التونسي محبّ للعلم بطبعه، وقد صنعت هذه البلاد المعطاء و أنجبت الكثير من رجال العلم في تاريخها القديم و المعاصر و في شتى ميادين المعرفة . وتونس، تفخر بمؤسس علم الاجتماع ، العلاّمة عبد الرحمان بن خلدون، و تفخر في تاريخها الحديث بقائمة طويلة من الأطباء الأجلاء و علماء الدين و المهندسين و رجال الاقتصاد الخ... والتونسي بلغ حبّه و ولعه بالعلم درجة تكاد تكون مرضيّة، فهو يضحّي، بوقته و صحته و ماله ، من أجل أن يبلغ أبناءه أعلى مراتب العلم و المعرفة ، بل إنّ هاجس التونسي ، لم يعدّ مجرد النجاح و إنمّا التميز في النجاح . فأوْل ما يسأل عنه الواليّ ، ابنه ، عند الحصول على النتائج، هو نوع الشهادة التي تحصّل عليها . و قد توفر لنا في تونس الاستقلال من القوانين و الاطر الموضوعية التي تحثّ على طلب العلم و التعلمّ كمجانية و إجبارية التعليم بالنسبة للجنسين و المساواة بينهما و هي عوامل بوأتنا مراتب محترمة عالميا ، فنحن لم نعد نرضى بترتيبنا ضمن أشقائنا الأفارقة و جيراننا العرب بل صرنا ننافس بجدية و بندْية على المراتب العالمية الأولى. و لقد عرفت الكثير من المدارس و المعاهد العليا و الكليات في بلادنا بجودة تعليمها و بصرامتها في اختيار النخب المتميزة ليحصل لهم شرف الانتساب إليها و أذكر على سبيل المثال لا الحصر كليات الطب و مدرسة المهندسين و كلية الحقوق و العلوم السياسية و كلية الاقتصادية و التصرف و لعل بعث المعاهد النموذجية يعتبر خير تدعيم لهذه الانتقائية التي تقوم على التميزالذي هو ثمرة الجد و المثابرة و العمل الدؤوب المتواصل و الجمع بين كفاءة المربّى وجديّة المتربّي. إلا أن ظاهرة الكليات الخاصة و الجامعات الحرة جاءت بخلاف ما هو مرجوّ منها فعوضا عن معاضدة مجهود الدولة في الرقيّ بمستوى التعليم إلى درجات عليا فإنها خيبت الآمال بل و أساءت إلى سمعة التعليم في بلادنا. و أذكر بالمناسبة انه، خلال السنوات العجاف للجامعة التونسية، عندما كانت قدرة المعاهد العليا و الكليات محدودة، كانت نسب النجاح من مستوى إلى آخر تعد من الأمور الجسام ، ليس لعدم كفاءة الطالب و قتئذ و لكن نتيجة لمحدودية طاقة الإستيعاب . فقد كانت كل شرايين النجاح في مناظرة امتحان الباكالوريا تصبّ، تقريبا، في العاصمة تونس. و كان الطالب عندما يستوفي حقه في » الخراطيش«المسموح بها، يجد نفسه معرّضا للطرد ، فيلجأ أولي العزم منهم إلى الهجرة إلى الغرب، و خاصة فرنسا و بلجيكيا، بحكم الرابطة اللغوية ، أو إلى الشرق العربي ، طلبا للعلم و إذا بالطالب الذي »خرطش« بعد أن ثنّى و ثلث في نفس المستوي، رغم و جوده بين أهله و خلاّنه و ذويه، و تمتعه في أغلب الاحيان بمنحة دراسية و سكن جامعي ، يتميز في ديار الغربة رغم صعوبة الظروف. فهو غالبا ما يضطّر إلى العمل ليلا في غسل الصحون أو حراسة مداخل العمارات و مآرب السيارات و التعلّم نهارا. و قد كان مستوي الطلبة التونسيين في الخارج، يبهر اساتذتهم و يغيض زملائهم، لأن التعليم و قتئذ، كان نخبويا و انتقائيا. و أنا لا أدعو إلى الانتقائية و النخبوية التي توصد الابواب أمام فئات معيّنة، فهذه و الحمد للّه ليست ميزة التعليم في بلادنا و إنّما أدعو إلى انتقائية في المستوي و نخبوية في المناهج و البرامج التعليمية. و لنعد إلى موضوعنا، فانّه من غير العدل و من المنطقي، أن ينجح الطالب المتميّز في شهادة الباكالوريا ، بعد سهر الليالي و معاناة العائلة في توفير مستلزمات الدراسة، بمعدل ممتاز يؤهّله للدخول إلى معاهد و مدارس عرفت بصرامتها العلمية وجودة تكوينها تم يعصر عصرا في المراحل التحضيرية، و قد يجد البعض نفسه مضطرا للانسحاب نتيجة لعدم قدرته على المنافسة العلمية ، ثم ينتقل الطالب المتفوق إلى مستوى أعلى و معه تزداد المنافسة و يزداد الارهاق و الجهد المضاعف و »فوبيا« الاخفاق لا