اعترفت في نص سابق بأنني لم أكن أتصور بان أعيش زمنا أحتاج فيه إلى الاستنجاد بتراث الفكر السياسي الإسلامي، وبالمذاهب الفقهية للكشف عن أخطاء مقولات لم يتجاوزها عصرنا الراهن فحسب، بل تم تجاوزها قبل أكثر من قرن ونصف، وهوما تؤكده نصوص رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر.
لما سمعت حوارا حول بعض فصول الدستور المطروحة للنقاش حاليا رجعت بي الذاكرة إلى الرحلات التي كتبها هؤلاء الرواد : الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873)، خير الدين (1810-1890)، أحمد بن أبي الضياف (1804-1874)، أحمد فارس الشدياق (1804-1887)، وغيرهم لينددوا بصفة غير مباشرة بالحكم المطلق في أقطارهم من جهة، وليطلعوا شعوبهم على مدى التقدم الذي بلغه الغرب من جهة أخرى، فقد قصدوا نشر الوعي في بلدانهم ليقارن الناس بين نظم الحكم المطلق التي رزحوا تحت نيرها وبين النظم الدستورية التي عرفتها كثير من بلدان أوروبا الغربية، وبخاصة فرنسا وانكلترا، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك لما ربط التخلف الذي عليه المجتمع العربي الإسلامي بنظام الحكم المطلق، وبين النظم البرلمانية السائدة في الغرب وتأثيرها في ظاهرة التقدم.
من يشك في عمق معرفة الطهطاوي الإسلامية، وإخلاصه للإسلام؟ فهو الأزهري الوفي، وتلميذ حسن العطار شيخ الأزهر.
توقف طويلا في رحلته «الإبريز في تلخيص باريز» عند الدستور الفرنسي لسنة 1818 وسماه «الشرطة» (La charte) ولسان حاله يقول: «هذا نموذج، فاتبعوه ما استطعتم إليه سبيلا»، فالنموذج هنا هوالنظام السياسي الفرنسي، وبالخصوص «الشرطة»، والمخاطبون هو المصريون والمسلمون بصفة عامة.
لما شرح فصول الدستور حرص أن يقول: «ليست في كتاب الله، ولا في سنة رسوله»، وكأنه أراد أن يؤكد: نعم هناك أشياء لا توجد في الشريعة الإسلامية فما المانع من قبولها إذا قبلها العقل، وكانت فيها مصلحة لشعوبنا ؟
لا أشك لحظة أن الطهطاوي كتب جملته «ليست في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله» عن وعي، وبعد تفكير.
أصبحت لا أستغرب أن يأتي يوم إن استمر الحال على ما هوعليه نسمع فيه من يكفر الطهطاوي والشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق، وغيرهم من المفكرين التنويريين ! * * * يتصور البعض أن الدستور هوبرنامج سياسي يلتزم به بلد لعقود من الزمن !
أما أهل الاختصاص فيغرقون، ويغرقون المواطنين معهم في جزئيات تذكرنا بحواشي الفقهاء في مرحلة تدهور الفكر الإسلامي.
من يقرأ دساتير البلدان الرائدة في هذا المجال يلمس بيسر أن خطورة دساتيرها تكاد تنحصر في التأكيد على مبدأين أساسيين:
صيانة الحريات العامة وما يقترن بها من طرق الحماية.
الذود عن جميع مظاهر السيادة لهذا البلد أو ذاك.
أما الهوية والأخلاق والقيم فهي مسائل يمكن أن تتضمنها برامج أحزاب سياسية وليس الدستور. ومن أغرب ما سمعته في هذا الصدد الحديث عن ضرورة أن يتضمن الدستور مشروعا حضاريا للبلاد !
المشروعات الحضارية تنجزها الشعوب عبر انتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى أكثر تقدما، وفي خضم صراع سياسي وفكري، وفي ظرفية تاريخية معينة. ثم السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد : هل التونسيون متفقون اليوم على مشروع حضاري معين ؟
أشك في ذلك !
أما بيت القصيد في الحوار الدائر هذه الأيام فهو الدستور والشريعة، وذلك ما سيكون موضوع الحلقة القادمة.