بمناسبة الاستعداد للاحتفال بمرور خمسين سنة على ظهور أول عدد من جريدة «الشعب» عادت بي الذاكرة الى السنوات العديدة التي اشتغلت بها في هذه الصحيفة وهي سنوات تمثل تقريبا نصف الاعوام التي قضيتها في مهنة المتاعب بين مختلف وسائل الاعلام التونسية. هي ذكريات جميلة بحلوها ومرها لا بد للذاكرة (التي اصبحت ضعيفة) أن تخونني على سردها ولكنني سآتي على بعضها، ذلك ان احداثا ومواقف يمر بها الانسان في حياته لا يمكن أن تمضي من مخيلته حتى وان اختلطت عليه الأمور وتشعبت بسبب صعوبة الحياة وتعقدها فهل يمكن أن أنسى يوما من أيام شهر مارس 1976 عندما كلف المرحوم حسن حمودية رئيس تحرير «الشعب» آنذاك الزميل فتحي العياري أن يصطحبني الى مطبعة «الساجاب» بالقصبة اين تطبع الجريدة لأكتشف أنه وقع قبولي للعمل كمصحح، فكان يومي الأول حيث وجدت شخصا يعمل هو الآخر مصححا بالجريدة ومرت سويعات ذلك اليوم بطيئة لدرجة انني فكرت في عدم العودة في اليوم التالي والبحث عن عمل آخر وذلك لسببين اثنين أولا: احساسي الكبير بثقل ظل الشخص الذي كلفت بمساعدته في الاصلاح والذي سأقضي معه يوما كاملا طيلة خمسة أيام في الاسبوع وإذا بي لم أجد أخف من ظله لدرجة انني كنت أتمنى أن لا أفارقه لحظة واحدة حتى خارج أوقات العمل وهو ما حصل : هذا الرجل هو الزميل العزيز فرج جويرو الذي أصبح صديقا حميما بمرور الأيام .. والسنين. ثانيا : لقد بدأت عملي في حقل الاعلام كمصحح بجريدة «الصباح» سنة 1967 كشأن جل الصحفيين ثم أصبحت محررا بنفس الصحيفة وتحولت الى غيرها كمجلة الاذاعة والتلفزة وغيرها ... فهل أعود الى الوراء لأبدأ حياتي المهنية الصحفية من جديد؟ هكذا تساءلت ولكن ما حيلتي وقد كنت عاطلا عن العمل لأسباب يطول شرحها؟ ومرت الأيام والأشهر .. فالسنوات وعشت تلك الأحداث التي مرّ بها الاتحاد العام التونسي للشغل وبالتالي جريدة «الشعب» وقد كانت بدايتها احداث جانفي 1978 وما تبعها ووجدت صعوبة كبيرة في اقناع نفسي بأنني مفروض عليّ أن أكون أحد المعنيين كغيري من كل المسؤولين والأعوان والموظفين والحجاب والسواق والصحفيين فكان عليّ أن أجوب الشوارع وأعود الى البطالة كلما مرّ الاتحاد باحدى الأزمات وما أكثرها، لاعود للعمل عندما تنتهي الأزمة .. كان ذلك قدري الذي حتم عليّ أن أصبح مناضلا نقابيا ما دمت أشتغل بجريدة نقابية مناضلة. لست أدري حتى اليوم ان كان رئيس التحرير أعجب بمساهمتي في كتابة المقالات التي أساهم بها من حين لآخر الى جانب عملي كمصحح أم أنه كان بحاجة الى محرر آخر .. المهم انني انضممت الى أسرة التحرير فوقع تكليفي بالصفحة القضائية، وإذا ابي اتجول بين قاعات جلسات قصر العدالة واتصل بالقضاة والمحامين وكتبة المحكمة لأنشر القضايا بأنواعها وخاصة منها قضايا العرف وقضايا المحكمة الادارية ... والى جانب ذلك كنت أقوم بتغطية الاجتماعات النقابية والندوات والملتقيات ككل صحفيي الجريدة بدون استثناء .. ثم اخترت التخصص في كتابة المقالات الاجتماعية وهو ما دأبت عليه من بداية عهدي بالعمل في الحقل الصحفي فكانت أركاني هي التالية علي سبيل المثال : من المجتمع مجتمعنا لو كان بيدي إشارة غمزة لو كنت الاصبع على الداء هذا رأيي الخ ... وتحت هذه الأركان كانت مقالاتي كلها اجتماعية ونقدية، وكنت أقوم بكتابتها في المقهى أو المنزل وهو ما تسبب لي في مشاكل كثيرة فكيف ذلك؟ كانت العلاقة التي تربطني بالمسؤولين والأعوان والموظفين متينة وحسنة في اتحاد الشغل هذا رغم مغادرتي الجريدة منذ ربع قرن تقريبا، عدا علاقتي برؤساء التحرير التي لم تكن ابدا عادية بل قل انها كانت سيئة لسبب واحد وهو عدم احترامي للوقت وعدم حضوري الدائم بمقر الجريدة مثلما كانوا يحرصون دوما ولا بد ان اعترف هنا أنني لم أكن أحترم الوقت منذ طفولتي حيث كانت عقوباتي بالتعليم الابتدائي والثانوي وبدار المعلمين بالمنستير ثم منذ دخولي معترك الحياة حيث تضررت كثيرا بسبب ذلك ، وقد حاولت االمرار العديدة إصلاح هذه العادة السيئة جدّا فلم أفلح فكانت مشاكلي كثيرة مع الاصدقاء بسبب تأخري عن المواعيد، وأحلت على مجلس التأديب أكثر من مرة وخاصة بمؤسسة الإذاعة والتلفزة، وتلقيت الانذار تلو الآخر ولكن لا حياة لمن تنادي ... انني لم أحترم الوقت عندما كنت مربيا، فكيف لي أن أفعل ذلك عندما أصبحت صحفيا، لأنني كنت اعتقد ومازلت أن الصحفي ليس مكانه المكتب بل الشارع والمقهى والحي والحانة والنوادي ... وأذكر مرة أن متفقد التعليم الابتدائي الذي زارني ليقوم بعملية التفقد قد سبقني الى القسم بل هو الذي أدخل التلاميذ وبقى في انتظاري تصوروا ... وكان السيد توفيق بوغدير شفاه الله أحد رؤساء التحرير الذين اشتغلت معهم يلح عليّ ويترجاني أن أسجل حضوري ولو لخمس دقائق ، ثم أغادر مقر الجريدة الى حيث أشاء وأذكر انه قال لي ذات مرة : «بالعربي استاحشتك يا سي علي» لأنني كنت اتغيب لعدة ايام بعد ان القي بمقالاتي بمكتبه أو أرسلها مع احد الزملاء وانطلق في سبيل حالي ، وكانت الخاتمة مسكا إذ أحلت على مجلس التأديب الذي قرر طردي نهائيا من جريدة «الشعب» بعد أن يئس الجميع من «إصلاحي» وعودتي الى الجادة ولهم الحق في ذلك، ولم يكن يدري مدير الجريدة آنذاك والذي قرر وأصر وألح على رفضي أنه أحسن فعلا لأنني عدت الى مهدي وتفرغت للانتاج الاذاعي والتلفزي ووقع ترسيمي حتى احالتي على التقاعد من مؤسسة الإذاعة والتلفزة حيث عرض عليّ مواصلة العمل بعقد عمل فرفضت ، لأنني سأضطر مرة أخرى وأجبر على الانضباط واحترام الوقت هذا العدو اللدود وغادرت المؤسسة وأنا أردد أغنية محمد عبد الوهاب «محلاها عيشة الحرية»، إن مشواري الطويل بجريدة «الشعب» لا تكفيه هذه الأسطر لسرد الذكريات والطرائف والمشاق ، والخصاصة بسبب نقدي اللاذع لهذا المسؤول أو تلك المؤسسة، وأذكر انني قمت بحملة ضد مؤسسة صناعية كبرى ضمت أكثر من عشرمقالات بجريدة «الشعب» بسبب المظالم المسلطة على عمالها وموظفيها من طرد تعسفي وعقوبات وتجميد أنشطة، فدعاني مديرها الى مكتبه وعرض عليّ رشوة مالية مثلما فعل قبلها مع الكاتب العام لنقابة المؤسسة، وعندما رفضتها وكتبت عنها لفق لي تهمة خطيرة نتج عنها عقوبة بايقافي عن العمل مدة شهر كامل، ولم يمنعني ذلك كغيري من زملائي أن نواصل النقد ومحاولة علاج الاعوجاج رغم خطورة العاقبة أذ كنت أقول لزوجتي انني في صورة عدم عودتي الى المنزل مساء فسأكون في « دار الضيافة» وذلك بسبب مقالاتي اللاذاعة للمسؤولين الكبار والمؤسسات ولم يكن هدفنا وقتها سوى الاصلاح والدفاع عن حقوق ومكاسب العامل التونسي أينما كان موقعه . هي ذكريات جميلة رغم كل شيء فقد اشتغلت بمختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، ولكن تبقى جريدة «الشعب» هي الوحيدة التي يبقى حنيني لها كبير لأنني قضيت بها نصف حياتي المهنية تقريبا مثلما ذكرت في البداية ولأنني عشت معها الفترات الجميلة والأزمات التي مرت بها وأهم من كل ذلك ان علاقتي مازالت وطيدة بزملائي، اذ كلما قمت بزيارة «شعبي» الا ويقع استقبالي بالحضن تحية من القلب الى «الشعب» في ذكرى ميلادها الخمسين. علي الجريدي