قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحّالة الصّبّ في مَغَاني حلب
بقلم : د. الطاهر الهمامي
نشر في الشعب يوم 30 - 06 - 2007


أحنّ... إلى ظلّها وثراها وأركض أبحث عن ملعبي
أحنّ إلى ليلها وسُراها إلى وجه أمي وثوب أبي
إلى صبحها الأرجوانيّ.. أهفو إلى حمرة الفجر والمغرب
إلى شَمّ أنفاس تلك الأماسي وضمّ أضاميمَ لم تُقْرَب
أنا متعبٌ من صَغار الصِّغار وبي من نِصَال الزمان وبي
صَلاَني الهجير وظَلْتُ أطير بلا مهرع وبلا مهرب
وها جئتُ يا أخت مستصرخا إلى مشرق الشمس من مغرب
فوا حرَّ قلباه واحلبَاهُ لقد غرق الماء بالمركب
بهذه القطعة استهللت أمسيتكَ الشعرية في حلب الشهباء مساء السبت 21 أفريل 2007 وأنت تزورها للمرّة الرابعة وكأنك لم تزرها . وكنتَ قد وصلتَ بعد منتصف ليلة سابقة وما إن نزلت مطارها حتى نزلتْ عليك أنسامها بردا وسلاما، واستسلمت لها، وأرخيت عنان الروح لعناق الأرض والسماء. وكان ذلك الفجر فجر ذكرى عيد الجلاء عن سورية الأبية فقلتَ في نفسك : ما أدلّها صُدفة، وما أجلّه ميقاتا، فالوطن والوطنية والعزة القومية والاستقلال والسيادة احتفظت بمعناها في آخر معاقل العروبة وهو على مرمى أساطيل الغزاة من جميع الجهات، وبعض أرضه محتل.
تفحصتَ وجوه المستقلين وأنت تدخل بلا تأشيرة لم تَجِدْ من بانتظارك قلت : هؤلاء كلهم في انتظاري قبل أن تُكلّم سيد الشهباء الذي كان يحسب أنك نازل فجر اليوم الموالي وأسف على فوات فرصة الاستقبال ودلّك على فندق الإقامة حيث حططت الرحال وأخلدت لنوم عميق بجوار القلعة الشمّاء لم يقطعه إلاّ آذان الفجر، نقيا شجيّ النبرات متعدد الأصوات والنغمات.
قمتَ من الغد ورحت تتمشى وحدك عبر المماشي الملتوية المفضية بك إلى شارع محيط القلعة. سرت مع الشارع الدائري تتفقد المناظر وتتفرس في ما تعتقد أنك رأيته ذات زَوْرَة. وكانت الأعمدة وواجهات المحلات مزدانة بصور ملوّنة ومكبرة وجذّابة لمرشحي ومرشحات انتخابات مجلس الشعب المزمع إجراؤها نهاية الأسبوع وكانت آثار ما يزيد على السنة من احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية ما تزال ماثلة على الأبواب والجدران وفي كل مكان، وقد تظل إلى سنوات تُذكّر بالحدث الكبير. وكنت تملأ صدرك بذلك الهواء الصباحي وأنت على يقين من كونه الهواء الذي تنفسه قبلك أبو الطيب وأبو فراس والبحتري وأبو العلاء والصنوبري، وعَمَرَ به صدر سيف الدولة الحمداني وتزوّده وهو يخرج إلى ملاقاة الغزاة والذود عن الثغور.
كنت وأنت تصحو قليلا من نومك في الهزيع الأخير، ليلتها والليالي التوالي، يتناهى إلى سمعك نهوض الديكة ويطربك تطريبها، ينسكب في أذنك ويسري في وجدانك، فالديك والكلب والحمار والفرس والقط من رفقاء طفولتك، وبعضها ما يزال يرافق رحلتك بصوته أو حضوره - ولعل أعجب ما في الأمر هذه اللغة التي يتخاطب بها الديكة والعابرة للأجناس والجنسيات والقارات وشدّك أيضا سكوتها تدريجيا عدا صوت واحد يبدو أصفاها وأنقاها يظل يشق السكون على نحو موزون ويرتفع ليذكّر العالم بأن الصبح قريب وأن الحياة تتلو السبات.
أبى أهلك إلا أن تظل ضيفا عليهم ما أقمت، وأدركت عمق العلاقة التي نسجها شعرك وفكرك وشخصك وما خصصت به المحروسة من وجدانك ولسانك.
