قرطاج 2 جوان 2009 (وات) ألقى الرئيس زين العابدين بن على لدى إشرافه صباح الثلاثاء على موكب افتتاح أشغال "المؤتمر الدولي حول حوار الحضارات والتنوع الثقافي " كلمة. وفي ما يلي نص هذه الكلمة : "بسم الله الرحمان الرحيم فخامة السيد عبدو ضيوف الامين العام للمنظمة الدولية للفرانكوفونية معالي الدكتور عبد العزيز التويجري المدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة أصحاب المعالي والسعادة ضيوف تونس الكرام حضرات السادة والسيدات يسعدني أن أفتتح هذا المؤتمر الدولي حول "حوار الحضارات والتنوع الثقافي" وأن أتوجه بالتحية الى كل المشاركين في أعماله والساهرين على تنظيمه مرحبا بممثلي المنظمات الدولية والاقليمية والعربية المختصة وبسائر المفكرين والباحثين والخبراء والاعلاميين من البلدان الشقيقة والصديقة معربا للجميع عن اعتزاز بلادنا بحضورهم في هذا المؤتمر الدولي الكبير في سياق حرصها الدؤوب على اتاحة فرص التواصل والحوار بين الامم واثراء قنواته في مختلف الميادين. نجدد رفضنا القطعي للنزعة العنصرية التي تروج لوجود أجناس "راقية" وأجناس "متخلفة" ولثقافات "مبدعة" وثقافات "عقيمة" ولدين "سلمي" ودين "عنفي" وإذ أشكر الدكتور عبد العزيز التويجرى على كلمته القيمة وما تضمنته من مشاعر نبيلة ازاء تونس وشعبها فاني أعرب له عن ارتياحنا وتقديرنا لعلاقات التعاون المتميزة السائدة بين تونس والمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة. كما أشكر فخامة السيد عبدو ضيوف الامين العام للمنظمة الدولية للفرانكوفونية على كلمته اللطيفة ومشاعره الودية نحو بلادنا مكبرا تعاون المنظمتين معنا في اعداد هذا المؤتمر وتكريس اسهامهما في ترسيخ أسس التفاهم والتعاون بين الشعوب. ومن دواعي ارتياحنا أن ينعقد المؤتمر الدولي حول "حوار الحضارات والتنوع الثقافي" في اطار احتفال بلادنا هذه السنة بالقيروان عاصمة للثقافة الاسلامية باعتبار هذه المدينة احدى المنارات الحضارية العريقة التي أشعت على منطقة البحر الابيض المتوسط وكان لها دور ريادى في بناء جسور التواصل والحوار والسلام بين المشرق والمغرب. حضرات السادة والسيدات يعيش عالمنا في مطلع هذه الالفية الثالثة تحولات عميقة وتحديات جسيمة خصوصا منذ ظهور الازمة المالية والاقتصادية الجديدة إضافة الى تفاقم الفروق الاقتصادية والثقافية والاتصالية والعلمية والتكنولوجية التي تفصل بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية واستفحال معوقات السلم والتنمية بشكل يبعث على القلق والانشغال. ولا يسعنا والوضع العالمي على ما هو عليه الا أن نثابر مع أعضاء المجموعة الدولية على اعتماد سبيل الحوار والتعاون دون فتور أو كلل. ذلك أن حجم المشاكل القائمة وخطورتها تدعونا الى الاسراع بتوحيد جهودنا على كل المستويات المحلية والقارية والاقليمية والدولية للدخول في مرحلة جديدة من التعاون تقر بكونية القضايا الانسانية المطروحة وعدم تفضيل احداها على الاخرى أوالاهتمام ببعضها على حساب البعض الاخر. أدعو جميع الدول المحبة للحق والعدل والسلام الى الاسراع بوضع حد للانتهاكات المتكررة التي يتعرض لها اليوم التراث الديني والثقافي والتاريخي بالاراضي الفلسطينية المحتلة ولاسيما في مدينة القدس الشريف التي نحتفل بها هذه السنة عاصمة للثقافة العربية إننا في حاجة اليوم أكثر من اى وقت مضى الى تأسيس شراكة دولية للحوار والتعاون والسلم والتنمية تكرس التواصل بين جميع الامم في كل مكان بقطع النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة. ولابد أن نذكر بأن أحلك الحقب التاريخية التي مرت بها الانسانية وأبشع الجرائم التي ارتكبت في حقها سببها الاساسي نزعات التفوق العرقي ومركبات الغرور الحضارى والثقافي. فهذه النزعات والمركبات تجاهلت أن الانسان هو الانسان أبيض كان أو أسود أو أصفر مسلما كان أو يهوديا أو مسيحيا. كما تجاهلت أن الحضارة الانسانية هي انتاج مشترك متنوع المصادر نما وازدهر بروافد من الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب وأن الثقافة الانسانية هي كذلك متعددة الاصول والالوان تطورت وتوسعت بابداعات لغوية وأدبية وفكرية وفنية لشعوب تنتمي الى كل القارات. لذلك نجدد رفضنا القطعي للنزعة العنصرية التي تروج لوجود أجناس "راقية" وأجناس "متخلفة" ولثقافات "مبدعة" وثقافات "عقيمة" ولدين "سلمي" ودين "عنفي". ذلك أن الرقي والتخلف نسبيان يرتبطان بعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية واقتصادية لها صلة بواقع كل أمة وظروفها في مرحلة من المراحل سرعان ما يزولان بزوال هذه الظروف المحيطة بها والاسباب الدافعة اليها. أما الاديان السماوية الثلاثة فهي تشترك في قيم كونية يؤمن بها جميع البشر كالدعوة الى الحوار والاعتدال والتسامح والحث على الاخاء والتضامن وفعل الخير. ونحن نعتقد أن قيم الخير والحق والعدل وفضائل الاختراع والابداع والامتاع ليس لها جنسية لانها انسانية النزعة عالمية المحتوى تتجاوز الحواجز الجغرافية والانتماءات العرقية لخدمة الانسان حيثما كان. ومن هنا كان التقدير والخلود لعظماء العالم من الحكماء والشعراء والادباء والفلاسفة والمفكرين والعلماء والفنانين الذين أشعوا على البشرية كافة وأفادوها بأعمالهم الجليلة وكرسوا وحدة الجنس والمصير بين الناس أجمعين. قيم الخير والحق والعدل وفضائل الاختراع والابداع والامتاع ليس لها جنسية لانها انسانية النزعة عالمية المحتوى تتجاوز الحواجز الجغرافية والانتماءات العرقية لخدمة الانسان حيثما كان كما نرى من ناحية أخرى أن الحوار الذى ننشده وندعو الى تثبيته في العلاقات الدولية لا يمكن أن ينجح الا اذا بادر كل طرف منا شرقا وغربا باستهداف بلده في المقام الاول للتربية على ثقافة الحوار والتسامح وحقوق الانسان في مناهج التربية والتعليم وفي أنشطة مكونات النسيج الجمعياتي وفي برامج أجهزة الاعلام والاتصال ولدى الشباب والمرأة خاصة حتى تترسخ هذه الثقافة في العلاقات البشرية وتصبح قناعة ثابتة في التفكير والسلوك لدى المجتمعات قاطبة. وهو ما بادرنا به في تونس منذ أوائل تسعينات القرن الماضي فقمنا باصلاح مناهج التربية والتعليم خدمة لهذا التوجه وأحدثنا كرسيا جامعيا لحوار الحضارات والاديان ورصدنا جائزة عالمية للتضامن وجائزة عالمية لتشجيع الدراسات الاسلامية التي تروج للاعتدال والوسطية والفكر المستنير. واحتضنا عديد اللقاءات والندوات الاقليمية والدولية حول حوار الحضارات والتضامن الدولي صدرت عنها مجموعة قيمة من العهود والنداءات في الغرض. ولابد في هذا السياق أيضا أن نستهدف مظاهر الفقر والامية والمرض والبطالة والعزلة والتهميش بكل ما نملك من عزيمة واصرار لمعالجة أوضاعها والقضاء على أسبابها حسب امكانيات كل بلد وظروفه. فهذه المظاهر تقوم اليوم عائقا كبيرا أمام البلدان النامية وتمنعها من تطوير قدراتها الذاتية للاخذ بأسباب الرقي والمناعة. ولم يعد ممكنا ولا مقبولا من الناحية الاخلاقية أن نتجاهل هذه الاوضاع الانسانية أو نتهاون بشأنها سواء على المستوى المحلي أوعلى