تونس 30 ماى 2009 (وات تحرير كمال الجواني) شكل الدستور مكونا أساسيا للثقافة السياسية والمدنية التي طبعت نضال التونسيين من اجل السيادة الوطنية وهو ما جعل تجسيم هذا المطلب من أولويات دولة الاستقلال ودعامة متينة لمشروعها التحديثي. وينطوى احتفال التونسيين يوم 1 جوان 2009 بالذكرى الخمسين لاصدار دستور البلاد على دلالات عميقة من أكثرها بروزا وفاء التونسيين على اختلاف أجيالهم لهذا المكسب الوطني الذى يذكره كل تونسي وتونسية بمشاعر الفخر والاعتزاز بنضالات الاسلاف وتضحياتهم من أجل الحرية والكرامة ومن أجل العيش في كنف دولة عصرية يسوسها القانون ويظللها العدل وتتهيأ فيها للوطن أسباب التقدم والمناعة. وتتجلى هذه المعاني والابعاد قوية في خطاب الرئيس زين العابدين بن علي بمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين للاستقلال الذى قال فيه "انه يحق لنا أن نستحضر باعتزاز هذه الذكرى وأن نعرب عن كبير تقديرنا لاعضاء المجلس القومي التأسيسي الذين تولوا في ذلك الوقت اعداد نص الدستور وبادروا بوعي عميق ووطنية فياضة بتثبيت استقلال تونس وسيادتها.. فوضعوا بذلك أسس الدولة التونسية وبنوا مقومات الدولة الحديثة ونظامها الجمهورى وأقروا الحقوق والحريات التي تستجيب لطموحات الشعب التونسي". ويبرز تاريخ البلاد القديم منه والوسيط والحديث على حد سواء رصيد تونس الثرى في مجال التنظيم السياسي والمدني وما راكمته من تقاليد عريقة تبرهن على تجذر الشعب التونسي في الحضارة. فقد طبع الدستور كمفهوم سياسي وكمرجعية لتنظيم الدولة بقوة الذاكرة الجماعية التونسية سواء ابان معركة التحرر الوطني أو في طور بناء دولة الاستقلال أو قبل ذلك ومنذ عهود قديمة خلت. فقد عرفت تونس منذ فجر التاريخ أشكالا متعددة ومتنوعة من التنظيم السياسي والاجتماعي أبرزها ما نقل حول بعض ملامح النظام السياسي والمدني في قرطاج حيث أثار دستورها الذى يعد أول دستور مكتوب في العالم انبهار قدماء الفلاسفة ولا سيما الفيلسوف اليوناني أرسطو الذى بدا له النظام السياسي في قرطاج قريبا جدا من المثال الذى يتصوره في تنظيم الحياة السياسية. الى ذلك فان من مظاهر السبق الذى حازته تونس على صعيد محيطها الجغرافي والحضارى في المجال كونها البلد الذى اصدر /عهد الامان/ سنة 1857 وشهد صدور أول دستور عربي مكتوب يوم 26 أفريل 1861 والذى يعد واحدا من أبرز الاحداث المسجلة في التاريخ السياسي الحديث للبلاد. ومن أهم المبادىء التي كرسها دستور 1861 في المجال التنفيذى الحد من سلطة الباى واقرار سلطة تشريعية تتمثل في /المجلس الاكبر/ من وظائفه وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الاداءات ومراقبة اداء الجهاز التنفيذى ودرس مشروع الميزانية. ومثل دستور 1861 بعد انتصاب الحماية الفرنسية في تونس فكرة مرجعية في نضال الحركة الوطنية وكفاحها حتى ان تسمية /الحزب الحر الدستورى التونسي/ /التجمع الدستورى الديمقراطي/ اليوم الذى قاد معركة تحرير البلاد من الاستعمار منذ سنة 1920 قد اقترنت بالدستور. ويظل الثلث الاول من القرن العشرين شاهدا على رسوخ حركة التحرير والتنوير بالنسبة الى التونسيين الذين تنامى لديهم الوعي بالفكر الاصلاحي والنظام الدستورى فخرجوا يوم 9 افريل 1938 في مظاهرات حاشدة يطالبون ببرلمان تونسي واجهها المستعمر بالقمع مما خلف عديد الضحايا بين شهداء وجرحى. وما ان ظفر الشعب التونسي يوم 20 مارس 1956 بالاستقلال حتى بادر بعد خمسة