أكثر من كونها أداة من أدوات التمكن من الحكم خاصّة بالنسبةإلى من يتقن جيدا فن البكاء على الأطلال ودغدغة مشاعر الناس في ركن حساس من شخصيّتهم إلا وهو ركن العقيدة والهويّة. لقد انقلب الوضع الى نوع من الصراع على إمامة المساجد والسيطرة عليها حتى تحوّلت هذه الفضاءات التي اُعدّت للعبادة إلى حلبات صراع وأهداف لغزوات من عدّة فرق وأطراف دينيّة تتبارى في المزايدة على بعضها بعضا في فهم الدين والعمل به والافتاء فيه من نهضة إلى سلفيّات... الخ بينما كانت وزارة الشؤون الدينيّة ومن ورائها حكومة النهضة تلعب دور المتفرّج السلبي إلى أن بلغ الأمر حدّ تعنيف بعض الأئمّة وانزالهم عنوة من على المنابر بل إنّ ساحة المسجد تحولت أحيانا إلى حلبة للملاكمة وسب الجلالة ممّا يطرح أكثر من استفهام حول ما يجري وهويّة الفاعلين وعن دوافع صمت الحكومة وعدم معالجتها الأمر بنفس الدرجة من الحزم التي عالجت بها تجمعات واحتجاجات لأناس ضاقت بهم السبل أمام عجز هذه الحكومة عن الاستجابة لحاجاتهم الأساسية بل الحياتيّة الأكثر ضرورة. وفي خضمّ كل ذلك عادت المساجد إلى دورها الذي كان لها في عهد المخلوع كمنابر للدعاية السياسيّة للحاكم فأصبح راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة كما ورد على لسان إمام جامع الزيتونة -المنقلب عليه مؤخّرا- «رضي الله عنه» وعادت هذه المساجد فضاءات للدعاية السياسيّة للحاكمين الجدد ولتقويتهم بالمال والرصيد البشري وكذلك لمهاجمة ومحاربة كل من يقول عن أداء حكومة النهضة: «اللهم إن هذا منكرا» بل إنّ بعض الاحتجاجات أصبحت تُكفّر من على المنابر كما أن بعض القرارات الحكوميّة يتم إعلانها من نفس المكان لتأخذ طابع القداسة وتصبح أمرا مطلقا لا نقاش حوله... لتعود المساجد بذلك إلى دور قديم متجدّد لعبته في كل أزمنة الفساد السياسي وهو دور المشرّع للاستبداد ودور العصا التي تضرب بها السلطة كل يعارضها في قرار أو توجّه بدل أن تكون فضاءات لقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعالجة قضايا الناس في إطار من التفاعل الإيجابي القائم على الاجتهاد وفق قواعد التشريع الأساسيّة وأولها التيسير ودرء المضار وجلب المنافع للناس. لقد تجلّى هذا الدور الخادم لركاب السلطة ونزعتها الاستبداديّة في الأيام الأخيرة في جهة صفاقس وربما جهات أخرى عندما قام عدد مهمّ من الأئمّة الخطباء بحملة منسّقة على الاتحاد العام التونسي للشغل في خطب الجمعة فنعتوه بأسوإ النعوت وهاجموه بكل عبارات الاستعداء والتحريض معتبرينه وكرا من أوكار الكفر والفساد وإطارا لضرب الاستقرار والالتفاف على الثورة –هكذا!- بل إن بعض الأئمة اعتمد بيانا كان يُروّج في المساجد ضد الاتحاد كخطبة ثانية فضلا عمّا لحق الاتحاد من دعاء بالدمار والخراب في إطار من اللعب المثير للاشمئزاز على مشاعر أناس أتوا إلى المسجد بحْثا عن السكينة والطمأنينة من خلال ذكر الله وعبادته «ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب» وبحثا عن معلومة جديدة تفيدهم في دينهم ودنياهم فإذا بهم يجدون أنفسهم في مواجهة خطاب فجّ مثير للفتن في فضاء يفترض أنه وائد للفتن. بل إن بعض المصلّين لم يتوانوا عن الاحتجاج على ما يدور ويقال خاصّة أن عددا كبيرا من هؤلاء المصلين ليسوا سوى عمال وموظفين وأجراء قد خبروا الاتحاد مدافعا عنهم وعن مطالبهم بل إنهم يعلمون جيدا تماما كما يعلم قادة النهضة وقواعدها أن الاتحاد كان فاعلا رئيسيا في خوض غمار الثورة على المخلوع وإنهاء حكمه... لكن كيف لمن يخطّط لإعادة إنتاج الاستبداد القديم بنفس الأدوات القديمة أن لا يكون جحودا متنكّرا للتاريخ ورجاله الحقيقيين؟!