«أعلنت دولة عربية متحدة أنها قد شكّلت لجنة وطنية لمقاومة الاتجار في البشر» كان هذا هو فحوى الخبر الذي أوردته إحدى الفضائيات منذ أسابيع في شريط أنبائها السفلي، الخبر لا يبدو كغيره من الاخبار ، بل هو كغيره من الأخبار، ربما مرّ عليه البعض دون انتباه في زحمة القتل اليوميّ المرتب، ربما قرأه ملايين العرب دون وعي وبلا مبالاة ... ربما ... ولكنه سكن مخيلتي مقرونا بالبحث عن معنى الاتجار في البشر كانت أمريكا الجديدة سوقا رائجة لرحلات الموت على متن سفن كالسجون يحشر فيها ما يتم صيده من سكان بلاد الصحراء الافريقية، يحشرون كالفئران في صناديق تقلها سفن الشحن عابرة بها المحيط لأسابيع طويلة فينفق من ينفق ويعيش من كتبت له المذلة ... ليكون عبدا مملوكا لسادة بيض يسخرونه لخدمتهم وقضاء شؤونهم وتعمير فضاءاتهم الفارغة... استمرّ الأمر قرونا وبدأت حركة مقاومة هذه التجارة اللاإنسانية تثمر معارضات لتجارة الرقيق انطلقت في لندن وأمريكا وأثمرت في تونس استجابة تم بمقتضاها الغاء الاسترقاق نهائيا بموجب قانوني أصدره المشير أحمد باشا باي سنة 1846 ، فقد كانت تونس في القرن التاسع عشر بل في آخر القرن التاسع عشر واحة يتساوى فيها الناس رغم اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم واستمرّ الأمر كذلك الى اليوم .. ولكن الاعلانات الكثيرة التي باتت تطالعك كل صباح على صفحات الجرائد وعلى الجدران في شكل ملصقات تطلب خادمات تحيلك مباشرة الى بقعة من الأرض تفوح برائحة الاستغلال والاتجار بآلام البشر للعمل، فهذه الاعلانات تغري النساء بوهم الأجر العادل والتغطية الاجتماعية والراحة، هذه الاعلانات التي تطلب خادمات للعمل لتلبية حاجيات السوق المحلية وللتصدير أيضا إعلانات، تطلب خادمات للعمل طيلة الوقت وخادمات بالمبيت .. خادمات سيتكفلن دائما وفي الاعلانات طبعا بعجائز مساكين وديعين لا يؤذون نملة ... خادمات لدى عائلات أجنبية مقيمة ... خادمات ستتولى أمرهن شركات سمسرة وطنية جدّا ستراعي في تشغيلهن كل اتفاقيات العمل الدولية والاقليمية والمحلية .. شركات هدفها فقط خدمة المواطن (الخادم والمخدوم)، شركات لن تتاجر بالجهد البشري ولن تستغل ظروف طالبات العمل وستراقب حسن معاملتهن ... شركات.. شركات، لماذا إذن لفت انتباهي ذاك الخبر عن تلك الدولة النفطية البعيدة التي انتبهت لما آلت إليه أمور الاتجار بالبشر في أراضيها .. لماذا لا انتبه لما قد تؤول له الأمور بيننا ... فهل بدأ بعض السماسرة ينقضون مكسبا استبشر به أجدادنا منذ مائة وستين عاما؟ لقد كان القرن العشرون قرنا للحريات الفردية والجماعية قرنا للقيم الانسانية، قرنا لسيادة بعض القانون واحترام حقوق الانسان ... ولكن بعد سنوات قليلة من انطلاقة قرن جديد استُهل بسقوط برجي التجارة العالمية صارت كل القيم السابقة بين قوسين وانبثق منطق جديد في تسيير العالم والبشر . فقد «صارت العولمة ديانتنا الجديدة معها لم ندرك الفرق الجميل بداهة بين التيمم والوضوء ... ومعها صارت الكلمات ضيقة كسوق الشغل والشقق الحديثة والأمل ... « مع هذا القرن عدنا لنقرأ عن عذابات الكثير من البشر جراء النخاسة الجديدة وبدأنا نسسمع من جديد عن العبودية والحرمان من الحقوق .. وهاهي القضايا مازالت ترفع أمام القضاء للمطالبة بالتعويض عن قرون النخاسة الطويلة وقد نشرت مؤخرا لدى القضاء البريطاني عديد الشكاوى ضد شركة «اللويز» للتأمينات التي كانت تؤمن سفن نقل العبيد من افريقيا الى أوروبا وبريطانيا ، وهاهو تقرير دولي يقول إن العبودية قد عادت للانتشار في 139 دولة منها الكثير من الدول العربية .. وقد أشارت تقارير وشهادات حية أخرى أن عبودية هذا العصر قد تأنثت بالكامل وصار أغلب ضحاياها من النساء اللواتي يتم استغلالهن في الخدمة المنزلية وفي المصانع وفي ترويج المخدرات وفي تجارة الجنس، وفي وفي ... وفي ذات التقرير الذي أحصى الدول المنخرطة في الاتجار بالبشر ورد ان عدد ممّن تنتهك حقوقهن في ظل النخاسة الجديدة من النساء والاطفال بلغ ما يقرب من مليون شخص سنويا.