الكلّ يعرف و يسمع عن الميز العنصري و يستهجنه و لا يقبل به، و قصّة الميز العنصري في جنوب إفريقيا معروفة و مشهورة كما أنّ ممارسات الميز العنصري في إسرائيل واضحة للعيان و مفضوحة رغم أنّ الغرب صاحب المكاييل المتعدّدة يعتّم عليها و يستميت بكل صلافة في الدّافع عن الكيان الصهيوني و يجتهد في تلطيف الرّدود و التّصريحات كلّما تعلّق الأمر بتجاوزات إسرائيل و يجتهد في إيجاد التّبريرات و التغطية على ممارساتها الإجرامية في المحافل الدولية و يستعمل بكل وقاحة و استفزاز حقّ الفيتو ضد كلّ قرار من شأنه أن يجرّم أو يدين هذا الكيان الذي هو إجرامي و عنصري إلى أقصى الحدود. إذا هذا كلّه ميز عنصري أساسه العرق و الدّين، و لكن لم نسمع أحدا يتكلّم عن نوع آخر من الميز داخل الوطن الواحد و بين المواطنين من الشّعب الواحد و من نفس الأصل، ألا إنّه الميز حسب الانتماء السياسي الذي يمكن توصيفه و نعته بالميز الحزبي، و بالطبع هذا النّوع من الميز كان مستشريا طيلة 55 سنة الماضية في تونس و في عالمنا العربي و الإسلامي، و قد تسبّب في سحق و حرمان النّاس المبدعين من المشاركة في الشّأن العام و في البناء و التسيير و في تقديم الإضافة للوطن و الشّعب، و بعد هذه الثورات ندعو الله الكريم أن يخلّصنا من هذا النّوع من الميز حتى يتمّ تشريك الجميع بقطع النّظر عن خلفيّاتهم الإيديولوجية و انتماءاتهم السّياسية. وفي تونس و قبل 14 جانفي خاصة، كان حتميّا على كل من يريد أن لا يطاله هذا النّوع من الميز الحزبي أن ينخرط في الحزب الحاكم و إن لم يكن مقتنعا بذلك حتى يجنّب نفسه التعرّض لهذا النوع من الميز المدمّر و من أجل الحماية و الإفلات من ممارسات الإقصاء و الإلغاء التي تمارس ضد كل صوت مخالف خارج عن السّرب و الصفّ، فكل التّعيينات في الدولة توزّع حسب الانتماءات السياسية « متاعنا و إلاّ لا » و إن لم يكن تجمعيّا أو دستوريا فلن ينال المنصب و إن توفّرت فيه الكفاءة و الخبرة و القدرة على الإبداع و الإضافة، و يوكل المنصب للتّجمعي أو الدستوري و إن كان لا علاقة له بالاختصاص و المنصب، فالكفاءة و الاختصاص آخر ما ينظر له بالنسبة للتجمعيّين مع بن علي و الدّستوريين مع بورقيبة. و إن كان الشخص ليس تجمّعيا و توفّرت فيه الشروط و الكفاءة في منصب ما فهم يحاولون دخول قلبه و عقله ليتأكّدوا من ميولاته السياسية و خلفيته الإيديولوجية و هذا أمر مستحيل التأكد منه فلا يعلم السرائر إلا الله، فتجدهم يصنّفون النّاس « ميولات إسلامية…قومية…يسارية…إلخ » و بسبب هذه التصنيفات تم إقصاء الطّاقات و الكوادر المتميّزة و المبدعة و خسرهم الوطن و الشعب، و كم من المتملّقين الوصوليين تم تعيينهم في أعلى المناصب و وصلوا إلى أعلى المراتب، لا لشيء إلا لأنّهم يتفنّنون في التطبيل و «التلحيس» و النفاق، أمّا على الصّعيد المعرفي و الإبداعي فمنهم من لا يمتلكون شيءا من الخبرة و لا المستوى المطلوب، وهذا الصنف من المسئولين هم من سحقوا الرّجال الشرفاء في مؤسّساتنا الوطنية بجميع أنواعها و