تناول الامام الغزالي علم اصول الفقه تناولا اخر . وهو تناول بنائي ايجابي في كتاب « المستصفى « فلم يكن متجاوزا حدا بعيدا في الافتراق عن الاوضاع المتقدمة قبله في جوهرها وموضوعها . نعم ان كتاب « المستصفى « امتاز بحسن العرض ، بوضوح البيان وباستقامة البراهين وبنصاعة الحجج ، وبحسن الجمع وحسن الترتيب ، وحسن المقابلة وحسن الاستدلال . ولكنه في جوهره لخص علم « اصول الفقه « على نحو ما هو عليه في كتاب امام الحرمين « البرهان « او في كتاب القاضي ابي بكر الباقلاني من قبله « التقريب والارشاد « ، فلم يأت الغزالي في كتاب « المستصفى « بانظار جديدة في اصول الفقه ولم يغير اصول الفقه ولكنه اكتفى بالنقد المنهجي الذي يرجع الى الغاية من استعمال العلم لا الى جوهر العلم في ذاته ولخص علم اصول الفقه بباعه الطويل وعلمه الجليل في كتاب « المستصفى « الذي كان من اخر الاوضاع العلمية في حياة الغزالي . فابرز اصول الفقه بروزا واضحا استمد شيئا كثيرا من سمعة الغزالي ومن منزلته ومن البراعة الفائقة التي اظهرها في تحرير هذا الكتاب وتأليفه . ثم جاء الامام الرازي فاعتمد على المصادر المتقدمة والمصادر التي ظهرت في السلسة الاخرى التي سنأتي عليها فيما بعد وهي السلسة المالكية وابرز كتابه الذي سماه « المحصول من علم الاصول « وقفز فيه الى نفس ما قفز الغزالي في كتاب « المستصفى « حتى ان العنوان يعنون على نفس الغاية التي يعنون عليها في كل من الكتابين « المستصفى « او « المحصول « بحيث انه لخص الاراء وناقش الادلة واورد المذاهب وحججها . وجاء بعده سيف الدين الآمدي . فوضع كتاب « الاحكام في اصول الاحكام « . فكان كتابا ينزع نزعة الغزالي والرازي في ايراد المذاهب ومناقشتها . الا انه ابرز شيئا من السعة في العرض امتاز به على كتاب « المحصول « للامام المازري وشيئا من التحرر في الالتزام ، بمقتضاه اظهر الميل الى آراء لم يكن الرازي ولا الغزالي ولا امام الحرمين يميلون اليها من قبله . وهي الاراء المعروفة بنسبتها الى الآمدي في المختصرات الحديثة لاصول الفقه . وجاء البيضاوي في القرن السابع فوضع كتابه « المنهاج « وبناه على طريقة جمع الاراء المختلفة وبيان ادلتها ومناقشة الادلة على معنى انه مستقر دائما على راي معين منها ، يجعل مناقشة غيره للاسقاط ومناقشته هو للتحصيل بحيث ان الغاية منه انما كانت الاقناع بصواب المنهج الاصولي الذي يسير عليه فقهاء الشافعية . وجاء من بعده العضد فتناول مختصر بن الحاجب الذي سنراه في السلسلة المقابلة وهي المالكية ، وقرب تقريبا واضحا بين المذاهب باعتبار كونه شافعيا يشرح كتابا مالكيا ويعيش في بيئة مختلطة بين شافعية وحنفية . فكانت عنده نظرة واسعة الى الاصول الحنفية التي عاشت بمعزل عن هذه المدرسة التي هي مدرسة امام الحرمين . وكانت عنده بحوث مستقلة وآراء دقيقة بحيث انه انتصب منصب الحكم في كل قضية من القضايا التي اوردها ابن الحاجب على النحو الذي سنراه في مختصر ابن الحاجب . ففتح بذلك بابا جديدا جعل بمقتضاه علم اصول الفقه عبارة عن عمل من التحليل الرياضي ليس متجها الى غاية معينة من تحصيل منهج وانما هو متجه الى اعمال النظر والى الحكم المستقل والى المناقشة بين الآراء والمذاهب بصورة تحليلية جزئية يكون للكاتب فيها في كل موضوع من المواضيع رأي خاص بحسب ما يرى انه التحقيق بالنسبة الى ذلك الموضوع . فجاء العضد يحقق علم اصول القه على طريقة التحقيق التي اصبحت آخذة بمقالة العلم في القرن الثامن . فاذا انتهينا الى عضد الدين عبد الرحمان الايجي في شرحه على مختصر ابن الحاجب ورأينا مقدار التعاطف بين السلسلتين المالكية والشافعية فاننا ننتقل الى السلسلة الاخرى وهي السلسلة المالكية . ابتداء من القرن الخامس سنجد ابا عبدالله المازري قد تلقف اثار امام الحرمين كما تلقفها اصحابه من الشافعية ، بل كان المازري وهو الفقيه المالكي الشهير ، اكثر اختصاصا بكتب امام الحرمين وتوفرا لها وانكبابا عليها حتى انه كتب شرحين على كتاب « البرهان « لامام الحرمين . احدهما شرح مستقصى يتتبع الالفاظ ويشرح جميع ما اشتمل عليه الكتاب جزئية جزئية ومسألة مسألة ، وهو المعروف ب « شرح البرهان « للامام المازري والاخر هو كتاب « الامالي « وهو امال على البرهان لم يتتبع فيها كتاب امام الحرمين ولم يساير عبارته ومباحثه ولكنه علق عليه تعليقا تحصيليا تلخيصيا في كل مسألة من المسا\ل فأملى خلاصة المذاهب والآراء وخلاصة الحكم الذي يستند اليه غالبا تعضيدا لامام الحرمين . يتبع