ليس أصعب من سؤال الحب غير سؤال» ما الإنسان»؟ و ما الحرب؟ لو تدبّرنا أمر الراهن الحضاري الموسوم بزمن «العولمة»mondialisation ، هذه الكلمة الاسفنجة والمشجب، ذلك أن الكلمة بالذات أصبحت مطّاطة بفعل الفائض الاستعمالي كما كلمة الحبّ إلى حدّ غدا معناها زئبقيّا لدى معظم الخلق الثقافي، تماما كما كلمة»التسامح» و»حقوق الإنسان» و»الديمقراطيّة» و»الفلسفة» السيئة الذكر و»الوطنيّة» والإيكولوجيا (2) إنّ اللافتة الأساسيّة للعصر يمكن نعتها بزمن الإنسان «ذو البعد الواحد» وفق بلاغ صاحب كتاب الحب والحضارة (ماركيوز). (3) مجرّد التساؤل عن مقام االحبب في زمن «الرأسمال الجوّال» وفق عبارة جاك أتالي و»البضائع الجوّالة» و»الهاتف الجوّال»، و»النفايات المستعادة»، و»الإنسان المرسكل»، إنّما يعني أنّ هذا السؤال يتوفّر على إجابة ضمنيّة، تدين السائد الحضاري فهو يستحضر بوعي ماكر النقيض الموضوعي للحبّ وهو الكراهيّة، منصوص عليها أساسا بالحرب ومشتقاتها. (4) وقد يكون سؤال «أيّ مقام للحبّ في زمن العولة»؟ لا يتوفّر على الإجابة الحاسمة كما بدا لي لأول وهلة وإنّما هو يعبّر عن قلق فعلي، إذ يعتبر أن ما كنّا نتوهّم بأنّه بديهي في الحب، وكل ما يتعلّق بشؤون القلب والعاطفة ليس كذلك. وأنّ كل ما كنّا نعتبره ولزمن طويل «طبيعيّا» و»عاديّا» ومن المسلّمات لم يعد من المسلم به إطلاقا...في الآن الحضاري، إذ سقطت كل البديهيات. (5) إنّ زمن العولمة، إنما هو زمن عودة المكبوت المركّب، وعودة الشكّاك والمتمرّدين والرافضين والمتسكّعين في الشوارع الرئيسيّة والخلفيّة للمدن الساخنة والكسموبولوتيّة (باريس/ لندن/ نيويورك)، تماما كما الأمر في المدن الأكثر تصحّرا ورتابة، إذ بفعل الاقتحام الرقمي وقذائف الصور الحربيّة والايروتيقية Erotique ، لم يعد الواحد من البشر بمعزل عمّا يحدث هناك، لم يعد ثمة أصلا معنى للحديث، عن الماهيات الجغرافيّة، «الوطنيّة»، «القوميّة» و»الأثنيّة»، لقد تداخلت الأزمنة والأمكنة ومنظومة علاقات القرابة وتراجعت بفعل الاقتحام العولمي وكل الهويّات الجهويّة ، لنعيش ما يمكن تسميته وفق لغة إدوارد سعيد «زمن الهجانة الواعية واللاّواعية» وهو ما يدعونا فعلا إلى رسم مسافة نقديّة بيننا وبين المعيش اليومي وهو ما يبرّر راهنيّة هذا السؤال وحرقته، إذ هو في نهاية التحليل يطرح سؤال الحب كمعضلة تتعلّق بهوية الإنتظام الإنسي. (6) هذه الملاحظة تجعلنا نعيد النظر نقديّا تأزيميّا واندهاشيّا، في علّة وجود الحضارات وسبب انتظام الانسانيّة في المجتمعات والتساؤل أصلا عن مبرر وجود الديانات وكل ضروب التعاقد الاجتماعي المدني فنتبيّن: أن كل الحضارات من جهة التأسيس لم تطرح الكثير من الأسئلة وإنّما طرحت ست قضايا لا غير: * قضية معنى الحياة Le sens de la vie /قضيّة الموت /قضيّة الحب / قضيّة الحرب /قضيّة العدالة /قضيّة الحريّة والأزمنة المولّدة لمثل هذه الأسئلة الوجوديّة والأنطولوجيّة والمعرفيّة والأخلاقيّة والطبيّة، إنّما هي أزمنة الأزمات أعني زمن المنعطفات الكبرى التي تعيد فيها الذوات البشريّة، كل