شهدت الخمس عشرة سنة المنصرمة تطورات دراماتيكية سجّلت «انتصارات» ساحقة للسياسة الامريكية التي تمكنت من ابراز الولاياتالمتحدة كقوة إمبريالية قادرة على فرْض هيمنة مطلعة تطال كوكبنا من أقصاه الى أقصاه. ولم يعد خافيا أنّ المخابرات الامريكية هي التي خططت ونفذت لانهيار الاتحاد السوفياتي وحصدت نجاحا باهرا بعد صراع دام قرابة نصف قرن مع نطيرتها السوفياتية في حرب وصفت بالباردة. واذا كان الاسلوب الاستخباراتي الامريكي قد اعتمد الجوسسة والنّخر واستخدام الاسلحة الاعلامية والثقافية ورفع الشعارات الداعية الى الديمقراطية والحريات في جغرافيا اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي فقد كان عنيفا يلجأ الى الاغتيالات والمجازر في استهداف حلفاء الاتحاد السوفياتي المباشرين والموضوعيين في بقية دول العالم وبخاصة ما يسمى العالم الثالث فطال الاغتيال رموزا ثورية وديمقراطية كارنستو تشي غيفارا واسقط انظمة ديمقراطية بارتكاب المجازر كما حصل مع نظام أليندي في تشيلي. وفي حالات عديدة لجأت «السي. آي. إي» الى توظيف تناقضات ايديولوجية لتحقيق اهدافها فدعمت نقابات (تضامن) بالتنسيق مع الفاتيكان ضد النظام الشيوعي في بولونيا واصطنعت ظاهرة «الإسلام السياسي» ليملأ الفراغ الذي تركه تراجع اليسار العربي، لكنّ الاخطر كان دعم اسامة بن لادن وجماعته عسكريا وسياسيا واعلاميا والايعاز الى حلفائها من العرب لدعمهم ماليا بوصفهم «مقاتلين من اجل الحرية» ضد نظام كابول الموالي لموسكو الى ان اقامت نظام «طالبان» في افغانستان. واذا كان اقتصار نشاط نقابات التضامن على التحركات السلمية كالتظاهر والاضرابات فإن تفكيك الاتحاد اليوغسلافي استدعى اللجوء الى حرب طاحنة ومجازر فظيعة وتغذية النزعة الانفصالية عند مسلمي البوسنة والهرسك التي لاتزال تداعياتها تترى. ورغم انّ معطيات كثيرة ترجّح أنّ احداث 11 سبتمبر 2001 هي من تخطيط صهيو أمريكي برغم توريط افراد اسلاميين في عمليةالتنفيذ، فإن الواقع الجديد في الجمهوريات المستقلة والاطماع الامريكية النفطية فيها وسياسة تصدير الديمقراطية الامريكية الى العالم الاسلامي دفع الادارة الامريكية المتغطرسة الى شنّ حرب على افغانستان واطاحة نظام طالبان الوهابي المتشدّد واستبداله بنظام «قرضاي» التابع مباشرة لواشنطن في تنفيذ استراتيجيتها الرامية الى اسقاط موسكو وتفكيك ترسانتها النووية القادرة على تدمير الولاياتالمتحدة خمسين مرّة. وفي هذا السياق كان تحركها في اوكرانيا وجورجيا على الطريقة البولونية بينما سعت الى تطبيق السيناريو الافغاني والسيناريو البوسني في الشيشان بدعم من تسميهم «مناضلين من اجل الحرية والاستقلال» عسكريا وسياسيا واعلاميا والايعاز الى حلفائها من العرب لدعمهم ماليا، بل وزج العديد ممّن كانوا يقاتلون الجيش السوفياتي والنظام الشيوعي في كابول في حرب ضد الجيش الروسي في الشيشان. ولئن كان تدمير العراق كقوة إقليمية هدفا صهيونيا نفذته ادارة المحافظين الجدد دون تردّد على حساب المصالح الامريكية الوطنية في نهاية الامر ذلك ان من دفع الثمن الباهظ الى جانب الشعب العراقي هم القتلى والجرحى ودافعو الضرائب من الشعب الامريكي، فإن الوسيلتين اللتين استخدمتا في العراق ايضا هما الارهاب المنظم