* اهداء: الى روح والدي حمدة فلِيس دفنه شرفاء تونس في الغياب القسري لابنه البكر الذي لم يكن بعيدا جغرافيا ... لن تفلت منّي هذه العصافير تزقزق مزهوّةً وترهبُها خطوات قادمة فتنهض من سعادتها نحو الأعالي حيث حرية الأمان والعلوّ الضامن للسلامة. سوف أنساب من حمى قبرك نحو هديرها وتألّق غنائها وسعادتها، وأسحب ألمي وحرارة أشواقي على زمن تآلُفنا وروعة ودّنا. «ولو خانني الوقتُ يا صاحبي سوف أوغل فيَّ أفتّشُ عنك... أُلاقيكَ وردةُ نارٍ ستذيل الاّ قليلا بمنفَايَ، لكنّها تتأجّجُ في شهرة هادئة حيْثُ لاشيء نشربُ شايا، ونصْمُتُ... نحاول ألاّ يُفاجئَنَا في الحديث أمرٌ أو تهُزّ أصابعنا رعشة من بكاء راسم مدهون من قصيد «منفى» 8 أرْتاد الميناء الذي شهد على بذلك لأكثر من أربعين عاما قضيّتها فيه عاملا منتجا مُثابرا، فشدّة حزمك الباذل أنطقت الأحجار وأشهدتهم كلّهم القريبون والبعيدون.. بأنّك كنت بلا مُنازع قاهرَ الأكياس صبرا ومعاناة... مازلتُ أراني، وأنا فتًى، أجيئك بقفّة الغذاء إلى ميناء بذلك بين حصّتيْ عمل أواكبُ حركات يوْمك وأنت تتناول على حافة الرصيف وحبّة فطورك وأنا واقفٌ بين يديك أقلّب الفضاء وأتسمّع لغطا يُطلقه هولاء وأولئك تختلط الأصوات وأصداؤها وتتمازجُ العباراتُ الضّاحكة وعباراتُ الحزم، وتهربُ الضّحكاتُ الطويلة والمزاح البريء من أفواه عتّاليْ هذا الميناء الصّامدين يروّحون بها عن النفس من عناء حصّة عمل صباحيّة تواصلت فأرهقت البدنَ وشدّت الأعْصابَ. وأتمشّى تباعًا على رصيف هذا الفضاء الواسع لميناءٍ عرف أيّاما حافلة منتجة وسخيّة وعرف أوقات شدّها الضنكُ وشحّت فيها البواخر ومصادرُ الارتزاق. وأناديك من خلال البحر وفضاء رصيف الميناء الواسع: «يا أيّها الزّمنُ الرّمادي يا طائر الموت الحزين يا أيّها البحرُ المخضّبُ بالسّواد ياموجُ يا مطرَ الخراب كان هُنا جسدي وكان هُنا.. تُرابي» عبد الحميد خريف من قصيد «خيرٌ» 9 ذكراك نا صعةٌ من خلال ما عرفت في حياتك، وما لم تعرف. فللمدينة آذَانها غيْرَ المعلنة ولها امتدادٌ في الذّاكرة تحفظ ذكرى وأسماء أبنائها الباذلين... أجوبُ المدينة في الصّباحات الأولى فأراك في أزقّة، مشيئا سويّا على أرصفتها مرّات شتّى لقضاء المآرب ولفتح الأبواب الموصدة، فتحيّ هذه الأزقّة الصّديقة ذكراك وتنحني لروحكَ، فتغمرني كلّما مررْتُ بها وحيدًاحرارة التذكّر وروعة الوفاء... سأظلّ أذكُرُك كلّما رنوْتُ رغمًا عنّي وجهة ذاك البرج المتعالي يأكل أيّام الرّجال بلا هوادة يؤمّونه عنوة وهم في أوج العطاء وان خرجوا منه فشيب الرّؤوس، مكسُوري الارادة الاّ ما كتب ربّك.. وقصّتك مع هذا البرج من خلالي طويلة وطريفة.. فهو الذي منعني عنك بأسواره الغليظة العالية، وهو الذي أماتَ ولم يُحي وأمات وعتّم عن الموت والميّت شفاعة العزاء والسير في الجنازة اكراما للميّت واجلالا للموت، وتنفيذا لما تُسمّيه اللغة إياها «قوانين»!... البارحة عندما قبّلت المرأة إيّاها شاحت بي أفكاري إلى حمَى قبرك كما في كلّ لحظات التجلّي وسمعتك تقول لي من أعالي سمائك الأولى بنبرة الحكمة: «أعطني من ملحك يا بحرُ وعلّمني السكوت أدّبني على قبول الهزء الممقُوت علّمني أبتسم في وجه الحوت في وجه اللص المكبوت يأخذ أيّان شاء أفئدة البيوتْ أرني يا بحْرُ كيف أموتْ! جاثمٌ أنا على أعتاب قبرك في هذه المقبرة التي أصبحت جزءا من ذاتي منذ ثلاثين