المستويين القاري والدولي. وهو ما يدعو المجموعة الدولية الى الاسراع بادراج هذه المسالة في سياساتها واختياراتها تفعيلا لمشاعر التضامن الانساني الكامنة في نفوسنا جميعا والتي يجب أن تحفزنا الى الالتزام بمعالجة هذه الاوضاع والتعاون على التقليص من حدتها قدر الامكان لانها تمثل على المدى البعيد عائقا أمام استتباب الامن والسلام في العالم. وهو ما دفعنا في هذا المجال الى الدعوة الى انشاء صندوق عالمي للتضامن تبنته منظمة الاممالمتحدة منذ سنوات قصد الاسهام في القضاء على الاختلالات بين الشعوب ودعم التكافل بينها. ذلك أن الحوار بين الدول يبقى في نظرنا ناقصا اذا لم يقترن بتعاون وثيق وفعال في مقاومة المخاطر التي تهدد الانسان في كيانه وكرامته وحرمته. القانون الدولي يجب أن يكون المرجع الاساسي الذى تحتكم اليه المجموعة الدولية وتعتمد عليه في تأمين مقومات السلم والتعايش في العالم وأن احترامه من الجميع شرط لازم لنجاح أى حوار جاد بين الحضارات والثقافات ان هذه القضايا من جوهر حقوق الانسان التي هي في اعتقادنا شاملة وعادلة أو لا تكون. فحقوق الانسان لا تقبل الفصل والتجزئة ولا يمكن أن يسود جانب منها على جانب اخر ولا أن تتم ممارسة حق منها على حساب حق اخر فهي منظومة متوازنة الاركان ومتكاملة الاهداف سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لان الحرية والديموقراطية لا قيمة لهما اذا كان المتمتع بهما يفتقر الى أدنى مقومات الحياة الكريمة من الصحة والتعليم والمسكن والمرافق الاساسية. ونحن نؤمن في هذا المجال بشمولية حقوق الانسان وكونيتها وبضرورة التعاون على تكريس هذا المفهوم المشترك في كل الميادين بعيدا عن كل انتقاء أو احتكار أو توظيف. ونشير من ناحية أخرى الى أن القانون الدولي يجب أن يكون المرجع الاساسي الذى تحتكم اليه المجموعة الدولية وتعتمد عليه في تأمين مقومات السلم والتعايش في العالم وأن احترامه من الجميع شرط لازم لنجاح أى حوار جاد بين الحضارات والثقافات. كما أن الحرص على حماية المنظومة القانونية الدولية مما تتعرض له من تجاوزات وانتهاكات والتعامل معها بصدق ونزاهة من شأنه أن يجنب ازدواجية المعايير في تأويلها وتطبيقها ويحد من مشاعر الاحباط والاحساس بالظلم ويرسخ الثقة بالشرعية الدولية وبالمؤسسات الاممية. واذ نعرب بهذه المناسبة عن ترحيبنا بفرص التلاقي والتخاطب التي تتيحها لنا تكنولوجيات المعلومات والاتصال الحديثة ولاسيما منها الانترنت فاننا ندعو الى أن لا تستغل هذه التكنولوجيات في تعميق الفروق والاختلافات بين البلدان وأن يغلب الجانب الاخلاقي في استخدامها حتى تسهم في اشاعة الاحترام المتبادل بين جميع الشعوب والحضارات والثقافات والاديان وفي التفتح عليها والتعريف بها وتكريس التبادل معها خدمة للتفاهم والسلام في العالم. وانه لمن الغبن في هذا السياق أن توسم ثقافة أو حضارة أو دين بالتطرف والارهاب استنادا الى جرائم يرتكبها متطرفون أو إرهابيون فيقع تعميم الحكم على أمة بعينها رغم كل ما حملته وتحمله هذه الامة في ماضيها وحاضرها من ثقافة الاعتدال والاخاء والسلام. كما أنه من الاجحاف أن تعمد بعض وسائل الاعلام والاتصال في العالم الى نشر أخبار تسيء الى الاديان والثقافات الاخرى ورموزها وتكرس صورة نمطية خاطئة لامة بأسرها بما من شأنه أن يصدم الضمائر ويغذى مشاعر الحقد والكراهية لدى المتطرفين في كلا الجانبين. أما فيما يتعلق بالتنوع الثقافي فنعتقد أن احترام هويات الشعوب وخصوصياتها هو الاطار الامثل لقيام حوار متوازن ومتكافىء بين الحضارات والثقافات والاديان. فالتنوع الثقافي بتعدد روافده وغزارة مضامينه لا بديل عنه لاثراء الحضارة البشرية.