من نعم اللّه على العبد أن يكون مرهف الإحساس، رقيق المشاعر. صادق العواطف مكتملها متوازن الشخصية، ينجذب الى الصوت الحسن واللحن الشجي ومختلف فنون الأدب والشعر والنوادر،و ذلك لأن هذه الصفات كما يراها الأخصائيون هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب. و«الذي لا يحرّكه العودُ وأوتاره واللحن وأنغامه يعتبر فاسد المزاج يحتاج الى علاج». وبتقصّينا لتاريخ الأدب العربي والاسلامي نجد أن علماء المسلمين قد اختلفوا في أمور الطرب والغناء والأصوات والألحان بين من يحرّم ذلك مطلقا ويعتبرها ملهاة عن العبادة والأعمال الصالحة وبين من يجيزهاويشترط تجنّبها لكل ما يخالف الشرع أو يخدش الحياء أو يتنافى ومبادئ السلوك الحضاري القويم، ولعلنا نورد في هذا المقام أدلة على سماحة الإسلام. وتلاؤمه مع الفطرة البشرية وعدم كبته للمشاعر والعواطف باعتبارها غرائز فطرية لا يرفضه الدين ولكنه ينظمها ويضعها على الطريق السويّ. 1 ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري لما أعجبه حسن صوته (لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود). 2 قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لزوجه عائشة: أهديتم الفتاة الى زوجها؟؟؟ قالت نعم، قال : فهل بعثتم معها من يغني؟؟؟ قالت: لا، قال: ألا بعثتم معها من يقول: آتيناكم أقيناكم فحيّونا نحييكم ولولا الحبّة السمرا لم نحلل بواديكم. 3 من الأخبار الصحيحة أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه دخل على ابنته عائشة وعندها جاريتان تضربان بالدفوف في أيام الحج بمنى فانتهرهما ولكن رسول اللّه الذي كان متغشيا بثوبه يكشف عن وجهه ويقول له: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. 4 استقبل نساء المدينة المنوّرة رسول اللّه عند الهجرة إليها بالانشاد وبضرب الدفوف والألحان وهن يردّدن النشيد المشهور. طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا للّه داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع ولعلنا لا نطيل في استعراض وسرد عديد المواقف الدالة على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجيز الترويح عن النفس بما يفرحها ويزيل حزنها وكآبتها وهو الذي كان يحث الشاعر حسان بن ثابت على قول الشعر، وهو الذي كان يستمع الى شعر الخنساء ويستزيدها وهو الذي أهدى بردته الى كعب بن زهير حين أنشده قصيدته العصماء التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم اثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلاّ أغن غضيض الطرف مكحول كما استشهد عليه الصلاة والسلام ببيت شعر جاهلي حين قال: أصدق ما قاله العرب الشعراء قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل وكل نعيم لا محالة زائل 5 قال بعض المفسرين في قول اللّه تعالى: (يزيد في الخلق ما يشاء) هو الصوت الحسن، والخلاصة أن الغناء والألحان العذبة توقع بالقلوب وتختلس العقول وتهزّ المشاعر وخاصة إن كانت صادرة عن وجه حسن ذي صوت حسن كما يقول الشاعر: ربّ سماع حسن سمعته من حسن مقرّب من فرح مبعد من حزن لا فارقاني أبدا في صحة من بدن (وإلى جزء ثان قادم)