جادت مؤخرا قريحة الهيئة الوطنية للمحامين بمشروع قانون في شكل مشروع مرسوم يرمي أصحابه إلى إصداره من قبل الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية. وقد أثار هذا المشروع موجة من الاعتراضات والوقفات الاحتجاجية خاصة من طرف الخبراء المحاسبين وعدول التنفيذ الذين رأوا فيه مساسا بدورهم في عدد من الأعمال التي اعتادوا القيام بها في إطار صلاحياتهم المعهودة وبالتالي هي مساس بمصالحهم المادية والمعنوية. وبالاطلاع على مشروع القانون الذي تقدمت به الهيئة الوطنية للمحامين، مع مقارنته بأحكام التشريع الحالي الجاري به العمل يتضح أن المشروع يثير عديد الملاحظات والتساؤلات ومنها على وجه الخصوص ما يلي: أولا: مكانة المحاماة: أقول لواضعي المشروع، لقد كدت أن أكون زميلا لهم بعد حصولي على شهادة الكفاءة لمهنة المحاماة في السبعينات، غير أن عملي في الادارة وفي قطاع المؤسسات إلى غاية بلوغي سن التقاعد حال دون شرف الانتساب الفعلي إلى مهنة تقوم على نصرة الحق وتساعد على إقامة العدل الذي هو أساس العمران، وتستحق بالتالي أن يعتبرها المجتمع من أنبل المهن وأن ينظر إليها نظرة مثالية تريد أن تسمو بها فوق الشبهات. ثانيا: مدى مشروعية التقنين الذاتي: أول ما أثار استغرابي أن تبادر الهيئة الوطنية للمحامين باعداد واقتراح مشروع قانون ينظم مهنة المحاماة، والحال أن مهمة صياغة مشاريع القوانين والأوامر التنظيمية هي عادة من مشمولات الادارة بوصفها طرفا محايدا يرعى الصالح العام ويأخذ بعين الاعتبار مصالح وحقوق مختلف الفئات دون حيف أو انحياز. أما أن تتولى أية مهنة من المهن مهمة التقنين الذاتي ليقتصر دور السلطة القائمة على إصدار ما تعرضه عليها من مشاريع فإن ذلك يؤدي الى تغليب النظرة الفئوية على حساب الغير. وهذه النظرة الفئوية هي التي جاءت بمشروع أثار حفيظة أهل مهن أخرى لأنه ينال من حقوقهم ومن مصالحهم المشروعة. ثالثا: توقيت المشروع: لنا أن نتساءل عن الحكمة في تقديم مشروع القانون في هذا الوقت بالذات الذي تتولى فيه شؤون البلاد سلطة مؤقتة تقتصر مهامها على تصريف الأعمال الهامة أو العاجلة، ولا أعتقد أن تنظيم مهنة المحاماة أو أية مهنة أخرى هو من قبيل الأعمال العادية أو العاجلة التي لا تحتمل الانتظار الى أن تقوم سلطة شرعية غير مؤقتة. رابعا: مساهمة المهنة في إقامة العدل: ينص الفصل الأول من القانون الحالي المنظم للمهنة على أن المحاماة مهنة حرة مستقلة تساعد على إقامة العدل. وجاء المشروع ليضيف الى ذلك في فصله الأول أن المحاماة «تدافع عن الحريات والحقوق الأساسية». والواقع أن هذه الاضافة مجرّد تكرار لا طائل من ورائه لأن إقامة العدل تعني في ما تعني الدفاع عن الحرّيات وحقوق الانسان ولكن أمام القضاء وليس في ساحات الوغى السياسي. خامسا: اختصاص المهنة: بنظرة فئوية خالصة يريد مشروع الهيئة الوطنية للمحامين في فصله الثاني أن يختص المحامون «دون غيرهم» بنيابة الأطراف وبتقديم النضج والاستشارة لهم وإتمام جميع الاجراءات في حقهم والدفاع عنهم لدى المحاكم وسائر الهيئات القضائية والادارية والتأديبية والتعديلية وأمام الضابطة العدلية. كما يختص المحامون دون سواهم بتحرير العقود والاتفاقات المتعلقة بالأصول التجارية وعقود تأسيس الشركات وأعمال الشركات والعقود الخاصة بالملكية العقارية، دون المساس بما أجازه القانون لفائدة عدول الاشهاد. ويضيف نفس الفصل أن الأعمال المنجزة من طرف أشخاص آخرين غير المحامين تكون «باطلة بطلانا مطلقا». ولا بد من الاشارة هنا الى أن البطلان المطلق يكون مبدئيا جزاء القيام بعمل خطير، ينال من النظام العام، فماهو الفعل الضار بالنظام العام إذا أنجز أشخاص عاديون من غير المحامين الأعمال المذكورة بالفصل الثاني في المشروع؟ وهل أن الحفاظ على النظام العام يقتضي اختصاص المحامين بتلك الأعمال؟ هذا ويثير الاختصاص الواسع الذي يمنحه مشروع الهيئة جملة من الملاحظات منها أن القانون الحالي يسمح للمحامي بإمكانية إنجاز الأعمال المذكورة بعيدا عن منطق الاستئثار أو الاختصاص الاجباري. ولنا أن نتساءل هل ان الاختصاص بنيابة الأطراف أمام الهيئات القضائية سيلغي حق المواطنين في الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم أو في إنابة أحد أصولهم أو فروعهم أو أزواجهم في الحالات التي لا يستوجب فيها القانون الاستعانة بمحام وفق ما جاء بالفصل 26 من القانون الحالي؟ ومن ناحية أخرى يبدو أن اختصاص المحامين يهدف إلى إلغاء حق الادارات العمومية أي أن تفوّض موظفين معتمدين من طرفها للنيابة عنها أمام سائر المحاكم عملا بالفصل 26 من القانون الحالي. وفي ما يتعلق بالدفاع أمام الهيئات التأديبية، فإن الاختصاص المراد منحه للمحامي في هذا المجال يعني ببساطة منع الماثل أمام مجلس التأديب من حق الاختيار بين الدفاع عن نفسه بنفسه أو الاستعانة لهذا الغرض بمحام أو بالممثل النقابي أو بمن يراه مثلما جرت به العادة ومثلما تنص عليه عديد الأحكام والاتفاقيات القطاعية المتصلة بالعلاقات المهنية. (يتبع)