قدر اللّه عند الطالب و عند الاولياء على حدّ السواء. بينما يجد الذين لا تؤهّلهم معدْلات نجاحهم إلى الانتساب إلى »أضعف « الشعب التي لا يتطلب الانتساب إليها معدّلات ممتازة. فهي تكتفي »بعشرةالحاكم «. فبمجّرد الحصول على شهادة الباكالوريا فإنّ التسجيل مضمون، و الابواب مفتوحة على مصراعيها في الكليات و الجامعات الخاصة، ليتابعوا تكوينا في شعب و اختصاصات، ما كانوا ليحملوا بلانتساب اليها أو حتى مجرد التفكير في المشاركة في المناظرات التي تخوّل الانتساب إليها. و الامرّ و الادهى،أن الجماعةإياهم يتحولون بقدرة المبالغ المدفوعة لتغطية مصاريف و نفقات الدراسة إلى عباقرة يطوون أميال سنوات الدراسة طيا،وينجحون في زمن قياسي،ويحصلون على شهائد منظرة،و قد يبتسم لهم الحظ،وتفتح لهم أبواب التشغيل بقدرة قادر لتكتمل فصول المهزلة و يسبقون زملائهم الذين يدرسون في مدارس و معاهد و كليات عمومية،يخضع التكوين فيها الى عدة عوامل تتكامل فيما بينها،لتخرج لنا إطارات نفخر بها وبتكوينها ونأتمنها على مستقبل البلاد و العباد. فالعملية في أغلب الكليات و المعاهد الخاصة،و لا أقول كلها،صارت مشروعا تجاريا يتنافس باعثوها على استقطاب الكمّ على حساب الجودة و النوعية و على حساب التحصيل الأكاديمي الذي يخضع لمواصفات علمية صارمة .و الذين يشكوّن في كلامي ما عليهم إلا المقارنة بين نسب النجاح في مدارس المهندسين العمومية ومثيلاتها الخاصة،مع العلم أن الفارق بين مستوى المنتسبين إلى كلا المؤسستين شاسع، و بيّن و كذلك الأمر بالنسبة للمحتويات الدراسية و مناهج و نظم الدراسة و القوانين الداخلية،و إلا كيف نفسر إخفاق نسبة غير قليلة من طلبة مدارس المهندسين الحكومية في الحصول على الشهادة الوطنية للمهندس رغم مستوياتهم الجيّدة و تضحياتهم الجسام وإرادتهم الفولاذية في النجاح بينما ينتقل طلبة الجامعات الحرّة من مستوى إلى آخر، وكأنهم يركبون سلما كهربائياأو كأن هذه الجامعات تملك قدرات سحرية حوّلت"الكركارة"سابقا الى متفوقين لاحقا؟. لقد كنت أعتقد ومازلت عند إعتقادي،أنّ بعض الاختصاصات الأكادمية كالمهندسين و الأطباء و المحامين و القضاة، يمثلون عصارة الذكاءالانساني، في ميدان التحصيل العلمي، و أنهم كابدوا و جاهدوا لبلوغ تلك المراتب العلمية المرموقة. و لكن،عندما يتحول الأمر إلى تخريج مهندس بمقابل مالي،مع أن ذلك المهندس كان مهددا بالرسوب في السنة الأولى من شعبة تربية الأرانب، فان هذا يصبح مدعاة للتساؤل و الاستغراب.إن الأمر يهمه مستوى التعليم و جودته و نوعيته، و يجب أن يولى له اهتمام كبير من طرف الساهرين على أمور التعليم. فنحن شعب صار يطمح للتميز،وهذه قيادة تراهن على بلوغ الامتياز و لا ترضى بغير الامتياز اختيارا و هدفا منشودا و توفرلنا من الآليات و الأطر،ما يجعلنا قادرين على منافسة الشعوب الذكية.و الذي نبلغه بالقفز و النطّ، نستطيع أن نبلغه بالعقل و العلم و المعرفة. ومن المفارقات التي تحضرني هنا،أن الطلبة في اليابان يسجلون أعلى نسب الانتحارعند الاعلان عن نتائج الباكالوريا، والعجيب أن هذه النسب من المنتحرين لا تتعلق بالذين أخفقوا، وإنما تهم الذين لم يحصلوا على أعلى درجات التميز التي تمكنهم من الانتساب إلى أعرق الجامعات و التي يعتبر الانتساب إليها شرفا يعادل الشهادة نفسها، بينما نقيم نحن الأفراح و نحيي الليالي الملامح بمناسبة نجاح ... بتدخل من "الحماية المدنية"، أي بالاسعاف. ولاأريدأن يعتبر كلامي هذا تحاملا على الجامعات الحرة،و لا على باعثيها، و هم من الاساتذة الأجلاء، الذين أفنوا زهرات أعمراهم على مقاعد المؤسسات التعليمية العمومية يكوّنون و يقوّمون و يزرعون لنقطف نحن ثمرات زرعهم،و لكن أريد أن ننظر جميعا إلى المسألة، نظرة موضوعية بكل تجرد و بدون حساسية .نظرة نقد و بناء نزيه. و بكل الحب ألقاكم.