قال معاوية لقريش : ألا أخبركم عني وعنكم ؟ قالوا بلى ... قال فأنا أطير إذا وقعتم و أقع إذا طرتم و لو وافق طيراني طيرانكم سقطنا جميعا ... و قال معاوية لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبدا قيل له و كيف ذلك؟ قال كنت إذا شدوها أرخيت و إذا أرخوها شددت و قال في مقام آخر إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ... (2) و قال رجل لهارون الرشيد : «يا أمير المؤمنين أريد أن أعظك بموعظة فيها بعض الغلظة فتحملها .قال الرشيد كلا أن الله أمر من هو خير منك باللين مع من هو شر مني قال لنبيه موسى إذ أرسله إلى فرعون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى .» (3) من المؤكد أننا تجاوزنا منذ عقود الكتابة في السياسة على طريقة مؤلفي «الأدب السلطاني « حين كان القول في هذا الباب لا يعدو نصح أولي الأمر أو تزويدهم بمداخل الحيل و تذكيرهم بالواجب الأخلاقي عبر إغراءات الشعار البراق. أصبح القول في السياسة على عهدنا علما قد نختلف في مقدار صرامته و لكننا نتفق على تمييزه عن فنون الخطاب الإنشائي ... أصبح تدبير الشأن العام أو المطالبة بحق المشاركة في تدبيره فعلا عاقلا مؤسسا على حصافة التفكير في مقومات الواقع و توازناته ... لم يعد الأمر فهلوة أفراد استثنائيين أو شخصيات موهوبة ... ملائكة تنزل من ملكوت القداسة أو أبالسة غادروا جنان الخلد ... السياسة فن مقعد و أن يكون للفن قواعد فهذه مفارقة لا بد من استيعابها ... (4) حين غادرت أرضنا العربية ذات أيام من منتصفات القرن المنصرم جحافل الغزاة تسلمت مصائر شعوبنا نخب من أبنائها ... متنوعة المشارب و المنطلقات ... فيها الطالع من جامعات الحداثة المشرقة و فيها القادم من جبهات الجيوش و فيها الناشئ في بيوتات المجد التليد ... رئيس أو ملك أو أمير ... أنواع و أشكال مشاريع و رؤى ... لبرالية أو اشتراكية أو شبه شبه... قامت دولنا الوطنية و هذا مكسب ... قامت مؤسسات تعليم و نتأت أجنة إقتصاد وطني و تشكلت ملامح مجتمع وليد بأمنه وخوفه بشبعه و جوعه ... بعدله و ظلمه وتقدمه و تراجعه ... انتصارات و انكسارات ... نصف قرن ملأته تجاذبات حرب باردة مشينا فيها حكاما و شعوبا بين حقول الألغام ... هكذا نحن كنا و كانت أيامنا ... (5) منذ أواخر قرن راحل اتخذ صاحب القرن الوحيد مكانه على جثث الشعوب المولى على مصائرها ... خصوصا بعد أن سقط جدار و انهارت إمبراطورية الشرق الاشتراكي ... عندها ظهرت معضلتنا نحن العرب حكاما ومحكومين ... بعض نخبنا الحاكمة ظهرت و كأنها لم تغادر مرتبة الأب المالك للمطلق ... عاملت رعاياها مثلما يعامل بطريارك ينطق باسم الأزل شياها بكماء ... صماء ... لا تعقل ... بعض من نخبنا الحاكمة فكرت و قررت و أنجزت ... قربت و أقصت ... والت وعادت ... أحبت و كرهت ... أممت وخصخصت حولت انجازاتها إلى فتوحات و قدمت هزائمها في لبوس الغزوات تكلمت وحدها في مونولوج ممل و تسلطنت إلى حدود الغياب في النشوة ... و قابلتها معارضة أو بعض معارضة تمردت إلى حدود الدنكيشوتية القاتلة ... كفرت خصمها و شيطنت منافسها ... أنكرت الإنجازات و ضخمت الكوارث ... فهمت أن معارضة الخصم تعني إزالته ... و هكذا انفتحت بعض مجتمعاتنا على المواجهات و الاستقطابات و مظاهر الإقصاء المتبادل ... (6) منذ أواخر قرن راحل إلى حدود أوائل قرن جديد هاهو صاحب القرن الوحيد مازال يتسلى بتنازع عقيم داخل بعض مجتمعاتنا ... يقدم وصفات الحداثة و عقاقير الديمقراطية المزعومة ... تحاصر دباباته ثغورنا ... و نحن في شغل التواجه فاكهون ... ملل ونحل و لا تسويات و لا هم يتفقون ... (7) ما أحوج بعض حكام الشرق إلى دهاء معاوية يشد الشعرة إذا أرخت الرعية و يرخيها إذا شدوها... و ما أحوج بعض معارضاتنا إلى لين هارون وموسى فيحسنون القول و الجدل ... (8) لازمة نرددها كل أسبوع ... مطلوبنا تدوير حدة الزوايا بمبرد العقل ... و تلطيف طعم الدواء بحلاوة البيان ... فهدفنا أكل العنب لا قتل حارس الضيعة ... و للزوايا تدوير آخر ...