وينبغي أن لا يكون الاختلاف مبررا للالغاء والاقصاء بقدر ما يكون مجالا رحبا للتنوع والثراء. ذلك أن الاصرار على الترويج لثقافة نمطية واحدة تعمم على البشرية جمعاء هو في نظرنا تعسف على الواقع والتاريخ من شأنه أن يحرم الثقافة الانسانية من تعدد ابداعاتها ومكاسبها ويمهد السبيل لانتشار نزعات التعصب والتطرف بدل التفاهم والوئام. إننا في حاجة اليوم أكثر من اى وقت مضى الى تأسيس شراكة دولية للحوار والتعاون والسلم والتنمية تكرس التواصل بين جميع الامم في كل مكان بقطع النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة ويطيب لي بهذه المناسبة أن أثني على جهود سائر المنظمات الدولية والاقليمية الداعمة للتنوع الثقافي وأن أشيد بالمبادرات والتوصيات والقرارات الصادرة في المجال عن منظمة الاممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة /اليونسكو/ ومنظمة المؤتمر الاسلامي والمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة /الايسيسكو/ والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم /الالكسو/ والمنظمة الدولية للفرانكوفونية ومجلس أوروبا وسائر الجهات المساندة لهذا التوجه لانها تندرج كلها ضمن مواقف انسانية نبيلة وشجاعة تعبر عن السياق الحقيقي للحضارة والتاريخ. ونعتبر اتفاقية /حماية وتعزيز تنوع اشكال التعبير الثقافي/ التي اعتمدتها الدول الاعضاء في منظمة اليونسكو بباريس خلال شهر أكتوبر 2005 انجازا تاريخيا كبيرا واضافة نوعية بارزة تستحق منا كل المساندة والدعم. ونرجو أن تحظى هذه الاتفاقية بما هي به جديرة من عناية ورعاية لدى كل الحكومات وصانعي القرار ومكونات المجتمع المدني وسائر المعنيين بالشأن الحضارى والثقافي عامة حتى تساعد على ارساء علاقات دولية سليمة تقوم على التكامل والاحترام المتبادل. واذ أنوه في هذا المقام بكل اسهام ايجابي في المحافظة على التراث الحضارى والثقافي العالمي حيثما وجد فانني امل أن تحرص كل المنظمات الدولية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية على تكريس احترام المعالم التاريخية والمكونات التراثية لكل بلد والعمل على حمايتها من كل أشكال الانتهاك والتشويه والاساءة. وأدعو بهذه المناسبة جميع الدول المحبة للحق والعدل والسلام الى الاسراع بوضع حد للانتهاكات المتكررة التي يتعرض لها اليوم التراث الديني والثقافي والتاريخي بالاراضي الفلسطينية المحتلة ولاسيما في مدينة القدس الشريف التي نحتفل بها هذه السنة عاصمة للثقافة العربية. حضرات السادة والسيدات أجدد في الختام الترحيب بكم في تونس معربا عن مشاعر الاعتزاز بانعقاد هذا المؤتمر الدولي الكبير ببلادنا مشيدا بالتعاون القائم بيننا وبين المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة والمنظمة الدولية للفراكوفونية وغيرها من المنظمات الاقليمية والدولية المختصة التي نجدد لها التأكيد بهذه المناسبة أن تونس كانت وما تزال جسرا مفتوحا على العالم للتلاقي والحوار والتعاون في كل ما يعود على البشرية بالخير والامان والسلام. واني على يقين بأن مؤتمركم سيتوفق بفضل مشاركة عدة كفاءات علمية وثقافية ودينية الى اصدار التوصيات العملية الكفيلة بتكريس الحوار بين الحضارات والاعتراف بالتنوع الثقافي واحترامه. مع أطيب تمنياتي لكم جميعا بالسعادة والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".