* على إيقاع النشاط اليومي لجمعية العاديات
العاديات جمعية ثقافية تراثية نموذجية بكافة المقاييس. ميلادها الذي يعود إلى سنة 1924 جعلها أقدم الجمعيات من نوعها في الوطن العربي، ومنخرطوها نوعيون وبالآلاف، ولها فروع في المحافظات، وحين تدخل مكتب رئيسها الأستاذ محمد قجة وتجلس قبالته ترى صور الذين تعاقبوا على رئاستها منذ ذلك التاريخ وباسمها تصدر مجلة فصلية، وأخرى حولية بالاشتراك مع جامعة حلب. أمّا أنشطتها فمتنوعة ومنتظمة بعضها عروض فنية وفلكلورية مختلفة وبعضها زيارات ميدانية لمواقع أثرية على سبيل الدراسة والسياحة وعدد هذه المواقع في محافظة حلب يفوق ال400 وما زالت 22 بعثة أجنبية تنقب وتعمل، وبعضها محاضرات في التراث المعماري لمدينة حلب، وترسانة الأوابد التي خلفتها على أديمها عشرون حضارة متعاقبة، وفي هذه رصيد المدينة من عصر النهضة أعمالا وأعلامًا. ويسّر لك الأسبوع الذي اختلسته من الدهر هناك أن تواكب إيقاع النشاط اليومي لجمعية العاديات، وتحضر بعضه وتعاين نشطاءها على الميدان وإن كان مقرها لا يفرغ من الزوار خصوصا ورئيسها يتولى أمانة احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.
حضرَت محاضرة ألقتها سيدة في الخصائص المعمارية لمدارس العهد العثماني بالمدينة، وحضر جمهور من أجيال مختلفة ولفت انتباهك الجد الذي طبع النقاش بطابع التدقيق والتحقيق، والتصحيح والتوضيح، ورأيت شيوخا طاعنين كانوا يرابطون لمتابعة المحاضرة. وحين كان الحضور يخرجون رأيت العديد يتأبط العدد الجديد من االعاديات.
وأبى الأستاذ محمد قجة إلا تشريكك في زيارة ميدانية لعدد من المعالم الأثرية كانت مبرمجة لذلك اليوم الذي كان عطلة أسبوعية (الجمعة 20 أفريل) وكان الوقت صباحا واللقاء بإحدى الساحات المتاخمة للقلعة.
حين وصلت صحبته كان المشاركون قد وصل بعضهم وظلوا يتقاطرون على المكان من الجنسين ومن أعمار متفاوتة، حتى اكتمل النصاب وتحركت القافلة سيرا على الأقدام. وكانت المواقع الأثرية والمعالم التاريخية التي نقطعها سالكين دروبا تضيق وتتسع، تستوي وتلتوي، كثيرة إلى حدّ أني لا أكاد أذكر الآن إلا الرجل المهيب وهو يهمّ بالجلوس على كرسي أُعِدّ له كلما توقفنا ثم وهو يتولى بصوته الجهوري النقي وعلمه الجَمّ شرح هوية المعلم أو الموقع وتفكيك رموزه والإحاطة بملابسات تشييده والأطوار التي مر بها حتى وصل على تلك الحال، وتصحيح بعض المعطيات والأحكام ومناقشتها أحيانا. وأذكر أنه حين وصل إلى موقع بيت المتنبي ظل واقفا وهو يشرح واستحضر وهو الحفّاظة العجيب، بعض عيون شعر أبي الطيب وخص من ذلك ما قاله في عيون لا يمكن أن تكون إلا عيون خولة أخت سيف الدولة وأبَى إلاّ أن يمهد الجو كي يقترح عليك إنشاد حلبيتك التي استأنفت بها مطلع المتنبي حين يقول :
لعينيكِ ما يَلْقَى الفؤادُ وما لَقِي
وللحُبّ ما لم يبقَ منّي وما بقي
وتضيف أنت :
لعينيكِ حجّي الشامَ، حِلّي ورحلتي
وحرُّ تباريحي، وهذا الهوى النقي
وتختم بعد طواف وتطواف بالقول :
أنا اليومَ قد أكملتُ فيكِ قصيدتي
ولم أجْلُ ما يلقى الفؤاد وما لقي
وعجبتَ كيف كان الرجل ماضيا في تلاوتها دون تعثر وهو الذي سمعها سماعا وأنت صاحبها الذي تعذر عليه ذلك ألم تَقل إن صاحب العاديات قادم من عصر آخر رجَّحتَ أن يكون عصر الجاحظ وابن قتيبة وأبي الفرج وأبي تمام وبديع الزمان وأبي حيان، والفارابي وابن سينا.