النظم علاقات القرابة ماديا ورمزيا، علاقة الأنا بالآخر والمرئي واللامرئي، علاقة الانسان بالمطلق الله أو الالهة، علاقة الانسان بالطبيعة (والمعضلة الإيكولوجيّة)، علاقة الإنسان بالتاريخ (معضلة الذاكرة)، علاقة الانسان بالمتخيل (معضلة الإبداع) ... وبذلك ندرك أهمية فعل الانتظام واعادة ترتيب العلاقة من جديد وفق أفق يتسع أو يضيق حسب الاعتبارات التي يريد الانبياء أو الرسل أو الساسة أو الفلاسفة التنصيص عليها، مضفين عليها طابعا من القداسة. (7) هذه الملاحظة تنسحب على الحضارة اليونانية، كما على الحضارة الرومانية والعربية الاسلامية والمسيحية،. وما نعيشه اليوم ليس الا امتدادا موجعا لما شهدته الحضارات جميعها من تفجير لعلاقة القرابة القديمة سعيا الى استبدالها بمنظومة علاقات قرابة جديدة. لنضرب مثلا اجرائيا : ان الحضارة اليونانية ممثلة بالفلاسفة الكبار وبالتحديد، اقصد أول فيلسوف بالمعنى التقني للكلمة، افلاطون قد طرح معضلة الحب في «محاور المأدبة « وفق تصور خصوصي للانسان ولمقامه في الكون، مؤكدا على البعد الروحي محتقرا الجسد معتبرا اياه، « لا يزيد مقامه عن مقام الزائل والعابر « هذه النظرة الكهفية للجسد وللاهواء والانفعالات والرغائب الحسية تتماشى مع تمجيده للعلوي وللسمائي على حساب الارضي، وبذلك نفهم ربما الاسف الأفلاطوني على كونه ابن انثي وهو لم يكن ليكون ابن انثى الا لعدم توفر الافضل. مع مفارقة عجيبة تتمثل في احتفال اليونانيين بالجسد الاولمبي، وعبارة «العقل السليم في الجسم السليم « انما هي شعار يوناني بامتياز. ومن هنا نفهم ربما لماذا اعتبر صاحب كتاب « أفول الاصنام « نيتشة، سقراطا «مجرما نموذجا» قد أجرم في شان الاحتفال بالحياة وأجرم في شأن الروح الدينيوزسية والإيروسية، وهذا الموقف السقراطي المدان نيتشويا أرجعه نيتشة الى علة ثابتة في سقراط، وهو أنه دميم وهجين وليس يونانيا خالصا، فكأنما أراد ذلك الحكيم «الشعبي « بالمعنى السوقي، ان يثار لدمامته من الجمال الجسدي la beauté physique فحول وجهة الحياة من الارضي، من الحيواني النبيل، إالى السمائي، الى اللامرئي.. من هنا نفهم البلاغ النيتشوي ضد الامر السقراطي :» لن ندس بعد الان الرأس في تراب السماء، لكن لنرفعها رأسا أرضية تعطي للأرض معنى... لقد أعدنا الإنسان ثانية إلى الحيوانية «. (8) نحتفظ من الحضارة اليونانية ممثلة في افلاطون بطرحها لقضية الحب، بما هو معضلة، وحتى الفلسفة اقترنت بالحب ومحبة الحكمة، غير ان الحب الذي هو علاقة انفتاح وانبساط وليس علاقة استحواذ وتملك في الارث اليوناني، قد طرحت كذلك في المسيحية بما هي ديانة، أقصد علاقة قَرَابةٍ مُؤَسسةٍ على الانفتاح على الآخر استنادا إلى ثابت رئيس وهو المقدس de sacré وما يستلزمه من تقنيات وتدابير وطقوس عبور بحثا عن النجاة le salut ، أليست عبارة « أحبّ وافعل ما شئت « دالة في هذا السياق. وليس غريبا مع ذلك أن تقصي التعاليم المسيحية الطهريّة، والمفرطة في طهريتها مقام الأهواء الصارخة، الى غياهب النسيان فلم تعد تحتفل بالجسد بما هو عنوان هوية حقيقية