ايام فقط من ذلك التاريخ الى انتخاب مجلس قومي تاسيسي عهدت له مهمة اصدار دستور للبلاد. وتولت اللجان الخمس التي تشكلت صلب المجلس القومي التاسيسي في البداية اعداد مشروع ملكية دستورية لكنها استبدلته في أعقاب اعلان قيام النظام الجمهورى في 25 جويلية 1957 بمشروع رئاسي جمهورى صادق عليه المجلس القومي التاسيسي في قراءات ثلاث تمت خلال الفترة المتراوحة بين 30 جانفي 1958 و28 ماى 1959 واستغرقت ست عشرة جلسة. وفي يوم الاثنين 1 جوان 1959 عقد المجلس التاسيسي جلسة ممتازة القى فيها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة خطابا وتولى خلالها ختم الدستور الذى اصبح اول دستور لتونس المستقلة. وقد تضمن الدستور 64 فصلا واقام نظاما رئاسيا جمهوريا يعتمد مبدأ تفريق السلط وحماية حقوق المواطن الاساسية واستقلالية القضاء. وكان دستور 1 جوان 1959 قد شهد قبل تحول 7 نوفمبر 1987 جملة من التعديلات واكبت مراحل معينة من التاريخ السياسي المعاصر للبلاد وتحولات المجتمع التونسي في عهد الاستقلال. وفي ظل ما لحق النظام الجمهورى وأسسه المرجعية من شوائب جراء بعض التعديلات التي خالفت روح الدستور ومقاصده ومنها أساسا اقرار الرئاسة مدى الحياة وتكريس الخلافة الالية التي لا دخل للشعب فيها جاء تغيير السابع من نوفمبر الذى قاده الرئيس زين العابدين بن علي لينقذ الجمهورية وليعيد الاعتبار لمكسب الدستور. وبالفعل فقد شكل التغيير محطة بارزة على طريق تعزيز منزلة الدستور كمرجعية قانونية وسياسية اذ شهدت سنوات العقدين الماضيين محطات متلاحقة في مسار تخليص دستور البلاد من الشوائب التي علقت به واغنائه مبنى ومعنى بثوابت المشروع الاصلاحي التحديثي الوطني وعيون مكاسب البشرية المكرسة لمبادىء الحرية والكرامة وحقوق الانسان. وضمن هذه المسيرة الاصلاحية يعتبر تعديل 25 جويلية 1988 الذى حذف الرئاسة مدى الحياة والغى الخلافة الالية اول التعديلات التي ادخلت على الدستور بعد التحول وتلاه تعديل 6 نوفمبر 1995 المتعلق بادراج المجلس الدستورى في نص الدستور وتعديل 27 اكتوبر1997 الرامي الى مزيد دفع المسار الديمقراطي وتدعيم المؤسسات الدستورية وتكريس دور الاحزاب ومزيد ترسيخ مكانة المراة والشباب في المسيرة الاصلاحية للعهد الجديد. ثم جاء تعديل الدستور في 2 نوفمبر 1998 لاضفاء الصبغة الالزامية على اراء المجلس الدستورى لجميع السلط التنفيذية والشريعية والقضائية ضمانا لعلوية الدستور دون مساس بصلاحيات مجلس النواب ودون تعارض مع مبدا تفريق السلط ودون تشكيل سلطة رابعة تعلو السلطات الثلاث في الدولة وذلك فضلا عن اصدار قوانين دستورية تتعلق بادخال احكام استثنائية على الفقرة الثالثة من الفصل 40 لتكريس الخيار الديمقراطي التعددى في الانتخابات الرئاسية لسنوات 1999 و2004 و2009 . ويشكل التعديل الجوهرى للدستور الصادر في 1 جوان 2002 والذى يؤسس لجمهورية الغد اهم تعديل يدخل على الدستور منذ صدوره في 1 جوان 1959 لانه بقدر ما جسم طموحات الشعب التونسي في نظام سياسي متطور فانه اتى معبرا عن نظرة استشرافية للرئيس زين العابدين بن علي تاخذ بعين الاعتبار تطور المجتمع التونسي. ويعتبر هذا التعديل الذى شمل نصف فصول الدستور 38 فصلا من جملة 78 فصلا جوهريا باعتبار ان التعديلات السابقة كانت اما جزئية شملت فصلا او فصلين من فصول الدستور او بابا من ابوابه واما ظرفية وقع اقحامها في الدستور نتيجة ظروف سياسية معينة اقتضت مراجعة احكام الدستور.