كان ذو السابعة والستين، الكامل البنيان، المُشْرب شُقْرة، الأنيق دوما، وهو يتوسط القافلة أو يتقدمها ويسير بها الهوينى ثم وهو يهمّ بالجلوس على الكرسي الذي تَخِفُّ بوضعه يد لا تراها، ثم وهو يرسل الكلام سلسا سلسبيلا ومرافقوه يصغون إليه إصغاء المريدين، أشبه بالراهب في قدّاس. ملتَ نحوه وقلت ونحن نمشي : بوركتْ هذه الذاكرة، كيف استطعت ذكر التواريخ الهجرية ومقابلها الميلادي كلما احتجت إلى ذلك دون عناء؟. وعديدة هي الأوابد التي أزَارَكها أو كلف بك من أزاركها أبوابا وخانات وجوامع ومدارس وبيمارستانات وأسواقا ودورا وقصورا ومرافق غيرها وكل مَعْلم ينطق بالتاريخ والعصر الذي وجد فيه وكأنه البارحة، ومن أعجب ما رأيت أمر ذلك البيمارستان الذي هو بمثابة كلية طب ومشفى لجميع الأمراض وخاصة العصبية في زمانه (بحث، تحليل، فحص، جراحة، صيدلة...) وكنت ترى داخل غرفه وقاعاته المجسِّمات من أطبّاء وأدوات وآلات، ومن مرضَى ممددين تحت الفحص والجراحة وهم بأزياء زمانهم وعلله وأدوائه، وقد مرّ على ذلك ثمانية أو تسعة قرون (في هذه اللحظة وأنت تخط الكلمة الأخيرة من جملتك خطر لك أن تتفقد المطبخ ولمّا دخلت وجدت شايك الأخضر الذي كنت وضعته على النار تعِدّه بصدد الاحتراق، والدخان في كل مكان، وتلك جناية الغفلة يا ولهان...)
* سحر التعايش، فتنة التنوع
ما إن تطأ قدماك تربة حلب حتى يعترضك المشهد السكاني المتعدد الألوان والأطياف، ما بين سُمْرة مُشْربة شقرة وشقرة مشربة حمرة، وأقوام وأديان على اختلاف المذاهب والطوائف وترى الكنيسة بجانب الجامع، وتلمس تنوع العادات والتقاليد في الملبس والمأكل والمشرب والحزن والفرح والتعبير الفني. بيد أن هذه العناصر المختلفة المكونة للمشهد الحلبي، والشامي عموما، الشريكة في بناء ماضيه وحاضره استوعبتها العروبة واحتضنت ثراءها وعطاءها وألّف بينها العقد الاجتماعي الذي اتّسع لاختلافها وائتلافها، وعجبتَ حين علمتَ أنّ بعض فئات المجتمع استطاع أن يُحقق حلم التسوية في الإرث بين الرجل والمرأة، على سبيل المثال، وكنتَ تقول لصاحبك وأنت في حلب أو في دمشق : طوبى لكم بهذه التركيبة المباركة التي أغنت المشهد وفرضت التعايش والتسامح وجسدت الأخوة الإنسانية. بل وكنت تتحسر في قرارة نفسك من أن مجتمعك ليس كذلك.
وكنت ترى المارّات على اختلاف أزيائهن، سافرات ومُحجّبات، والحِجَاب أشكال وألوان وإن غلب عليه البخنق وخلاَ من مكر التسييس لأنه زيّ تقليدي عريق، ويبدو كما لو كان للزينة والفتنة، وقد ترى مارّة بلباس أسود فاحم وبرقع يغطي وجهها كاملا الفم والأنف والعينين، وهو ما لم يَرُقْ لك، ولن يَرُوق.
وللحلبية، وعموم الشامية، احتفاء خاص بالمُحيّا والعيون، والجفون، ولقد رأيتَ ما جعلك تدرك أسرار العديد من مفاتن الغزل العربي، ومن الموعود بهنَّ في الجنة، ولم تدر كيف وجدتَ نفسك تدندن بقول أبي الطيب في قافيته :
وما كنتُ ممن يدخل العشق قلبه
ولكنَّ مَنْ يُبصرْ جفونكِ يَعْشَقِ
وفهمتَ علام كان الشاعر يشكو من المليحة الخمار الأسود حين وقفت له بباب المسجد وقد لا تُبْقي لك فتنة المُحيَّا قوة تلوذ بها من سطوتها عليك سوى أن تتسلى ...(كنتَ عند هذا الحدّ، تكتب وتشطب، وتشطب وتكتب، مخافة أن ينزلق قلمك بما يورطك مع بعض ابنات عجاجب في مغاربك)..
والفتاة العربية التي رأيتها في أم المدائن، زانها ما اجتمع لها من بهاء الخلقة ورقة المحادثة، ولطف المعاملة، ورجاحة العقل، ولنساء حلب باع في الأدب والفن والصحافة والقضاء والتعليم والصناعة والتجارة والإدارة، وفي سياسة القول والقوم معا، ولا غرو فهن سليلات الملكة الضيفة خاتونب التي حكمت حلب في الفترة الأيوبية والتي أعاد إليها حضورها محمد جة في عمل مسرحي غنائي راقص شاهدنا عرضه عند الاحتفال بختام الاحتفالية ولم يُخْف الرجل أنه تقصّد إكرام المرأة ولا نشكّ في أنه كان أيضا يكرم رفيقة دربه، ذات الشخصية الرفيعة.
