هل أستطيع القول أن من لم يقرأ رواية الظل يمنع الحلم للمولدي فروج فقد مات بلا خيال؟يمكنني قول ذلك مادامت الرواية تأخذ من الخيال بأنواعه وتحمل إليه وما دام الخيال فيها يتنوع ويتوزع مثل ورقات الوردة فهوالخيال الحر (الفنتازيا) وهوالخيال الأدبي المشوق وهوالخيال العلمي الذي بسطه الكاتب وبسّطه إلى حد مزجه بالواقع وهوخاصة الخيال الذي يصنع أويخلق من العلم. واعترف، وأنا المدمن على قراءة الروايات العربية، انني لم أقرا منذ سنين رواية بهذا الشكل ذلك ان كاتبها صبّ فيها إمكانياته الإبداعية الشعرية والسردية وقدراته العلمية والمعرفية فهولمن لا يعرفه طبيب وأديب لكنه في هذا العمل بدا غير عادي أوخارقا للعادي فكتب نصا لا يمكن تصنيفه فلا هومن الخيال العلمي ولا هومن النص الواصف بحيث يشعر القارئ أنه أمام حكاية من الواقع بل تتحدث عما يدور في جسمه وقد ينبهر بتواتر الأحداث وتداخلها إلى اعتبار النص من قبيل العجائبي والغرائبي فهوجامع للخيال ومحمل بالمعلومات العلمية الصحيحة. بسطها وأحسن توظيفها ووضعها أمام القارئ ومنحه أدوات التوغل والفهم واستطاع بذلك ان يطوع العلم ليصبح أداة من أدوات القص لا منبعا للمعرفة الجافة وللحقيقة الصارمة وقد نحت الكاتب شخصياته من أعضاء الجسم وخلاياه فجعل القارئ يفهم ذاته ويطلع عما يجري داخله من أفعال وحركات واعية وغير واعية إرادية وغير إرادية. وربط الأحداث بالعالم الخارجي ليحكي عن الواقع المعيش اوالذي يمكن آن يعاش في كل مكان من هذه الأرض ولعل ميزة المولدي فروج في هذه الرواية هي انه أصاب الهدف المقصود متسلحا بما يمتلكه من مقدرة علمية كبيرة تمكنه من شحن روايته بالمعرفة الصحيحة فأمتع في القص وأفاد في التفسير والتوضيح. وربما يكمن نجاح المولدي فروج أيضا في حسن توظيف أعضاء الجسم ومهماتها العادية ،حسبما فهمت، توظيفا روائيا فجعل مثلا من العصبونات (النيرونات ) التي تمد العقل المركزي بما تتعرض إليه الأطراف من وخز أوهجوم جرثومي أوجرح جعل من هذه العصبونات قوادين وجواسيس ومخبرين وأما العصبونات المكلفة بحمل ردة الفعل فجعلها قادة للعساكر التي هيأها أيضا من الخلايا ذات المهمات القتالية في الجسم وفي الحكاية حقيقة علمية.هذا شكل من أشكال التوظيف الناجح والمثير إلى حدّ الدهشة والمبسط إلى حد الإقناع. استطاع المولدي فروج بذكاء الأطباء وتفكير العقلاء أن يجسد أمامنا مساحة مكانية وزمانية تمثل في كل وقت اللحظة الراهنة التي يعيشها الإنسان ليرى فيها كل شيء واضحا وليفهم ببساطة كيف تعيش الخلايا وترتبط ببعضها البعض في شكل قبائل أومجموعات متشابهة إما في التكوين أوالمهمات. هي تلك الأعضاء التي نتحرك بها ونحيا واعين بأننا نحيا. واستطاع الكاتب أيضا أن يطرح أمام القارئ ما تعلمه من الطب فاختار مثلا أن يؤسس مجلس النبلاء من الأعضاء النبيلة وهي تسمية متداولة في الطب وتعني الأعضاء الخمسة : القلب والدماغ والكبد والكلية والرئة. وانطلق المولدي فروج من هذا المجلس ليقيم في الجسم دولة يسوسها النيرون ويدير شؤونها كما يدير الملك مملكته. ويكفي التأكيد على أن النيرون هوالخلية التي تعمر في جسم الإنسان حتى نفهم لماذا ركز عليها الكاتب وجعلها بطلا بدون منازع وحملها أحداث روايته : الملك يجد نفسه ملكا دون أن يدري من أين قدم أوكيف وصل إلى سدة العرش ليتحكم في مصير الرعية ويؤدي مهمته وهوعلى أتم الوعي بقيمته. ويذهب به شعوره بالعظمة إلى اتهام كل الذين يسألونه عمن أوصله إلى الحكم بملامسة الكفر أوبالسعي إلى الانقلاب عليه فألجمهم عن السؤال ووضعهم أمام الأمر المقضي. ولعل الصدفة قد ساعدت الكاتب على اختيار النيرون بطلا لروايته فشبهه بنيرون روما الذي ساسها بالحديد والنار قبل أن يحرقها. يقول النيرون في بداية الرواية :أنا النيرون العظيم أصرح عن طيب خاطر بأنني لم أرغب في المجيء إلى هذه الدنيا على طريقة الاستنساخ وأن دروين لا يعنيني فيما زعم أوأصاب فالثابت في نظري أنني جئت من ماءٍ دافقٍ يخرج ما بين الصّلب والتّرائب. أنا أسعى بكلّ جهْد واجتهادٍ إلى تعمير الأرض وتدميرها متى شئت. وأنني الوحيد القادر على قيادة العالم من داخل الجلد الطري الذي يسيّج مملكتي وأنا الوحيد الذي يملك الإجابة عن دواعي انفرادي بالسلطة. أنا النيرون البطل الذي لا يمشي كالأبطال الآخرين في الشارع ولا يكلم أحدا ولا يضحك ولا يبكي ولا يشتكي كما يفعل الكاتب. فقط إنني أفكر وأتحكم في هذا الجسم المعقد وأمنح الحلم لمن أشاء وأشدّ توازن الأرض. يتبع