قيس سعيّد يترأس جلسة عمل حول مشروع تنقيح هذا الفصل..    تنبيه/ تحويل ظرفي لحركة المرور ليلا لمدة أسبوع بهذه الطريق..    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    التضامن.. الإحتفاظ ب3 اشخاص وحجز كمية من المواد المخدرة    الليلة: سحب عابرة ورياح قوية والحرارة تتراوح بين 16 و26 درجة    فقدان 23 تونسيا في'حَرْقة': ايقاف 5 متهمين من بينهم والدة المنظّم واحد المفقودين    مدير عام ديوان تربية الماشية: النحل يساهم في ثلث غذاء الإنسان    وزيرة التجهيز تؤكد على جهود تونس في تحقيق التنمية بالجهات وتطوير الحركة الجوية بالمطارات الداخلية    الميزان التجاري يستعيد عافيته...رصيد المبادلات الخارجية يتطور ب %24    التوقعات الجوية لهذه الليلة    نابل: وفاة شاب واصابة 10 أشخاص في حادث خطير    أغنية لفريد الأطرش تضع نانسي عجرم في مأزق !    عروض ثريّة للإبداعات التلمذيّة.. وتكريم لنُجوم الدراما التلفزيّة    والي بن عروس: فخور ب"دخلة" جماهير الترجي وأحييهم ب"عاطفة جيّاشة"    وزير التعليم العالي يترأس الوفد التونسي في منتدى التعليم العالمي 2024 في لندن    الافريقي يرفض تغيير موعد الدربي    رفض الافراج عن سنية الدهماني    إضراب عن العمل بإقليم شركة فسفاط قفصة بالمظيلة    وزارة التربية: هذه هي الانشطة المسموح بها بالمؤسسات التربوية خارج أوقات التدريس    موعد تنظيم أيام كندا للتوظيف بتونس.. وهذه الاختصاصات المطلوبة    بودربالة يوجه الى نظيره الايراني برقية تعزية في وفاة إبراهيم رئيسي    وزيرة السعادة تحافظ على مركزها ال9 في التصنيف العالمي    الهلال الأحمر الإيراني يكشف تفاصيل جديدة حول تحطّم المروحية الرئاسية    أبطال إفريقيا: الكشف عن مدة غياب "علي معلول" عن الملاعب    تقرير يتّهم بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوّث أودت بنحو 3000 شخص    سيدي بوزيد: تواصل فعاليات الدورة 15 لمعرض التسوق بمشاركة حوالي 50 عارضا    تزامنا مع عيد الاضحى : منظمة ارشاد المستهلك توجه دعوة لقيس سعيد    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    الشاعر مبروك السياري والكاتبة الشابة سناء عبد الله يتألقان في مسابقة الدكتور عبد الرحمان العبد الله المشيقح الأدبية    القيروان: إنتشال جثة سبعينية من فسقية ماء بجلولة    الجنائية الدولية تطلب إصدار مذكرة اعتقال ضدّ نتنياهو    فظيع: غرق شخص ببحيرة جبلية بجهة حمام بورقيبة..    تونس : أنواع و أسعار تقويم الأسنان    النادي الإفريقي: اليوم عودة التمارين إلى الحديقة .. ومعز حسن يغيب عن الدربي    اشادات دولية.. القسّام تتفاعل وإعلام الكيان مصدوم...«دخلة» الترجي حديث العالم    انطلقت أشغاله الميدانيّة: التعداد السكاني دعامة للتنمية الاقتصادية    الأولمبي الباجي أمل جربة ( 2 1) باجة تعبر بعناء    خامنئي يعزي بوفاة رئيسي ويعلن الحداد 5 أيام..#خبر_عاجل    هام/ هذه نسبة امتلاء السدود..    تونس تقدم التعازي في وفاة الرئيس الايراني    دول إفريقية مستعدّة لتنظيم عودة منظوريها طوعيا من تونس    عاجل/ وفاة رئيس ايران تنبأت به الفلكية ليلى عبد اللطيف قبل شهرين..وهذا ما قالته..!!    تونس تتوج ب 26 ميداليّة في المسابقة العالميّة لجودة زيت الزيتون في نيويورك    بينهم زعيم عربي.. زعماء دول قتلوا بحوادث تحطم طائرات    استدعاء ثلاثة لاعبين لتشكيلة البرازيل في كوبا أمريكا واستبدال إيدرسون المصاب    هذه أول دولة تعلن الحداد لمدة 3 أيام على وفاة الرئيس الايراني..#خبر_عاجل    تحذير من موجة كورونا صيفية...ما القصة ؟    القصرين : الوحدات العسكرية تشارك أبناء الجهة احتفالاتها بالذكرى ال68 لإنبعاث الجيش الوطني التونسي    نهائي "الكاف": حمزة المثلوثي رجل مباراة الزمالك ونهضة بركان    المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسيدي بوزيد تستعد للموسم الثقافي والصيفي 2024    من هو المرشح الأول لخلافة الرئيس الإيراني؟    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطيب ظلم نفسه
نشر في الشروق يوم 04 - 09 - 2010

د. هشام قريسة - (جامعة الزيتونة بتونس)
جاء في حديث «محمد مشفر» في الحصة التلفزية ليوم الجمعة 27 أوت 2010 الموافق ل 17 رمضان 1431 – قوله «إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الإسلام، و أنهم آذوه و رموه بالحجارة حتى دميت قدماه، وأنه أخذ «يجري ...يجري ...يجري» حتى وصل إلى حائط (وهو بستان) على ملك شيبة وعتبة ابني ربيعة.
