اعترف المنصف المرزوقي، رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية التونسي، بأنه أخطأ في تقدير حصول الثورة التونسية، وكان في اعتقاده أن سنة 2006 هي التوقيت المناسب للإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، إذ دعا وقتذاك إلى المقاومة المدنية في وجه النظام. وانتقد المرزوقي، في حوار مع «الشرق الأوسط» في تونس، ظاهرة المنال السياسي، وعدد ثلاثة أحزاب سياسية تونسية، على الأقل، متهمة، حسب اعتقاده، بتلقي أموال مجهولة المصدر، واعترف بالموارد الذاتية لحركة النهضة في مقابل ذلك، بيد أنه انتقد قيام الحركة خلال الفترة الماضية بالخلط بين العمل السياسي والعمل الخيري. واعتبر المرزوقي أن الربيع العربي لم يصل بعد إلى بر الأمان، مشيرا إلى أن المخاوف موجودة ومعششة في جدران العالم العربي، بما في ذلك الثورة التونسية. ودعا المرزوقي إلى بقاء المجلس الوطني التأسيسي بعد انتخابات يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل مدة ثلاث سنوات، خلافا للكثير من الأحزاب السياسية الأخرى التي دعت إلى تحديد صلاحياته مدة سنة واحدة على أقصى تقدير. وكشف المرزوقي عن مجموعة أخرى من المعلومات، وفيما يلي نص الحوار: * ما هي قراءتك لما تعرفه المنطقة العربية من أحداث تاريخية قد لا تتكرر؟ الوضعية ككل تفتحت على مخاض كبير نرجو أن يكتمل خلال السنوات المقبلة. أنا سعيد تمام السعادة بما يحصل في العالم العربي، وشرف لأي عربي أن يعيش هذه المرحلة بتجاذباتها الكثيرة. لقد انتظرت ثلاثة عقود بأكملها لأرى شيئا مما ناديت به في عشرين كتابا ألفتها يتحقق في نهاية المطاف، فأول كتاب سياسي تناولت من خلاله العالم العربي يرجع إلى سنة 1981. * لكن عبارة «الربيع العربي» التي أطلقها الغرب عما يحصل في بلداننا العربية فيه الكثير من المغالاة، فما زال هناك غموض إلى حد يجعل بعض المحللين السياسيين متشائمين جدا من القادم، فماذا تقول بشأن ذلك؟ أنا سعيد جدا أن أرى كل أحلامي تتحقق دفعة واحدة، فقد انحسر الاستبداد، وتراجع الظلم إلى درجاته الدنيا. ولا شك أن العالم العربي يعيش مرحلة مخاض عسيرة، ولا أقول إن هناك مغالاة في وصف ما يحدث في العالم العربي ب«الربيع العربي»، فما نراه الآن عظيم بلغة التاريخ، إذ لم تحصل مثل هذه الهزات السياسية العنيفة على مستوى البنى السياسية في عالمنا العربي طوال قرون من الزمن. وأعتقد أن الأمر لم ينته بعد، فالمخاوف موجودة ومعششة في جدران العالم العربي، والقديم لم يمت بعد، كما أن الجديد لم يولد، كذلك لا يمكن للمسار السياسي أن يتوقف أو أن يحيد عن طريقه، كما أن الوضع قد يسير نحو التراجع عن المبادئ الكبرى التي قامت من أجلها الثورة. * وكيف تقيم الوضع السياسي الحالي في تونس؟ هل يخضع للتقييم نفسه الذي يسري على ما يعرفه العالم العربي، أم أن لكل بلد وضعه الخاص؟ الكل يلاحظ وجود صراع سياسي عارم بين القوى الثورية والقوى المضادة للثورة، وهذا طبيعي، فلكل ثورة أعداؤها، وهذا ملحوظ في كل المجتمعات العربية التي تعرف ثورات ضد الظلم والقهر. أنا دعوت، في الكثير من المواقع، القوى الثورية لاستكمال شروطها، ولإعادة السلطة للشعب، لتجاوز السلطة القمعية وإقامة مجتمع عادل. * ذكر الكثير من السياسيين التونسيين أنك كنت أول من تنبأ بسقوط نظام بن علي، فكيف توصلت إلى ذلك؟ في البداية لا بد أن أشير إلى أن المسألة لا علاقة لها بالتنبؤ والتنجيم أو قراءة الكف، فالأمر مرتبط بقراءة جادة للتاريخ الذي يحمل في طياته الكثير من العبر. والواضح أن الأمة التي يمارس عليها الظلم والاستبداد لعقود من الزمن، تسير في مرحلة ما إلى الثورة تحت ضغط السياسات الخاطئة والظالمة. والواضح كذلك أن النظام السابق لم يصلح، ولم يكن في مقدوره أن يصلح وهو أصلا غير قابل للإصلاح، لذلك دعوت التونسيين إلى المقاومة المدنية باعتبارها الحل الأمثل للإطاحة بنظام بن علي. وأنا سعيد في كل الأحوال بتحقيق جزء كبير من تلك التنبؤات. * وهل كنت تعتقد بالفعل أن هذا الحل ممكن في ظل القبضة الحديدية لنظام بن علي؟ بالفعل لقد سخر مني الكثير من المحللين، واعتبروا دعوتي للمقاومة المدنية بمثابة المغامرة الدون كيشوتية، ولكنني كنت على علم بأن دوام الحال من المحال، ولا يمكن أن تواصل تونس السياسة نفسها لعقود أخرى من الزمن بعد أن انفتح العالم بعضه على بعض، وأصبحت عملية مراقبة العقول ووسائل الإعلام غير ممكنة بعد انتشار وسائل الاتصال الحديثة * وهل تغير الواقع السياسي في تونس بعد الثورة وطوى الصفحة نهائيا مع نظام بن علي؟ ما زلنا نرى الكثير من المظاهر التي لا تتماشى مع أهداف الثورة التي قادها التونسيون، وأخشى ما أخشاه أن يهيمن المال السياسي على الحياة السياسية، إذ هناك ثلاثة أحزاب تونسية على الأقل تمارس الفساد الديمقراطي، ولا تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية. * وماذا عن توفر إمكانيات مادية ذاتية لدى بعض الأحزاب، مثل حركة النهضة التي تقول إنها تعتمد على موارد الانخراط فيها؟ قد تكون لحركة النهضة أموالها، ولكن مشكلة النهضة أنها تخلط بين العمل السياسي والعمل الخيري، ونحن نعلم أن الإحسان يجب أن يكون مستترا وفي طي الكتمان. * كيف هي أحوال حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بعد أشهر من الوجود السياسي؟ نحن حزب مقاومة نادى منذ سنوات برحيل بن علي، وما زال يشهر بكل فساد سياسي، وسيواصل خلال الفترة المقبلة قيادة المعركة ضد المال السياسي، حتى لا تغرق بعض الأحزاب المعروفة بمحدودية إمكانياتها في المليارات، فتمر تونس حينها من فساد الديكتاتورية إلى فساد الديمقراطية. * وما هو موقف حزبكم من انتخابات المجلس الوطني التأسيسي؟ خلافا للكثير من الأحزاب التونسية التي نادت بتحديد مدة المجلس في سنة على أقصى تقدير، فإن حزبنا يدعو إلى بقاء المجلس التأسيسي مدة ثلاث سنوات على الأقل. وعوضا عن الذهاب لانتخابات برلمانية ورئاسية في ظرف ستة أشهر، فمن الأجدى تنظيم انتخابات بلدية بشرط استملاك الدستور وليس كتابته، وذلك عبر تكوين لجنة وطنية هدفها الاستماع إلى النخب والأحزاب لمدة ثلاثة أشهر قبل إقرار صيغة أولى للدستور تعرض على التونسيين، ويتم عندها نقاش مستفيض مع الشعب التونسي، ويتم الإعلان خلال حفل وطني كبير عن الدستور التونسي، ويقع توزيع ما لا يقل عن ستة ملايين نسخة من الدستور. كل هذا لنؤكد أن قيمة النصوص ليست فيما يكتب بل فيما يبقى في قلوب الناس. * هل يمكن أن نرى المرزوقي رئيسا لتونس؟ أعرف أنني وفي لطبعي ولأفكاري، وليس من أخلاقي القفز على الفرص المتاحة. وأعرف أنني السياسي التونسي الوحيد الذي زار كل مناطق تونس ولم يرفع أمامه شعار «ديكاج» (ارحل)، وهذا الأمر مهم جدا بالنسبة لممارسي السياسة، فذلك مؤشر على حب الناس، وهي غاية إنسانية كبرى. وفي كل الأحوال سأوافق على كل ما يقرره الشعب التونسي. * وما هو النظام السياسي الذي يفضله المرزوقي؟ أنا مع نظام سياسي يقطع الطريق أمام عودة الاستبداد بكل أشكاله. وأدعو إلى فصل القضاء عن بقية السلطات، وبعث محكمة دستورية وليس مجلسا دستوريا. وأدعو من الآن إلى عدم وضع السلطة التنفيذية في يدي شخص واحد، سواء كان هذا الشخص رئيسا للبلاد أو رئيس وزراء. وعلى النظام السياسي وكل الأحزاب السياسية أن تسعى إلى توزيع السلطات دون معارك تذكر. وربما تكون صيغة حكومة الوحدة الوطنية أقرب إلى التوافق بين مختلف الأطراف التي ستتحكم في مصير تونس خلال العقود المقبلة