وانما انتجت ما يمكن لي تسميته «الجسد القربان، الجسد الأضحية «، في مقابل تمجيد استثنائي للماوراء وللروح وللامرئي (Invisible)على حساب المرئي (Visible) ، فيكون الحب ليس قيمة دنيوية تامة وانما قيمة أخروية قربانيّة وهو ما يفسر ربما الاحتفال الغريب بالجسد في حضارة الأنوار، احتجاجا سافرا ضدّ الكوجيطو الديني الإيماني وهو ما اطلقت عليه تسمية عودة المكبوت في الافق الحضاري الاوكسيدونتالي، مع التنصيص على مفارقة اخرى هو ان الحضارة العربية الاسلامية من اكثر الحضارات احتفالا بالجسد وبفروسية الجسد، اذ لم تفصل زمن قوتها بين قوة الجسد وقوة الروح، ويكفي فقط ان نستحضر عنوانا دالا وهو كتاب ا فحولة الشعراء ا للسجستاني، وكتب « الحلبة « وكل آداب الفروسية، لذلك نجد الحضارة العربية زمن انسداد أفقها قد تنكرت لمبادئها وأخذت تعصف بما تأسست عليه وهو الانفتاح والاحتفال على طريقتها بالحياة وإن كانت تستحضر جلال الممات. إن ثابت هذه الحضارة، أنها تأسست على قصف وتحطيم مفهوم العبودية والاستعباد ووأد الانثى وتكسير علاقات القرابة التقليدية، واستبدلت علاقات الطين (العصبية الدمويّة) الضيقة الأفق بحضارة الدين بالمعنى اللساني للكلمة، ذلك ان الدين انما هو في ماهيته رباط مقدس، ينبني على تصور خصوصي للحب. ففي هذه الحضارة طرحت ايضا معضلة الحب الذي يقترن تلازما بحب الاخر ذلك ان مجرد اعلان الايمان وما يستلزمه من طقوس ليس كافيا والمهم هو ليس التنظير وانما الممارسة، فالحب كما تقول العرب، «حالة من حالات الموت»، وقد ميزوا بين الحب والاشتهاء كما في كتاب «ذم الهوى» لابن الجوزي او كتاب «تزيين الاسواق باخبار مصارع العشاق» أو كتاب «المصون في سرّ الهوى المكنون». لكن هل يمكن ان يستقيم حقا وحقيقة أمر الحب بما هو فعل لا إغتصابي ( لا باسم الله ولا باسم المال ولا شرف السلالة) في أفق حضاري لا يستثمر من مخزونه القدسي غير تعدد الزوجات، استعاضة عن تعدد الخليلات او ريحانات الحانات؟ وهل يمكن ان يستقيم امر الحب مع الفقر المستديم؟ والتعاسة الموصولة؟ ألم يعلن اوفيد في كتابه « فن الهوى» : «ان الفقر لا يملك ما به يغذي الحب» ؟ الا تقول الحكمة في المتداول التونسي : «إلّي ما عندوش فلوس لا يعنق ولا يبوس»؟ ألا تفضح أغانينا العاطفية والعاطفية جدا، ما يمكن لي تسميته المناحات العاطفية والحب المفجوع ؟ أليست اعلانات الزواج ومؤسسات الخطوبة والتعارف البيروقراطي الآخذة في الانتشار الى جانب العيادات النفسية وحدها دالة على توعّك العلاقات العاطفية ؟ هل تترك حضارة السوق والجوتابل مكانا لما يسمى بالحب ؟ اليست قضايا الطلاق والعقوق الابوي والامومي ايضا دالة على ان المجتمع في المنعطف الحضاري الذي نعيش انما مقامه مقام العيادة السريريّة المتسعة الآفاق؟، أليست «خربشات» التلاميذ والطلبة والسكيرين والمجانين في الحانات، علامة دالة على تعطّل سير الجولان العاطفي؟ هل من الممكن أن تقوم سلطة سياسيّة ما، تيولوجيّة لاهوتيّة، أو ديمقراطيّة تنويريّة، أو اقتصاديّة عولميّة دون تحكم في الأجساد وتدبير للأهواء وتصريف للإنفعالات؟ إنه لسؤال معضلة حقا، ذلك ان العولمة بما هي ظاهريّا مجرّد اقتحام للأسواق، استبعاد كل أشكال الحواجز الجمركيّة انما هي غول إغتصابي لأكثر المواطن حميميّة... لقد كتب ميشال تيبون كورينيو كتابا دالا، موسوما «بالأجساد المحوّلة، مبحث في المخيال البيولوجي»، بيّن لنا ان اقتحام المغلق الجسدي إنّما هو الطريق الذي قاد إلى متواليات من المفتوحات جعلت التحكم في الجسد ممكنا، خاصة إذا أدركنا انه أصبح للاهواء والإنفعالات علوما قائمة بذاتها، من ذلك نتحدّث عن «كيمياء الحب»، وعن «بيولوجا الغيرة» كما نتحدث عن سوسيولوجيا الجريمة العاطفيّة. وإذا كانت الرأسماليّة القصوى إنّما تنبني على المردوديّة La rentabilité فإننا نعيش انقلابا علائقياّ على جميع المستويات وخاصة على مستوى ما عاشت الانسانيّة لزمن طويل على اعتباره حميميا ومقدّسا وغير قابل للإستثمار بالمبادلة أو الإيجار. (9) لقد اقتحم فعل «التتجير» والاستثمار أكثر جغرافيات الأهواء التصاقا بالذات الإنسانيّة، من ذلك اننا مررنا من الامومة الرحميّة البيولوجيّة وقداستها إلى الأمومة الانبوبيّة فحتى الجثة يجب رسكلتها وبيعها كقطاع غيار لذلك لم يعد الحديث عن الحبّ بما هو كفاءة عاطفيّة ممكنا في زمن تفتيت الهويات البيولوجيّة والنفسيّة. (10) إن هذا السؤال سؤال الحب زمن العولمة يفتح تلازما على سؤال آخر يتعلّق بانتصار ما يسمى «دونجوانية البضاعة» إذ مجرد التلفظ باسم دون جوان يجعلنا ندرك انتصار الغواية ومديح الخيانة، ليس فقط بالمعنى الاخلاقي وانما بالمعنى الجمالي أيضا،...كما يفتح سؤال الحب، على سؤال العزلة ذلك ان انسان ما بعد الحداثة انما هو انسان العزلة بامتياز. لقد كتب رولان جاكار منذ الثمانينات من القرن الميّت، كتابا دالاّ من مجرّد عنوانه «المنفى الداخلي» انطلق فيه من بعض الاحصائيات الرسميّة في كلّ من فرنسا وأمريكا، تتعلق بعدد الحيوانات من الكلاب وقطط تعيش في المجتمع الفرنسي وأمريكا، متسائلا عن سرّ الهيام بتربيّة الحيوان، منتهيا إلى أن الإنسان الغربي وأمام شعوره بالعزلة القاتلة، سعى من خلال تربية هذه الحيوانات إلى «تأثيث عزلته» (meubler sa solitude) ، فكلما انتصر الطاناتوس (إلاه الموت) إلا وشاهدنا فائضا من الادب المحتفل بإيروس (إلاه الحبّ) وليس صدفة ان ينهي فرويد كتابه «قلق في الحضارة» برجاء في مقام الأمنية، هل يمكن للحضارة أن تتصالح مع الحب، معبّرا عن شكوكه في أن الأوان قد آن لمثل هذه المصالحة، خاصة وأن «ايريك فروم» بدوره قد كتب كتاب «فن الحب» ومقامه زمن الرأسماليّة وكتابا آخر، يحمل عنوانا دالا «الكينونة والتملك» ملحّا على أننا مررنا بفعل الاغتراب اللاواعي من الاحتفاء والاحتفال بالكينونة إلى جحيم التملّك ويكفي فقط ان ننتبه سيميولوجيا وثقافيا، إلى «مجتمع الفرجة» لندرك للتوّ أنه يركّز لغته على منطق التملّك والاستحواذ والانانيّة المفرطة الفاحشة في افراطها، فلا نقول مثلا:»لقد ذهبت إلى الطبيب بل لقد ذهبت إلى طبيبي»، ولا نطلب من النادل أن يأتينا بقهوة وإنما أطلب «قهوتي» ولا نقول ذهبت إلى المحامي، بل