داعبت أشعة الشمس المنبعثة من زجاج نافذة الغرفة جفونها ففتحت رجاء عينيها بصعوبة بعد ليلة هجرها فيها النوم، ويئس النعاس من تخديرها، كانت تنوي القيام مبكرا للذهاب الى موعد حددته مع سكر تيرة أحد المجلات لمقابلة رئيس تحريرها علّها تظفر بشغل وتتخلص من سياط زوج أمها الذي يفصح عنه صوته المزمجر وألفاظه النابية. كان دائما يوكل الشتائم لأنها حسب اعتقاده لم تحسن تربيتها، ولم تظفر لها بعريس يزيح عنه غمتها ويريحه من طلتها اليومية. تتنفس رجاء الصعداء وهي تراجع شريط ذكرياتها في هذا البيت، قامت متثاقلة نحو الحمام لتهيء نفسها للقاء. رنّ جرس الهاتف، لكن رجاء لم تسمع رنينه المتواصل، كانت تستمتع بزخات ماء «الدوش» فهو ينساب على جسدها الممشوق ناصع البياض عله ينسيها أرق الليل ويخفف من توترها الدائم هذه الايام. فهي لازالت تذكر ما حصل لها في اخر لقاء مع المشرف على رسالة الدكتوراه التي تشتغل عليها، كلما تراءت امام عينيها صورته اصابتها حالة من الغثيان والتقيء تهيج فيها مشاعر الكره والاستمئزاز لصنف الرجال. سرحت رجاء بين فلول ذاكرتها المثقلة بالتجارب المُرة حينا والأشد مرارة حينا اخر حتى لكأن مارد يجثم فوق رأسها يكاد يكتم أنفاسها ويدخلها في غيبوبة فلم يوقظها منها الا صوت متوعد وقرع متواصل على باب الحمام. هيا اخرجي... كلبٌ يطلبك على الهاتف...! لم تشأ رجاء الرد على زوج أمها كعادتها، حتى لا تعكر صباحها، ولم تحرك ألفاظه القبيحة شيئا بداخلها، فهي قد تعودت على هذه الوجبة الصباحية من الكلمات الركيكة والنابية وان مر يوم ولم تسمعها تشعر بإفتقادها. خرجت رجاء والماء يداعب خصلات شعرها الليلي، يتساقط على وجنتيها الصغيرتين في شكل حبات. رفعت السماعة وعيناها ترمقان زوج أمها المتسمر أمامها ليخرج، لكنه واصل تفحص جسدها الابيض الملفوف بالمنشفة بنظرة وقحة غير آبه بها، لم يزحزحه من مكانه الا صوت أم رجاء وهي تناديه فذهب اليها وشواربه ترتعش من فرط الغيض. استعادت رجاء أنفاسها وهي ترد على الهاتف حين أدركت بحدسها الأنثوي مصدر الصوت: صباح الخير كيف حالك لا بأس وأنت لست على ما يرام وأنت السبب، هل أراك اليوم... لا لا أستطيع... غدا سأطلبك، غدا...!! اغلقت رجاء السماعة وهي مرتبكة لا تدري ماذا اصابها، وما الذي قلب كيانها وتحول جسدها البارد الى فوهة بركان على أهبة الانفجار، تراءت أمام عينيها وهي تهوي بجسدها على الأريكة: ذكريات حب دفين تحاول جاهدة نسيانه، ومشاعر تصهل في جوفها صهيل الخيول الجامحة ظنت أنها قضت عليها، ولكن المكالمة حرّكت فيها السواكن، ورجّت طبقة الجليد التي لطالما أخفت حريقا لم ينطفئ بعد. استعادت رجاء وعيها المنكسر ولملمت بقايا أشلاء قلبها، تذكرت الموعد مع رئيس التحرير فهرعت من ذكرياتها الى غرفتها تتأنق للقاء المرتقب متناسية وقع المكالمة. أخذت نفسا عميقا وهي تتجاوز سور منزلها القديم الذي ورثته أمها عن أبيها، تعبق حيطانه المتآكلة بذكريات ساكنيه وتفوح من أقبيته المتداخلة أسرار بطعم التوت المُر ويحيط به سور عظيم تتدلى منه اغصان الفلّ والياسمين والرياحين تتعانق في لوحة أبدية فينسكب بين أزاهيرها إكسير الخلود ويرسم بوريقاتها نمنمات تعويذة شرقية، تأخذها نسيمات رقيقة ترفعها عن تدليها فتكون قاب قوسين أو أدنى من موطن النجوم ثم تعاود الهبوط. أردفت رجاء باب الحديقة واسرعت الخطى كأنها تسابق خيالاتها وظنونها. امتطت سيارة أجرة فقصدت مقر المجلة، سرحت رجاء وهي تنظر الى جنبات الشوارع الواسعة والى البنايات الشاهقة، وجال في خلدها ما قد سيدور في هذه المقابلة ثم استسلمت الى اغماضة جفن، أفاقت على صوت سائق التاكسي: استيقظي لقد وصلت... ردت رجاء بإستحياء: حسنا كم أجرتك... وقفت رجاء امام بناية بلورية، أعدت على الطراز الحديث، قادها بواب البناية الى «الأسنسير» فتح الباب، وجدت نفسها امام أبواب جلديه متشابهة توجهت نحو مكتب رئيس التحرير، أدخلتها السكرتيرة وواربت الباب. تسمرت رجاء في مكانها وهي تحدق في أرجاء المكتب المكسوّة حيطانه بصور الفنانات والموديلات انتابها احساس بخيبة أمل مفزعة وغاب حماسها في طلب الوظيفة وتمنت من كل قلبها ان تنشق الارض وتبلعها. همت رجاء بالرجوع القهقري قبل ان يتفطن اليها رئيس التحرير الذي كان منهمكا في فرز جملة من الجرائد، الا ان انتباهه لوجودها جعلها تتراجع فهي تستمع الى كلمات الاطراء والاستقبال الحار فهو يتفحص وجهها المكتنز بالانوثة الصارخة. تفضلي... أكيد الآنسة رجاء أجابت ببرود مفاجئ: أجل أنا تلوّت رجاء كأن أحشائها استشعرت شعورها بالاحباط، فسرت قشعريرة في جسدها أثقلت لسانها عن الكلام وذوّبت أحلامها على جدران المكان. قطع رئيس التحرير شرودها المفاجئ وسألها عن اهتماماتها ولكنه لم يعطها الفرصة للحديث، وواصل غير مكترث بصمتها. هل تريدين رصد اخبار الفنانين او ملاحقة تقليعات الممثلين؟ ثم واصل قائلا وهو يداعب بيديه شواربه الكثتين ويلاحق بنظراته الفضولية تفاصيل وجهها لو استطعت ان تقتنصي اخرفضائح الفنانين ستكون اخبارك على الصفحة الاولى.