في الوقت الذي تقوم فيه منظمة العفو الدولية بحملة عالمية حثيثة للتصدي لعقوبة الاعدام وللدفع باتجاه انخراط مزيد من الدول في إلغائها، أمضى أكثر من ثلاثمائة سجين إيطالي يقضون عقوبة مؤبدة بسجون مختلفة في ايطاليا. عريضة يطالبون فيها سلطات بلادهم بالتراجع في الغاء عقوبة الإعدام وتمتيعهم بفضائلها ! وقد علل هؤلاء المعتقلون مطالبتهم في عريضتهم معتبرين أن الحكم مدى الحياة هو موتٌ يومي بطيء وأنه بهذا المعنى مدعاة للألم والتعب والارهاق، وأنهم يفضلون الموت دفعة واحدة حتى ينعموا براحة معنوية تدرأ عنهم غبن السجن وفظاعته ! فالسجن في منطلق بداياته كانت وظائفه تتمثل أساسا في اعتقال المرضى عقليا بما يضمن عزلهم عن المجتمع، ولم يفت المفكرين الذين اهتموا بالسجن كظاهرة اجتماعية، ولاسيما ميشال فوكو في كتابه «المراقبة والعقاب» الذي أبدع في مواكبة تطور المؤسسة السجنية من حيث وظائفها وانتهى الى نتيجة أن نجاعة المؤسسة في بعدها العقابي لم تأت بثمارها. وطور جيل شانتران من ناحية بفضل منظور علم الاجتماع للتجربة السجنية بأن اعتبر الفضاء الإعتقالي من زاوية تخصصه في سلب حرية غير المرغوب فيهم اجتماعيا، والفقراء والثائرين. ولئن اختلت المؤسسة القضائية في الغالب في المتطور الحديث بحق ايداع الاشخاص في السجون، فان حالات أخرى للحرمان من الحرية بإمكانها حسب البلدان أن تحدث على أيدي سلطات أخرى مثل قوى الأمن والجيش والديوانة... وأهم ما انتفع به الفضاء الاعتقالي هو هذه الأنوار التي أضفتها الحركة الحقوقية على هذه المؤسسة بما ساهم في «أنسنة» مجالات ظروف الاعتقال الى حدود اختلفت لامحالة من بلد الى آخر، ولكنها مع ذلك بصدد الأسهام في تطوير هذه الظروف نحو الافضل. وتعمل جمعيات مستقلة مثل جمعية مراقبة السجون الدولية على مواكبة مختلف أوجه تطبيق الاحكام في علاقة بالحاجيات والحقوق الانسانية التي لا مناص منها. كما عمد مفكرون وباحثون من أمثال مارتين هارزوق إفانز أوريك بيشون وجان بول سيري علي بناء منظومة حقوقية سجنية تضمن مراقبة كاملة لظروف الاعتقال كما تتضمن تفكيرا نقديا بمعنى العقاب. ولعله من الأهمية استحضار ما قاله المفكر الفرنسي الحرّ ألبار كامو: «إن الحكم على مجتمع يرتكز على أساس حالة سجونه» وكذلك قولته:»إن دولة القانون لا ينبغي أن تتوقف عند باب السجون». وفي أواخر سبعينات القرن الماضي تكوّن في فرنسا على أيدي مثقفين من قبيل ميشال فوكو وبيار فيدال ناكي «نجمع الاعلام حول السجون» GIP وانطلاقا من هناك كوّن السجناء القدامى والمعتقلون « لجنة العمل للسجناء» C A P» بهدف الدفاع عن أفضل الظروف الانسانية للاعتقال والتنديد بأقبح الممارسات التي لا تخلو منها المؤسسات الاعتقالية الفرنسية. وتأسيسا على ما تقدم فرغم كل التحسينات التي شهدتها المؤسسات الاعتقالية على اختلاف درجاتها في هذا البلد أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك فإن السجن باعتدائه على حريات انسانية أولية، وباعتباره وسيلة لتحطيم الارادة الانسانية باستفزازيته المقيتة وآعتداءاته التي لا تعد ولا تحصى، يبقى مؤسسة وحشية مختلفة. ورغم كل ما تختزنه المفاهيم السجنية من غُبن وتطاول على انسانية الانسانية، فإن عقوبة الاعدام تظل مفهوما حاملا لمنطق الشماتة والتشفي والاقتصاص بما هي مفاهيم تاريخيا وليدة ظروف بنى فكرية لا علاقة لها بهذا الزمن وبما كرسه الجهد الانساني من مكتسبات حضارية ومضامين فكرية تقوم فيما تقوم عليه : أن مبدأ الحياة بما هي حقّ طبيعي جوهري ليس من صلوحيات أي كان أن يطالها اعتداء ونفيا وإنكارا ، لأن حكم الاعدام هو عقوبة قاسية، لا إنسانية ومحطة للذات البشرية، وهي فوق هذا كله عقوبة نهائية وباتة، وغير قابلة للتراجع والتعديل ما دامت تودي بالحياة بصفة قطعية وقاطعة. وقد عاش تاريخ القضاء الانساني في أكثر من بلد وأكثر من عصر نماذج غير قليلةمن الاخطاء القانونية التي نتجت عنها احكام بالاعدام تم تنفيذها في اصحابها بدون وجه قانون وشرعي ، ولما سطعت شمس الحقيقة لم يبق من مجال للتدارك والتقويم ! ودفع الابرياء حياتهم كلها ثمنا للخطأ القضائي البشري. وفي مادة الاحكام ذات الصبغة السياسية بالتحديد يكتسي حكم الاعدام خطورة اخلاقية وقانونية ترقي الى صف الجريمة النكراء، ذلك أن الخلافات السياسية، أيا كانت حدّتها، لا تبرّر بأي وجه تصفية الخصوم السياسيين بدعاوى تغلفها اليافطات السخيفة من قبيل التآمر على أمن الدولة وتعكير صفو الأمن العام وما شابه من الحكايات التي تتخفى وراء كلمات في ظاهرها الشرعية وفي باطنها الحقد وارادة التصفية السياسية بوسائل غير سياسية. وبقدر ما مثلت تصفية عبّان رمضان والمهدي بن بركة وصالح بن يوسف أخطاء سياسية شنيعة أتاها مدبروها على خلفية ضيق صدورهم وخوفهم من أن تنقلب مقولات خصومهم ضد سلطتهم، بقدر ما كانت تبريرات القاتلين سطحية وواهية وغير ذات معنى. وهو ما زاد في تأكيد حقيقة أن موت هؤلاء المناضلين وغيرهم كثر مثلت بلا منازع خسارة سياسية ونضالية لا جدال فيها، وقتلا مقيتا لعلامات اعتبارية ورمزية في أوطانهم. وأيا كانت اعتبارات الحاكمين لتبرير نفيهم لحياة خصومهم بجرّة قلم بسيطة فإنها لا تستطيع ان ترقى الى اقناع الآخرين ذاتهم، فضلا عن أنها لا تجدُ بعد بضع سنوات من وقوعها من يملك الجرأة والشجاعة للدفاع عنها وتحملها سياسيا واخلاقيا! وكم حكم مارس هذه العادة القبيحة، ولاذ وراء الصمت تكتما وجبنا لانه لا يسنطيع ان يواجه الناس عاري الوجه ناصع المنظر، فهو يعرف ان ما أتاه ليس أقل من جريمة بما في الكلمة من معنى ومن قبح ! كم هو شاسع البون الحضاري بيننا وبين المفكر الفرنسي فولتيرفي قولته العظيمة : «إني أخالفك الرأي، ولكني على استعداد للموت من أجل أن تنعم بحقك في الإصداع برأيك»!.