اللون الأبيض لون الاستسلام، يتحول أحيانا للون الحياد السلبي، وفي ركن ما مُتخيّل من العالم يتحول المكان فجأة إلى اللون الأبيض. لقد حدث هذا في رواية العمى، لصاحبها الأديب "خوزيه ساراماغو "وهي رواية تختصر قضايا كثيرة في مجتمعاتنا البشرية. حيث يصاب فجأة رجل فيها بالعمى ولكنه عمى من نوع آخر، حيث يرى الشخص الأشياء باللون الأبيض. وسرعان ما انتقل العمى للمجتمع بأكمله باستثناء امرأة واحدة، لم تصب لسبب غير معروف فتعيش معاناة وتقول لنفسها: ما أصعب أن يكون المرء مبصرا في مجتمع أعمى." وذلك لأنها قادرة على رؤية كل ما يحدث من طغيان، وسرقة ونهب وأعمال مخلّة يقوم بها الآخرون للحصول على لقمة العيش. وترى الاستبداد والديكتاتورية اللّذين يفرضهما البعض ليعاني منهما الكثيرون.
رواية تعرض الواقع الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة، ولكن بطريقة رمزية، حيث ترمز إلى العمى الفكري وهو الجهل والقناعة به، ويتحول اللون الأبيض الناصع إلى لون تعمية الحقيقة.
كان من البداهة أن يكون القمع رديفَ مصادرة الرأي وحرية التعبير، ولكن من الغريب أنّ اللون الأبيض هو لون القمع، ومصادرة حرية النقد والتفكير الحرّ بصوت عال وحتى الإحباط من الشعور بالحرارة، (هذه واقعة حدثت في إحدى أعرق كليات الجمهورية التونسية بعد الثورة، والتي من أهم مكاسبها حرية التعبير).
تنقد حرارة الطقس تطرد، (طبيب ماهر ومقاوم للبرد والحرارة)..
تخيّل عزيزي القارئ أن يُطرد طالب طبّ ويصادر حقه في التعبير، لأنه انتقد عدم تشغيل المكيف. فيتسبب ذلك في طرده.أعتقد أن قرار الطالب "وجيه" في نقد الإدارة لم يكن وجيها أبدا، كان عليه أن يندمج مع بياض اللون لا من جهة نبل مهنة الطب ورقي فكرة حرية التعبير بل من جهة بياض ساراماغو بالسكوت والعمى عن الحقيقة.
ولأن الحرارة والنار والبشر حكاية تسير على نفس الطريق، فعلماء الأنثربولوجيا مثلا، يرجّحون فرضية دور النار المحوري في تطور الإنسان، فعندما قام الإنسان بطهي اللحم، تقلص الوقت الزمني الذي تحتاجه المعدة للقيام بالهضم، وبذلك توفرت طاقة للتفكير وبالتالي للتطوّر. تتغنى الميثيولوجيا اليونانية ببروموثيوس سارق النار من الآلهة، وأول ثورات الربيع العربي انطلقت من جسد يحترق رفضا للظلم ونورا للكرامة وأملا بقادم أفضل ممكن.
ملاحظة على هامش ما كتبت، أتمنى من الزميل الذي طرد من أجل تدوينة يتشكى فيها من حرارة المكتبة، وعدم تشغيل المكيف، كثافة معارف من طرده ووعيهم بدور النار في التاريخ البشري، فربما كان الأمر فيه حكمة ومقصود، حرارة تجعلك تتقد نارا، فتتميز.
شكرا أيها الرائع على عدم تشغيل المكيف. هكذا كان يجب أن تفهم الحكاية وأن لا تكتب في صفحتك الخاصة، رأيك الحر والخاص حول غلق المكيف.بل كان من الأرجح والوجاهة شكر الإدارة.
مسؤول يستشرف المستقبل (تعلموا التكيف مع ارتفاع حرارة الأرض)..
عزيزي وجيه كان عليك أن تفهم، أن الكرة الأرضية ارتفعت حرارتها ثلاث درجات، وأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب (له حق الرد) انسحب من اتفاقية باريس لحماية المناخ والتقليص من انبعاثات الغازات الملوثة. وبالتالي ونظرا للظروف الجيو-سياسية الصعبة، كان السيد المسؤول يعلّمكم التكيّف مع ارتفاع درجة حرارة الأرض. ولو بحثت في خلفية السيد المسؤول الذي طردك لوجدته ربما من أنصار الحركات الأيكولوجية (البيئية أو الخضراء) في العالم.
صديقي وجيه، قبل أن أنسى، هل تعلم لماذا ضيع لاعب المنتخب الوطني التونسي، ضربة الجزاء ضد منتخب السينغال؟
لأن الطقس حار وهو لم يكن متعوّدا على الظروف المناخية القاسية، وأنت كان من الممكن بعد تخرجك طبيبا أن تعمل في ظروف صعبة وحرارة مرتفعة، إذن حكمة السيد المسؤول كانت في أن تجعل المكتبة فضاء للدروس النظرية والتطبيقية، ولكنّك لم تستوعب.
لا تتكلم وإلا ستُطرد ..
طرد وجيه، وتستعد منظمة الأطباء الشبان للإضراب من أجل التضامن معه، فمن غير المعقول، أو المقبول طرد طالب لأنه انتقد على صفحته الخاصة. لكن لماذا تتجرأ على النقد؟ كان عليك أن تضع نفسك مكان السيد المسؤول الذي كما أسلفت الذكر، أراد ابتكار آليات بيداغوجية جديدة، تنقد؟ هذا غريب حقا! لقد طردت من أجل تدوينة.
تخيل عزيزي القارئ، انتهى زمن السلاطين والملوك في هذه البلاد. وهرب الديكتاتور وقدمت تونس شهيد حرية الرأي والتعبير والتدوين على الأنترنت زهير اليحياوي. ثم يطرد طالب من أجل تدوينة، انتقد فيها غلق المكيف.
ذات يوم سأل شهيد الحرية زهير اليحياوي: “هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوانات أم سجن، أم كلية طب؟
هل يكون عمار 404 هو السيد المسؤول في كلية؟
أتوجه بتحية قلبية، ومن الأعماق للسيد المسؤول. على طرده الطالب من أجل تدوينة ومحاولة ترسيخه للعقل النقدي وحرية التعبير. هل من الطبيعي أن نناقش حالة طرد من أجل تدوينة، ليس فيها أي وجه من أوجه الثلب أو التجريح بعد ثورة من أجل الحرية والكرامة. هل واجب التحفظ الذي تعللت به الإدارة في قرارها، يندرج داخله نقد حرارة الطقس والسكوت عن غلق المكيف؟ هل كان ساراماغو يعرف أن الأبيض، يمكن أن يجعلنا في قصة واقعية نصاب بالعمى؟