ذهبت إلى محاميّ، فكلّ أفعالنا بطريقة لا واعية تحيل إلى مرْكَزة الكل وسوقه في اتجاه الأنا التي فعلا تريد أن تؤثث عزلتها وتهرب من غربتها لا بتأسيس علاقات قرابة حقيقيّة مع الآخر الشبيه وإنما مع الأشياء فتصبح السيارة أهم من الزوجة، ويصبح المصرفي أكثر حضورا من الأب ويصبح «الفيبراتور» أهمّ من الزوج كما ورد الأمر في رواية شيكاجو للروائي المصري علاء الأسواني هكذا بإمكاننا تشخيص استفحال العلاقات الاغتصابيّة العنيفة بين الذوات البشريّة إن محليّا أو كونيّا. (11) إن السؤال عن مقام الحب في زمن العولمة بقدر ما فاجأني شخصيّا آلمني لأني أحسّ في أحيان كثيرة بأنّ « قلبي مستّه بعض التجاعيد « وفق عبارة « مادام ديسيفيني» الأديبة الفرنسيّة بالرغم من أنها تنفي أن يمسّ القلب التجاعيد... لقد تبيّن لي وبشكل كارثي أن اهتمامي بالكتب مثلا ليس اهتماما عاديا وانما مقامي مقام اللاجئ العاطفي وأن اللجوء العاطفي إلى بلد ما أو إلى مكتبة ما، أو إلى سائل مسكرما، إنما هو أخطر أشكال اللجوء السياسي و أكثر، لقد نبّهني هذا السؤال عن الحبّ إلى انجذابي اللاواعي غالبا، إلى المدوّنات والدواوين الشعريّة والروائيّة بفعل تصحّر عاطفي... (12) لقد قدّمت ديوان العراقي علي حبش بعنوان أكثر دلالة مما سبق قوله وهو «صيدليّة عاطفيّة من أجل قيامة الحواس» « القلب كلمة مكروهة تذكرني بعمليّة جراحيّة» وأكثر، إذ يقول أيضا « الأصدقاء حصاد خريف نصفهم رحيل ونصفهم ندم» وأكثر، إذ يقول «كلما رأيت سيّارة مقلوبة، تذكرت أحلامي» وأكثر،» حبيبتي قميصها ميّت قربي وأقدامها في قارة أخرى»... فأي حبّ مفجوع أكثر من هذا الحب !! كما قدمت ديوان « الكنعاني المغدور بعنوان :» بيان عصيان عاطفي»، وقدمت ديوان: «أشياء ضذّ بياض الحرف» للشاعر الراحل جمال الدين حشّاد بعنوان «شعريّة اللائل والوَائل ضد الأمية العاطفيّة» وأكثر من ذلك لقد كان سرّ انجذابي لأدب أحلام مستغانمي مثلا منذ «الكتابة في لحظة عري» مرورا ب»ذاكرة الجسد» و» فوضى الحواس»، وصولا إلى «عابر سرير»، إنما يعود إلى أنها تدوّن بأناقة متناهية وبجمالية عالية، وبحسّ مرهف لكوارثنا العاطفيّة المعمّمة ولحبّنا المفجوع، إن على مستوى علاقة قرابتنا بالوطن أو الثورة أو بمن نحب، فإني أعتبرني لاجئا عاطفيا مع أدبها إذ ثمة تواطؤ سرّي غامض وعابث بين ما أعيشه شخصيّا وبين مكتوبها الحبري تكتنفه شجون لا تنضب وهو مع ذلك مفيد لأنه يذكرنا بأنه مازالت لنا رغم التنكاد قلوب تخفق وأعين تدمع. (13) الآن وقد توغّل الليل في بعضه كأنما يتردّد صوت أكاد اعرفه: « وَإذَا أنت لم تعشقْ ولم تدرٍ مَا الهوَى فأنتَ وَعيرٌ في الفلاة سواءٌ» لا أظن الشاعر الكوفيّ يقصدني إذ سمعت صوتا آخر لامرأة: « رأيتُ الهوى حلوًا إذا اجتمعَ الشملُ ومرًّا على الهجرانِ لا بل هو القَتلُ ومن لم يذقْ للهجر طعمًا فإنه إذا ضاقَ طعمَ الحبِ لم يدر ما الوصلُ وقد ذُقت طعمهُ على القربِ والنوَى فأبعده قتلٌ وأقربهُ خبْلُ» هكذا ورد في الأوراق القديمة عن واحدة من جدّاتي الدمشقيات وأظنها تقصدني فتهت بين طيّات الغيوم !