حولا، أدقّق النظر في مساحة القبر كأنّي أنتظر خروجك منه لنتلاقى ونتعانق كما لم يسمح لنا بذلك أرهاطُ العسَسِ والمريضة قلوبهم. وفي تركيز متعبّدٍ تنطلق الكلمات العذبة من فمي إلى روحك أوصيك أن لا تدع للنسيان عليك من سلطان وأوصي نفسي بسماع الحكمة منك: حكمة الأمس وحكمة الغد إذ: «لا أمس من عُمُر الزمان ولا غدٌ «جُمع الزمان فكان يوم رضاك». كما قال شوقي وتفنّت العظيمة فيروز... ولا غرابة أن تجيء الحكمة من عندك فالموتى أكثف عددًا وعدّة من الأحياء و»الموتى همْ من يُسيّرون الأحياء» كما قال أوست كونت! وقبله قال فيكتور هوغو: «لا تقُل الموت بل قُل الحياة»!! فكلّ شيء يحملنا إلى فكرة ما عن الموت لأنّ هذه الفكرة هي «عمق الحياة»!! (شاتوبريان) 10 أعُود أدراجي من مقبرة الأنس إلى شوارع الفقر والبؤس أتخطّاها واحدا واحدا، أتوقّى الأوساخ المكدّسة كيفما اتفق، وأحلمُ بوقت آخر غير هذا الوقت الأزرق الأغبش، وأرنو إلى صاحبنا في كلّ الأحوال: هذا البحر الذي ان ثار أخذتنا جبروته وان رقّ ارتمينا في أحضانه العريضة نتفاعل مع أمواجه. «أهُمُّ بالهَرَب منّي إلى ألَمي ومن ألمي إلى عدمي فتخونُني قدمي!» محمّد معالي من قصيد «كذبة» لقد أخذتُ نصيبي منك وملأتُ رئتيّ برائحتك وملأتْ رأسي وحواسي كلماتُك الصّامتة وسمعت منك نُواحًا! لماذا أبتي! رجاءً لا تُعرْ المسألة أكثر ممّا تستحقُّ، فكأنّنا قسّمنا المهامَ: أنت هُناك ضمن الموتى الذين يوجّهون الأحْياءَ، وأنا هُنا مع الأحياء جانبهم الأوْقرُ موْتى: ميّتةٌ قلوبهم وميّتة حواسّهم وميّتة جدّيتهم وميتٌ صدقهم!... رجَاءَ أبتي الكريم عشْ موتك بأفضل صيغة، ولكن لا تحترف الغياب فهو العدمُ والنّفيٌ والانكارٌ، وهو تدمير للذّات وقتلٌ للإحساس ونسف للتوازن! كنْ ثابتا في حضورك كما كان حالُك قبل أن يختطفك هذا الموت في سنّ الاثنين والستّين ويلتفّ عليك هذا المرض القاسي فيصرعك بالضّربة القاضية! أُواصلُ سيري في هذه الشّوارع الفاصلة بين مقبرتك / مقبرتنا وسكني وكأنّي أضعُ أقدامي لأوّل مرّة في هذا الفضاء... «أطفأوا الضوء... لكنّهم قبل أن يطفئوا الضّوء كانوا يطفئون الكلام» راسم مدهون من قصيد: «ما لم تقله الذاكرة»! ويظلّ صوتك يلازمني وتُلازمني صورتك بعد هذه اللحظات المتآلفة التي جمعتني بك أكثر من العادة بعد الثلاثين... وأشكرُ القدَرَ الذي ضمن لي أن أتعلّم منك بالملموس، في مدرسة الحياة كيف يُصبح الفتى رجُلاً... قارسًا... شهمًا...! فشكرا مضاعفا لك يا أبتي على روح انفتاحك وعمق تسامحك وسعة حبّك المفتون لنا... فقد أحببتنا إلى حدّ الهلاك الذاتي... يكفيني ألمًا أن أراك في هذه الصّور الكريمة، ويكفيني فخرًا أن أذكرك في حجْم رجولتك وكثافة إقدامك... «إن شئتُ أن أنسى.. تذكرتُ امتلأتُ بحاضري، واخترتُ يومَ ولادتي... لأرتّب النّسْيان» محمود درويش من قصيد زيْتُونَتَان عندما انحنت الأشجارُ تقديرا لصبرك، وهدأت العواصف إجلالاً لدمعك، وتقهقر الدّمعُ في عينيك خجلا من حجمك تجنبا لمضايقة تواضُعك خاطبت النحرَ: إن التهمْتَ الجُثّة يا بحر فقد بقيت لي الروح.. والذكرى.. والعبقُ! والرّوح، والذّكرى والعبقُ بلدٌ بأكمله، وفضاءٌ عريضٌ لا متناهي، وقوّة تُطاولُ النّسيان والمحدوديّة والزّمن، وهي حياة تُسفّه الموت فتدُكّ معاقلها وتزحف على النّسيان لتحميَ الحضُور وتدفع بقوانينه إلى أبعد مدى... ويظلّ اسمك منحوتا في حجم رجولتك!