تتوارى في ضجر ثلاث سنوات من عمر الدولة والمواطنين، وهي فترة رفعت خلالها شارات النصر والأهازيج بأحلام الديمقراطية والمواطنة والتعايش، كما لم يسبق من قبل. خلال هذه المناسبة التي يهرع فيها الكثيرون للاحتفال والتأمّل، يدفعنا الواجب أن نتذكر سيرة مناضل بين متاهات العمر، دغدغه الحلم أكثر من غيره و استعجل وهو يشق رحلته النضالية المبكّرة، أن يرى الشعب أكثر تماسكا والحياة السياسية أكثر طمأنينة وانسجاما. يحق أن نتوجه بالتحية إلى عم علي بن سالم عميد المناضلين الذي ظلت حياته مطبوعة بصدق العاطفة والمواقف الإنسانية والأخلاقية التي لامست المخاوف على الديمقراطية وعلى حقوق الإنسان وتحدّت الجلادين والمستبدين. تحية إليك عم علي ولأمثالك من المناضلين الصادقين الذين توارى غالبيتهم عن الأنظار حينما علا الصراخ والصخب، وبرز المتهافتون على ميراث السلطة والانتقام. نتذكر انك ابتعدت مكرها عن الفضاءات والميادين الحقوقية و السياسية عندما لاح في الأفق انقسام المجتمع وظهرت بذور الكآبة قي صفوف من كانوا وقود ساحات النضال الحقيقية. ندرك حجم الألم الذي ينتابك وأنت ترى البلاد تعيش على وقع التجاذب المخيف و على وقع الاغتيالات و مناظر الأجساد التي امتد لها رصاص الغدر والإرهاب في وطن كان مثالا للتعايش والوفاق الحقيقي وإن تباعدت بين مواطنيه الأفكار والمصالح. غالبك الحياء أن تتباهى بنضالك وتكيّفه مع مصالحك كما يفعل الكثيرون. ألم يقل "أن أفضل الجود الذي لا يتبع بمنّ"، فتحية إليك لأنك لم تفاخر بنضالك وترفض أن تنصب المشانق للخصوم كما يفعل بعض الذين لا سيرة نضالية لهم والذين لم يكونوا من مشاريع الحياة الخصبة التي قاومت المستبدّين بصبر ومعاناة كما فعلت وفعل الكثيرون. أعرف عم علي انه كان بإمكانك أن تستفيد من الأجواء والظروف الجديدة التي كانت على قدر من الجاذبية ، فتأخذ مكانك البارز الذي يليق بمقامك وأنت الأحق من غيرك، لكنك تساميت ولم تسع وراء مغنم أو منصب. بقيت عفيفا وقانعا ولم تفقد احترام نفسك ، حينما حافظت على المسافات مع الجميع حتى وان كانوا حكام تونس الجدد الذين جمعتك مع بعضهم فترات النضال القاسية. تحية إليك عم علي لتواضعك و قدرتك على تجاوز المظالم والأحقاد القديمة لأنك فهمت قبل غيرك أنه لا يمكن أن تبنى عدالة جديدة تحت أشرعة الضغائن والانتقام. تحية إليك لأننا لم نسمع لك صوتا يوزع الشتائم والتهديدات كما يفعل الكثير من "أبطال" هذا الزمن السيئ. عم علي قد لا يسع المجال لتعداد خصالك النضالية ورفضك الدائم لمشاريع القمع والاستبداد وانتصارك للحق مهما كان جور السلطان، لكن علينا الا نكون مدفوعين بالانشغال عن قيمة التسامح التي تطبع شخصيتك في هذا الوقت الذي تضج به الكثير من النفوس بدعوات الانتقام والتشفي، ولا عجب أن تكون رحيما في حكمك مع زعيم اسمه الحبيب بورقيبة ، عرفت السجن والعذاب في عهده وما يزال اسمه يثير النفوس حتى وهو ميت ، ومع ذلك لم تتردد في الإعلان عن مواقفك تجاهه بلا دنس أو تشويه أو تحامل كما لم تتردد في وصفه ب"رجل الدولة والوطني". ليس في الأمر مبالغة إذا قلنا انك ارتويت من عواطف النضال الجميلة التي شكّلتها أسماء تتربّع على شرفة التاريخ، ويكفي أن نذكر الزعيم نيلسون منديلا وغيره من القامات الحقيقية التي تعرف التسامح. عم علي سيحتقظ التاريخ لك بأصالة نضالك وستحتفظ الذاكرة أنك مضيت في طريقك الوعرة دون أن تلتبس عليك المسارات. شفاك الله وأطال عمرك لترى البلاد تتجاوز أخطر أيامها وتحقق ديمقراطيتها ووحدتها دون مشقة وعناء.. ورحم رفاق دربك في النضال الذين كان آخرهم المناضل محمد الصالح البراطلي.