أصنافها فهذا النّوع من المنصّبين تعهد لهم المهمّات القذرة ويتولّون تنفيذها دون تردّد و نقاش فهم لا يتوانون في تطبيق الأوامر الصادرة من أسيادهم المجرمين المتسلّطين الذين تحكّموا في مصائرنا و مصائر أبنائنا طيلة النصف قرن الماضي. لقد تحمّل الشعب التونسي ممارسات الميز أكثر من خمسة عقود هذا إن لم نضف الفترة الاستعمارية و العثمانية، و لن يسمح بهذا أن يتواصل بعد الثورة المعجزة من الله و التي لم يتزعّمها أي حزب و لا يمكن لأي تيار سياسي أن ينسبها لنفسه، و بعد الثّورة و خاصة تحت حكم الغنّوشي و السبسي لاحظنا تحوّل هاته الممارسات للأحزاب اليسارية و المجموعات اللائكية و العلمانية التي مارست ضغط كبير على الحكومات المؤقّتة لتنصيب المقرّبين منهم و ربّما النهضة اليوم تفعل نفس الشيء، و الأمر كان واضحا وجليا تحت حكومتا محمد الغنوشي و السبسي فأغلب التعيينات من ولاة و سفراء و مديري معاهد و مناصب أخرى في الدولة قسّمت بين هذه المجموعات النافذة من اليساريين و العلمانيين الأمر الذي لم يعد مقبولا بعد الثورة فالتعيينات يجب أن تكون على أساس المواطنة و الكفاءة و الخبرة و ليس الانتماءات و الولاءات السياسية و الإيديولوجية. و من أساسيات القطع مع الماضي هو القطع مع ممارسات الميز الحزبي التي أضرّت بالبلاد و العباد و زرعت الأحقاد و الأضغان في القلوب، و حسب المؤشّرات الظاهرة و الواضحة بع الثورة سيكون هناك ميز بسبب نفوذ قوة المال و التوجه الإيديولوجي، فالحذر كل الحذر من أن نعود إلى هذا النوع من الميز و من أن تتمكّن فئة أو تيار سياسي من العودة إلى هذه الممارسات الساحقة و الماحقة للطاقات و الكوادر المتميزة، فلا مجال للتمييز و الميز بعد الثورة بل يجب أن تكون تونس لكلّ أبنائها و يجب أن يكون الوطن فوق الجميع. و لنعمل جميعا مستقبلا بأن لا نسمح لأي طرف سياسي من أن يسيطر على الدولة و مؤسساتها و أن لا يكون هناك مجالا لتمكين النّافذين في مؤسسات الدولة من أتباع الحزب المنحل و الأحزاب اليسارية و العلمانية التي أصبح لها نفوذ قوي و ظهور إعلامي كبير بع الثورة وهي في الحقيقة لا تمثّل نسبة كبيرة من الشّعب التونسي، فمن المفارقات العجيبة و الغريبة أنّ التيارات و الأحزاب التي لها مرجعية يسارية أصبح لها نفوذ في تونس بعد عقدين من انهيار المنظومة السوفياتية و بعد ثبوت فشل و قسور أطروحاتها و برامجها في النهوض بالشعوب في الكثير من دول العالم، و هذا أمر غير مقبول من طرف الأغلبية الساحقة من المواطنين فلن يسمح مستقبلا تمكين أي طرف و خاصة المجموعات اليسارية و اللائكية العلمانية من التحكّم في حياتنا و مصائرنا و أن تخطط لمستقبل أبنائنا و تنفّذ برامج لا علاقة لها بواقعنا و تتعارض مع هوية و ثوابت شعبنا، و لكن لا بأس بل من المفروض تشريك الجميع دون إقصاء و إلغاء فتونس لكل أبنائها و على الجميع أن يجتهدوا و يتفانوا في خدمتها و عليهم أن يترفّعوا عن الحسابات الحزبية الضيقة و الممارسات الأنانية المدمّرة. توفيق بن رمضان (كاتب و ناشط سياسي(