تردّدت صورته في الصّحف والمجلاّت، ملأت الصّفحات الالكترونية، اعتلت الشّاشات الصّغيرة، حملت من المعاني ما لا يحدّ، دلالات متراصة ملتصقة تنبع منها، تفيض عليها وتغمرها وتكشف جوهرها... لعلّه انتصار الشجاعة على الفزع في أقسى تجلياته... لعله شيء من معنى التّضحية وقد خلقته لحظة المواجهة التي حسبناها من صنع محترفي إخراج الفزاعات .. أو قبس من روح الوفاء لتونس يتجلّى فيعلو ويزهو رغم الظّلمة الحالكة المحدقة بالجبل الواقع في أسر اليد الهمجية، تسعى إلى احتلاله وتحويله إلى قاعدة يسكنها أبو جهل وأتباعه ... ماذا يتخفّى وراء الصّورة من معان؟ فتى ممدد مقطوع الرجل يقول أنه على كامل الاستعداد للتضحية بالأخرى في سبيل الوطن. تزوزه الحكومة المؤقّتة وتقيل ساقه المبتورة وهي الّتي تصدر أوامرها إلى الجنود بأن يحبوا أعداءهم ويطلبوا لهم الهداية وألا يطلقوا النّار عليهم حقنا لدماء ذوي القربى. وخلف الرجل الممدد على فراش المجد المدفوع من الجسد المكلوم يختفي كالشبح المقيت رجل آخر لعله هو أيضا شاب في مقتبل العمر يختار الموت والجبال والألغام معميّا بحمّى السّلف الصّالح وأساطير ديار الكفر والإيمان...يندفع مكبّلا بقيود الحرام التي ورثها من أفواه شيوخه يفجر لغما في وجه شاب تونسي مثله، مقيّدا بأغلال عبوديّة يريد نشر رايتها لتغتصب الفضاء المطل على الحرية. تتعالى الأصوات تمجّد شجاعة الجندي المنكوب، تعلي من روح النضال فيه تردد خبره في حماس يعبّر عن إحساس بالفخر... يجسّد الفتى صورة من صور بسالة الجندي في فترة أضحى فيها أمن البلاد يوضع موضع تساؤل وحيرة ممّا يتخفّى في عقول أولي الأمر المتستّرين بعدُ بستار ليس لهم.. ولكن غدا سيغادر الجندي فراش المرض، سيتعود المشي على ساق واحدة ... ستختفي شيئا فشيئا كلمات البلاغة وحروف المديح. لن يبقى من المشهد غير ذكرى ساق مقصوصة وأخرى يعوضها الخشب وبعض من غصة تتعقد في حلقه جراء وطن يحترف البلاغة وينسى أن المنكوب وأهليه يحتاجون إلى أشياء أخرى كثيرة غير الكلمات التي تدفع من جيب لا شيء فيها.