منذ يومين كنت أنتظر تاكسي في الشارع الرئيسي، وارتكب دائما نفس الحماقة بتأخري حتى حلول ساعة نهاية العمل اليومي، وكلما أوقفت سيارة خطفها من هو أسرع مني وأوقح. سمعت صوتا لطيفا بالفرنسية: ماذا يجري في هذا البلد، كيف يمكن أن يترك سائق تاكسي امرأة جميلة تنتظر؟ التفت: رجل وامرأة تجاوزا الستين بسنوات وأكثر. يرتديان نفس الزي الرياضي الأنيق, بنطلون أزرق غامق وقميص ابيض وعلى كتفيهما كنزة زرقاء، رغم المساحيق على التجاعيد تحتفظ المرأة بخيوط جمال لم يزل. أما الرجل فرغم السن ما زال وسيما وبصراحة واضحة. ردد الرجل: هل تريدين أن نفتك لك تاكسي؟ ضحكت وقلت له أن صبري طويل و بعد قليل ستكون الساحة أرحب. لكن بعد أكثر من نصف ساعة تكاثف عدد المنتظرين وقل عدد السيارات. عاد الرجل والمرأة ويده على كتفها وحالة من الوصل تصل بينهما، احتج الرجل مازحا: كيف ذهبنا للمشي وعدنا وما زالت المرأة الجميلة تنتظر؟ ما رأيك بفنجان قهوة حتى يخف الانتظار، لم أتردد وافقت فورا، فشيء ما جذبني ربما ذلك البريق في العينين. شيء يشبه الحب. جلسنا في قهوة الفندق أين يقيمان، دار الحديث وكأننا نعرف بعضنا من زمان. كريستين ومارك أتيا من باريس عاصمة الحب والأضواء. هو طبيب متقاعد وهي استاذة جماعية متقاعدة أيضا. تعارفا خلال الدراسة الثانوية، وربطتهما علاقة حب عنيفة، عندما تقدم لطلب يدها رفض والدها للفارق الاجتماعي بين العائلتين. وانتقلت مع عائلتها الى اليونان حيث يعمل والدها طبيبا في الجيش. تجاوزت السنوات سنوات أخرى. تزوج كل منهما بآخر. وأنجبا أولادا وبنات، تزوج الأولاد والبنات. انفصل هو عن زوجته. وتوفي زوجها. وبعد ثلاثين سنة قرر البحث عنها. ووجدها وقررا بداية حياتهما في نقطة بدء الأمس. هو في الخامسة والسبعين وهي في الثانية والسبعين. كانت المغرب المحطة الأولى لرحلة الحب الجديد، والثانية تونس.. في طريقهما الى جزيرة جربة . وكأنها قصة لماركيز. لكنها قصة حقيقية يوم الثلاثاء الماضي. وكانت من نصيبي انا التي تؤمن بالحب كيقين ثابت وقدرته على احياء نفسه، دعوتهما للغذاء في اليوم التالي في مطعم في حلق الوادي. كانا طوال الوقت متشابكي الأيدي. لم يتكلما عن الماضي، كل الحديث دار حول ما ذا سيفعلان الأيام القادمة. ودعت كريستين ومارك دون وعد بلقاء آخر. أردت أن أترك الحكاية في مخيلتي بين الحقيقة والخيال.. استحوذا على تفكيري منذ يومين. وها أنا أحكي الحكاية. فمنذ فترة لم أعد أحكي الحكايات كي أغير العالم. لكن أحكي الحكايات خوفا من أن يغيرني العالم. هل الحب ممكن في خريف العمر ؟ اذا كان العمر رحلة بين شافتين. سيصل بني آدم الذي حمل حياته على كتفيه كصخرة سيزيف، الى الشاطيء الآخر محملا بدروس الحياة. سيصل وفي قلبه حكايات سفر. حكايات حب. حكايات ألم. حكايات حياة. وأروع ما في الابحار هو الوصول الى مرفإ هانئ، الى خريف العمر. للزمن علامات وأمارات. هو قادر على التغيير والتبديل. لكن يبقى كل ما هو جميل جميل. فكل ما في الحياة يغري بالامتلاك. والحب امتلاك الحياة. هو حقيقة قادرة على شفاء الروح. الحب ليس سرابا ولا خداعا للنفس. انه معاناة وانتظار وشهوة، انه شعور لا نهائي عابر للزمان. قادر على تجاوز الشيخوخة وتجاعيدها. انه احساس قوي جارف، يعصف بقلوبنا المنهكة فيعيد اليها زلازل الشك واليقين. يعيد للجسد لذة ارتعاش الحياة. يقلب عجلة الزمن كنواعير الهواء. يطرق الباب ونحن على وشك وضع المراتيج. يعيد الخريف الى أحلام الربيع. الى الأماني والأحلام والأشواق والرسائل دون ترصيف كلمات أو تنسيق سطور. الحب في خريف العمر هو شمس دافئة خلف غيوم يوم ممطر. لا بد أن نتمسك به بكل عنف.. فهو النفس الأخير. النبضة الأخيرة. البحر الأخير والتوق الأخير. القطار الأخير والمحطة الأخيرة.. في الخريف نحب أكثر. نصدق أكثر. تصبح الشمس أدفأ. القمر أكبر. يصبح الثلج دافئا. ويصبح الأصفر أخضر.. الحب في خريف العمر ليس فقط مشاعر جميلة , لكنه فرصة متجددة للحياة. شكرا كريستين ومارك ..