ما انفك الفلاحون يعبرون بأشكال مختلفة عن احتجاجهم على ما آل إليه وضع القطاع الفلاحي في بلادنا من تدهور تمثل خاصة في تدني أسعار بيع منتجاتهم مقابل ارتفاع سعرها عند بلوغها إلى المستهلك بسبب تغول المحتكرين. كما نددوا بمنع التصدير وبالتوريد العشوائي لمنتجات غير أساسية بل حتى غض الطرف على دخول منتوجات غذائية فاسدة وغياب دعم الدولة لهم. غير أن المتأمل في مطالبهم يدرك أن ردود فعلهم تتجاوز الاحتجاج على هذه النتائج رغم فداحتها إلى دقهم ناقوس الخطر لما يحاك من مؤامرات وما يتخذ من إجراءات وما يسن من قوانين تضرب في الصميم وجودهم أصلا. ومن بين القوانين التي مرت في صمت رغم خطورته القانون المتعلق بالسلامة الصحية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات الصادر في فيفري الماضي ( القانون عدد 25 لسنة 2019) والذي اعتبره الفلاحون استجابة لضغوطات أجنبية تطالب بتطابق المنتوجات التونسية مع المواصفات الأوروبية في إطار الاستعداد لإمضاء اتفاق التبادل الحر والشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أنه لا يمكن إنكار الواقع الكارثي للصحة والسلامة الغذائية خاصة بعد 2011 وما أصبحنا نشاهده من حالات تسمم وكثرة الأمراض الناجمة عن مواد ملوثة أو فاسدة أو مسرطنة وانتشار المسالخ العشوائية وتنامى تهريب المواشي والأبقار عبر الحدود. إلا أن هياكل الدولة لم تواجه هذه الوضعية الكارثية بما يلزم من حزم وغيرة على البلاد بل تركت أجهزة المراقبة في حالة ضعف سواء من ناحية الآليات التشريعية المنقوصة أو من ناحية الامكانيات المادية والبشرية المحدودة. وقد جاء في شرح أسباب القانون الصادر في فيفري الماضي أنه يهدف إلى ملاءمة التشريع التونسي مع المواصفات العالمية وخاصة الأوروبية في مجال السلامة الغذائية مما يبين ارتباط القانون حرفيا وبصفة صريحة بالسعي لإرضاء الاتحاد الأوروبي. وفي نقاش مشروع القانون في « لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة» عبّر بعض النواب عن خشيتهم من أن يكون القانون نتيجة إملاءات خارجية ووسيلة للحصول على قروض أجنبية. وتضمن القانون إعطاء الحق للمنتج الأوروبي لرفع قضايا ضد المنتج التونسي قد تؤدي إلى تسليط عقوبات منها السجن إذا ما لاحظ عدم تطبيق المواصفات الأوروبية في مجال السلامة الصحية حتى إن كانت البضاعة ستباع في تونس بدعوى أن ذلك يمثل منافسة غير نزيهة. إن واقع الفلاحين التونسيين يحول دون التزامهم بمعايير الانتاج المطبقة في أوروبا ذلك أن كبار الفلاحين في تونس الذين بإمكانهم مواكبة التقنيات الحديثة في الانتاج والمراقبة لا يمثلون سوى 10 في المائة وذلك بكمية إنتاج تقدّر بحوالي 20 في المائة وبالتالي يسيطر على القطاع صغار الفلاحين محدودو المستوى التعليمي والامكانيات المادية. كما أن ميزان القوى بين الفلاحين التونسيين والفلاحين الأوروبيين مختل عدديا ونوعيا. وهكذا يتضح أن هذا القانون لم يأت لحماية المستهلك التونسي بل يندرج في إطار فتح الباب مشرعا أمام المنتوجات الفلاحية الأوروبية ومنع تصدير المنتوجات الفلاحية التونسية حتى قبل إمضاء اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وقد اعتمد المشرع على كلمة حق وهي الصحة والسلامة لتمرير الباطل وهو تدمير الفلاحة التونسية التي لا يمكنها الالتزام حاليا بالمعايير الأوروبية. لذلك كان رفض الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أن يكون الفلاح التونسي «رهينة» التشريعات الأوروبية وهدد بتخلي الفلاحين عن ممارسة نشاطهم إذا ما تم تطبيق قانون السلامة الصحية بصفة تعسفية. كما حذر من إمكانية تأويل نص القانون بما يتنافى مع هويتنا وتقاليدنا مثل الادعاء بعدم ملاءمة ذبح الحيوانات على الطريقة الاسلامية مع المعايير الأوروبية.. إن هذا القانون يمس بالأمن الغذائي الذي يعتبر ركيزة أساسية من أسس السيادة الوطنية إذ سيقضي على الفلاحين التونسيين الذين لا يمكنهم تطبيق المعايير الأوروبية بهذه السرعة بل كان من الأجدر تأهيل القطاع واعتماد معايير صحية محلية حتى لا يؤول مصير القطاع الفلاحي إلى نفس ما آل إليه القطاع الصناعي بعد تطبيق المرحلة الأولى من اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.