الذي يمارسه الجيش الامريكي ضد الشعب العراقي واثارة النزعاتالانفصالية الطائفية والعرقية في هذا البلد بغية تفكيكه ولو بإبادة شعبه. إنّ الارهاب الدولي والانفصالية هما سمتان اساسيتان للسياسة الخارجية الامريكية، يمثلان الخطر الاكبر والتهديد الاساسي للامن والاستقرار في العالم وبخاصة في الدول الاسلامية منه، ذلك انّ عدم الاستقرار والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول تؤمن البيئة المغذية لتطوّر التطرّف وظهور الفتنة العرقية والدينية والطائفية ووفقا للمراقبين فإن التطرف الديني والطائفي والعرقي والنزعات الانفصالية تهدد العراق وتركيا والباكتسان والسعودية ولبنان واليمن وافغانستان واندونيسيا وليست دول المغرب العربي في منأى عن هذا الخطر والتهديد، ذلك ان تورّط المخابرات الامريكية في الاحداث التي عانت منها الجزائر من جرّاء التطرف الديني وكذلك ما يشاع من ترجمة القرآن الى الامازيغية في بلد ارتبط فيه الاسلام بالعروبة، وما تتناقله الاخبار من احداث بعيدة وقريبة يجعل الحذر واجبا خصوصا بعد ان افتضحت ورقة تصدير الديمقراطية الامريكية التي كان سجناء أبو غريب نموذجها الابرز! لذلك علينا الانتباه الى أنّ النمر الامريكي الجريح بتحريض مباشر من اللوبي الصهيوني لن يوفّر ايا من اوراقه على هذا الصعيد برغم ما يبديه من «مرونة» تكتيكية في العراق، فهو يدعم بقوة رموزا طائفية انفصالية في لبنان للضغط على سورية ويسعى الى لحس جراحاته العميقة في امريكا اللاتينية وينفخ في جمار الحركة الارهابية الانفصالية في الشيشان عازفا على وتر صبغتها الاسلامية. ومن هنا تكون مكافحة الارهاب في الشيشان حزءا لا يتجزأ من جهود الجبهة الدولية المناهضة لمساعي الهيمنة الامريكية التي تنشر الحروب وبؤر التوتر في العالم وفي الوقت نفسه من الجهود الواجبة لدفع ظاهرتي الارهاب والانفصالية اللتين تحاول الصهيو أمريكية نزعهما عنها والصاقها بالاسلام والمسلمين، ذلك انّ محاولة تصوير وإظهار الارهابيين في الشيشان كمناضلين من اجل الحرية والاستقلال، هي نموذج لاستخدام الخطر الارهابي بغية تنفيذ اهداف سياسة كما هي مثال للمقاييس المزدوجة التي باتت من ابرز معالم السياسة الامريكية، كما انّ استخدام الارهاب الشيشاني في الاهداف السياسية يؤدي الى ازدياد التطرف والحركات الانفصالية الذي يهدد مباشرة الدول الاسلامية وانظمتها ناهيك انّ الامريكيين وحلفاءهم يحاولون لفت الاهتمام الدولي عن مشاكل الشرق الاوسط والعراق وافغانستان الى أماكن أخرى بينها الشيشان. ولاشكّ أنّ الدور المهمّ الذي تقوم به روسيا الان في اعادة التوازن الى السياسة الدولية ومواجهة الولاياتالمتحدة في مجلس الامن والوقوف سياسيا وعسكريا واقتصاديا الى جانب الشعوب العربية الاسلامية وقضاياها الاساسية في فلسطين ولبنان والعراق وسورية وافغانستان وايران وغيرها يجعل الادارة الامريكية تسارع اكثر من اي وقت مضى لاستخدام الورقة الشيشانية في محاولة يائسة للتشويش على الموقف الروسي الذي يكبح اندفاع النمر الامريكي لايقاع المزيد من الاذى الاضافي بشعوبنا ومصالحنا وقضايانا العادلة، الامر الذي يستدعي منا الانتباه والحذر. ------------------------------------------------------------------------