* أمسية الشعر والعزف
ولعل أهل القدود الحلبية بالفنون، وبالموسيقى والطرب تحديدا، أمر لا يخفى عن زائر، وليس عجيبا أن ترى في كل بيت تزوره آلة طرب، وأن تضم كل أسرة عازفا أو أكثر، من هذا العمر أو ذاك، وأن تلمس هواية الفن أو غواية الكتابة في شخصية الطبيب والمهندس والمحامي والقاضي والجامعي والتاجر والصناعي والسائق، والشاب اليافع والفتاة الغضة، والشيخ المسن، وإنك لتزور حلب وأنت تشتهي أن تَسْمَعَ وتُسْمِع وتتمنى لآخر ما كتبت متذوقا حلبيا يستقبله وذلك لقناعة عندك بأن البلاط الحمداني ما زال يُذْكي شهية السماع وبأن مدينة أبي الطيب هي المدينة الشعرية الأولى في العالم، وبأن أناسها محظوظون ومن معدن خاص.
كان مُعدّا لك أن تُلْقِي في مسرح مديرية الثقافة، وألقيت، ورافق إلقاءك عزف رقيق على العود ترجم أشواقا قد تكون الكلمة دونها، وحضر مستمعون نوعيون هم في الغالب أصدقاء وصديقات من داخل الجامعة وجمعية العاديات. واستهل الأمسية أبو البيان محمد قجة الذي غمرك بعبارات الترحيب والتكريم، وأطلقت العنان بعد ذلك لتباريحك وكنت تتمنى لو أن حلب قاطبة وبلاد الشام جمعاء، كانت تسمع، إلى أن عسعس الليل وحان حين قطع الإنشاد وقطع شوط آخر من رحلة الوداد.
* بقية حياء ... !
ليس المقصود عندك بالحياء ما يختلف الناس في معناه المكرس للخضوع، خضوع الأنثى وخضوع الأصغر والأضعف، بل ما تعنيه هو أوّلا التقدير الذي ما يزال المجتمع الشامي، والحلبي خصوصا، يخصّ به العالٍم، والعارف، والجامعي، والكاتب إلخ ... فما تسمع إلا ياأستاذ ويادكتور وبحضرتك وبتفضلك وبشرّفت وبتكرم عينك وبتسلم إيديك إلخ... تجري عفويا على ألسنة المتخاطبين، وتذكرتَ وأنت مذهول ما دأبْت على سماعه في ربوع أخرى من ايامدير ويا حاج تُرْمى جزَافا واستخفافا، وقلتَ في نفسك، وأنت ممّن لا يحب الألقاب ولو كانت علمية : بعضهم يبغض بعضا حتّى على ثمرات كدّه وتحصيله، وتضيق صدور بعضهم بمكانة بعضهم العلمية والأدبية (إذا أدركوها ) ولو استطاعوا ما أبقى بعضهم لبعض ريشة واحدة، فأضحى الواحد منهم يواري لقبه الأكاديمي كما لو كان سَرقه أو جاءه هدية ومِنّة. وتذكّرت رئيس تحرير تلك الأسبوعية ذات يوم حين رجاك، وعلى سبيل الأخوّة عدم إحراج زملائك الصحفيين بتلك (د) وتنفس االسّعداء حين وجدك غير حريص على وضعها أمام اسمك، وكنت تضحك في داخلك وترثي لحال هلال.
أمّا وجه الحياء الثاني فهو انتفاء ما يخدش الأذن ويكسر الخاطر من خطاب الناس في شارعهم وعموم حياتهم العامة. لم تسمع قذيفة واحدة من شتيمة أو تعيير ولم ترَ أحدا يتحفّز للسطو على أحد أو يرمي بأوساخ لسانه مارّة أو يستنفر قاموس نصفه الأسفل أو يرشق دين أمّ صاحبه براجماته. وحين كنتَ تنزل من سيارة صاحبك قلت له : كيف تترك نظاراتك على مرمى عيون المارّة ومحفظتك تنادي خذوني ... ؟ قال وهو يضحك كالمشفق : دعها يا رجل ... نحن اعتدنا ذلك ولن يحدث مكروه، بالليل أو بالنهار ! قلت في نفسك : ليسوا ملائكة على كل حال، ولكن يُحْسدون على بقية حياء، لعلها سليلة تلك الحضارات العظيمة التي مرّت من هنا، وتوجتها الحضارة العربية، وأنت الليلة ستنام في أكناف أزهى حواضرها، حلب المحروسة، نومة لم تنمها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.