هذا كلامه أو قريب منه، ولكن الذي سمعته جيدا منه وهو محل هذا الرد عليه ، وصف النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الطائف بأنه « يجري...يجري...يجري» ومعنى هذا التأكيد أنه هرب لا يلوى على شيء، هذا ملخص كلامه، فكيف نٌقلت الحادثة في كتب العارفين؟
سأقتصر على مصادر ثلاثة مهمة من تآليف المسلمين مع التعليق عليها .
أولا:
ما ذكره اليعقوبي (ت 282ه) «في تاريخه» متحدثا عما فعله كبراء أهل الطائف بالنبي صلى الله عليه وسلم – قال « وتهزؤوا به و أفشوا في قومهم ما قالوه له، وقعدوا له صفّين، فلما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجموه بالحجارة حتى أدموا رجليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر ، ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة ومعهما غلام نصراني يقال له « عدّاس» فوجّها به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (بعنقود عنب) فلما سمع كلامه أسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة [تاريخ اليعقوبي ج 1 ص 355].
فأين في القصة أنه « يجري ...يجري...يجري» ؟ وهو وصف ذميم بحق النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو غير حقيق به، مجانب للخبر، بل الذي في الخبر أنه صمد وهو يسير مُنصَرفه من الطائف حتى قال: «ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر « من كثرة الحجارة التي رُمي بها ولو أنه جرى و هرب لَمَا دميت قدماه ولَمَا سار فوق هذه الحجارة المتطايرة المنثورة التي رجم بها ، هذه الحجارة التي أصبحت له بساطا يمشي عليه هو والسائرون مثله في منهج الله لإقامة دعوة الحق.
ولكن أنّى لعَلَم تونس وخطيبها الأوحد أن يدرك أن ما قاله لا يليق بسيد الأوّلين والآخرين من نسبة النبي صلى الله عليه وسلم - تندُّرا وثرثرة – إلى الجري المفرط المنبئ عن الهرب.
ثانيا :
ما ذكره الحافظ الذهبي ( ت 748 ه) في كتابه «سير أعلام النبلاء» في باب عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل قال: «وتوفي أبو طالب ، وابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ ما كان، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يُؤووه فوجد ثلاثة منهم هم سادة ثقيف: عبد ياليل و حبيب و مسعود ، بنو عمرو ...إلى أن قال: «وتهزؤوا به، و أفشوا في قومهم الذي راجعوه به، وقعدوا له صفّين على طريقه، فلما مرّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة ، وأدموا رجليه ، فخلص منهم وهما تسيلان دماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم، واستظل في ظل شجرة، وهو مكروب، موجع [سير أعلام النبلاء ج1 ص 143] .
فقوله «فلما مرّ» ينبئ على أنه كان يمشي، لا يجري، إذ لفظ «مرّ» في اللغة تعني «جاز و ذهب»، ولو أنه هرب – كما ادّعى الشيخ النّحرير، أدام الله فضائل علمه علينا، لما رضخت قدماه و الرضخ هو الكسر و الدقّ ويستعمل لفظ « الرضخ» في كسر الرأس والعظم وتدلّل جميع الروايات التي ذكرها أعلام السيرة و الآثار والتاريخ من المسلمين على أنه ما رفع رجلا ولا وضع أخرى إلا على الحجارة التي رميت عليه ، وهو صلى الله عليه وسلم منصرف عنهم، صابر، محتسب لله، مكروب ، مجهد من الإرهاق، موجع مما أصابه، ولكن صورة « الحدث» منقلبة في ذهن «مشفر» فصوّر النبي رجلا هاربا بجلده ، وتكرار كلمة «يجري» ثلاث مرات، تصوّر أنه سابق الريح وأنّه «فلت» فلم يقدروا عليه، ولو كان الأمر كذلك ، لما أصيب بأذى ولما تعرّض لتدمية ولا رضخ و لا سيلان دم ، فإن ما أصابه يوم ثقيف من الكرب و الوجع لا يتناسب مع الجري الذي وصفه به الشيخ «مشفر» هديّة الزيتونة المتربع على كرسيه الفاخر، المنقوش، المتسربل في جبّته الوثيرة ولسان حاله يقول:
أصبحتُ لابسًا ثوب النّياشين يخالُني عالمًا من ليس يدريني
هذا «الجري» الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم على حدّ كلام الواعظ يعني « هربا مغلّفا» وهو قبيح في حق الرجال و الشجعان و النبي صلى الله عليه وسلم سيّدهم، فكيف يتحلّى بخصلة هي من خصال الجبناء ، ولقد كان الشعراء يتندّرون بالمنهزمين، الفارّين من ساحة الوغى ويصفون هروبهم بالجري الشديد المنبئ عن كثرة الخوف والهلع .
قال أبو الطيب المتنبي يصف طائفة من الناس فرّت من سيف الدولة الحمداني في إحدى المعارك، و يتهكّم من سرعة هربهم :
مَضَوا مُتسَابقي الأعضاء فيه لأرؤسهم بأرجلهم عثارُ
فوصفهم من كثرة جريهم، أن أعضاءهم كانت تتسابق، حتى كانت رؤوسهم تتعثر بأرجلهم.
وهو تصوير مضحك لهؤلاء المهزومين، الفارّين، ولكن تصوير المتنبي لفرار هؤلاء هو دون تصوير» مشفر» للنبي صلى الله عليه وسلم في الجري وقد انقطع نَفَسه إثر مغادرة الطائف.
ثالثا: ما جاء في «الطبقات الكبرى» لابن سعد (ت 230 ه) وهذا الكتاب من أقدم مصادر التاريخ عند المسلمين – يقول: لما تُوُفّي أبو طالب تناولت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم واجترؤوا عليه، فخرج إلى الطائف و معه زيد بن حارثة فأقام بالطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فلم يُجيبوه وخافوا على أحداثهم، فقالوا :»يا محمد اخرج من بلدنا والحق بمجابك من الأرض» وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شجّ في رأسه فانصَرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة [الطبقات الكبرى ج1 ص 211]
فبالله عليك يا «مشفر» هل هذه الوقائع المذكورة في حق النبي صلى الله عليه وسلم من رضخ عظامه، وتدمية قدميه و مشيه على الحجارة التي رمي بها ، تدل على أنه هَرب ، قد تقول: أنا قلت» يجري...يجري...يجري» حتى وصل إلى الحائط» أجيبك: هل لهذا التأكيد معنى غير الهرب؟ وهو الإبعاد في الأرض والجدّ في الذهاب مذعورا.
فأنت صوّرت النبي كأنه رجل ذو أجاريّ، أي ذو فنون في الجري وما هذا بالقول السديد، والله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما .[الأحزاب 70-71]
فما ستقوله من صفات حسنة في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم أهدَرته بهذه الكلمة التي جريت فيها على غير سَنَن النُبوة وآدابها.
فانظر أيها القارئ – متّعك الله بالسداد والتوفيق ، ونجّاك الله من زلاّت الخطابة و المشيخيّة الزائفة خُطورة كلمة واحدة، قد لا يُلقَى لها بَالٌ وهي كلمة «يجري» المكرّرة و ما تجرّه من ويلات فهي تصوّر النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دنيئة، تحطّ من مقامه، وإنّما قصد الناس ببلدنا إحياء معالم الدين وتجديد مناراته ورفع قيمه، فاختاروا لذلك وُعّاظا وخُطباء لهذا الشأن و أكرموهم وخصّوهم بالعناية و الحُظوة، ولكنّ طائفة من هؤلاء لم يقدّروا ذلك ولم يحصّنوا كلامهم بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يلزموا حدود الأدب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستفرغوا وسعهم في طلب علوم الشريعة، أو لعلّ هممهم كانت قاصرة عن ذلك، فأساؤوا من حيث يظنون أنّهم يحسنون صنعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.