(1) أذكر في جملة ما أذكر من ذاكرتي المتعبة أنني رأيت في يرى الحالم تلك المرأة بعينها , تلك الغجرية النحيفة التي كانت تسكن الشارع الرئيسي شارع الحبيب بورقيبة تطير في الليل حائمة كبومة بالاس تذرع الفضاء الطويل من تمثال الزعيم على جواده إلى برنس إبن خلدون, كانت تطير في ذلك الليل الخرافي من ليالي الشارع الرئيسي المتكتم على أسرار الطير يسكن تلك الشجرات الخضراء الباسقة قبل الالتحاق بديوان فريد الدين العطار... لم تكن في الحقيقة تلك الغجرية إلا إمرأة حقيقية لا يعلم أحد إسمها ولا يعرف من أي فجّ جاءت, كانت في الضّحضاح من سنّها, أي بعبارة أخرى لم تكن لا شابة ولا طاعنة في السن ... قال عنها أحد الأصدقاء المحترفين في التسكع الليلي إنها آخر أميرة من الأميرات الحفصيين تقتات على الشاي والبسكويت وأنها كانت خليلة للأمبراطور الإسباني شارلكان في غزوته الشهيرة على تونس بشهادة شكسبير في مسرحيته «العاصفة»...
(2) شارع الحبيب بورقيبة اليوم كأنه شارع طويل من الحزن والعزاء. كأنه رواق طويل في بيمارستان طويل لمرضى السّرطان ... شارع لا ترى فيه إلا الوجوه العابسة القمطرير والمناظر الكالحة , والعيون الضيقة, والألوان الداكنة, وروائح القمامة المعجونة بروائح الخوف والريبة والفزع... شارع ترتع فيه الجرذان والفئران يسمّمون كل لحظة رغيف الفرح... شارع للارتجال القاتل ومصطبة قروسطية لاستعراض آيات البؤس والإفك والفقر الجمالي والأخلاقي... ولكأن الشارع في سيكولوجية البعض منهم شارع للإنتقام الغريزي من الحياة , ولعل آخرها ما تعرض له المسرحيون في عيدهم اليتيم البائس يوم غزوة «المنقالة»... وهي الغزوة التي بينت بشكل فادح حجم الكراهية والحقد على هواء الحرية المفترضة في شارع الحبيب بورقيبة الذي شهد لعنات جانفي واحتضن بصيص الحرية في جانفي سقوط الأقنعة المدوي... شارع الحبيب بورقيبة لم يشهد من عام كامل أو يزيد أية مظهر من مظاهر الفرحة بالثورة التي تكاد تتحول إلى ربيع أسود حالك السواد.
(3) آخر القرارات المسلطة على شارع الحبيب بورقيبة هو منع التظاهر فيه مهما كان هذا التظاهر فنيا ثقافيا أو سياسيا عموميا... القرار صادر من وزير الداخلية النهضاوي العاجز عن ترتيب أمن الشارع الرئيسي فيما هو مطالب بالحفاظ على الأمن في البلد كله دون حدودها... يتحول شارع الحبيب بورقيبة رمزيا بناء على هذا القرار إلى منطقة منزوعة السلاح أو نومانز لاند No Man's Land بتعبير الحروب الأهلية وهو ما يعني رمزيا أن البلد تعيش حربا أهلية سرية منقسمة على شطرين تنحاز فيه الشرعية الحاكمة إلى شق دون آخر ... وهو ما يعني أيضا أن شارع الحبيب بورقيبة منطقة نهضوية محررة من الفضاء الشاسع للبلد الذي لا يعرف وزير الخارجية النهضوي أيضا طول سواحله , وهو ما يعني أيضا أن شارع الحبيب بورقيبة وهو الفضاء العمومي الوحيد الممكن بعد الثورة الذي بإمكانه إحتضان الحراك المواطني ملغى وممنوعا عن الشعب الجائع للتعبير عن همومه اللهم إذا كان هذا الشارع ذاته فضاء تجريبيا لنظرية «التدافع الإجتماعي» للشيخ الغنوشي حين يكون هذا التدافع تكتيكا للنظرية أخرى هي «نظرية النفير» النهضوية التي تركع من خلال حرب التجييش كل نفس مخالف ومقاوم ومغاير لرغائب النهضويين... بمعنى آخر يتحول منع التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة إلى بروفة أولية لصياغة الفضاء العمومي وإعادة هندسته وفق مقصد سد الذرائع المختزل في الأمثولة العامية : «إذا جاءك الريح من شارع الحبيب بورقيبة فسده واستريح».
(4) و الأخطر من ذلك في قرار الوزير المؤقت علي العريض وزير الداخلية بخصوص شارع الحبيب بورقيبة , أنه قرار توطئة , قرار مقدمة تطبخ على مهل هو قرار قانون الطوارئ الذي إبتدعته أنظمتنا الإستبدادية الشرقية والنافذة إلينا من خلال سفرائها كل مرّة ... بمعنى آخر فإن شارع الحبيب بورقيبة تحت قانون الطوارئ الذي يطبخ على مهل وقد تتحول رقعته إلى قلوب المدن التونسية الكبرى وهو ما يعني صراحة إنزلاق البلد باسم تعلات شتى إلى العيش تحت قانون الطوارئ وهو ما يعني ربح الوقت والإمكانية في تجفيف منابع الحراك الإجتماعي الذي يصوغ استمرارية الثورة. وبالمقابل ينظر النهضويون بعين الإرتياح إلى ما يقوم به الأبناء المولولون في بقية الفضاءات في بلبلة حياة التونسيين بدءا بالفضاءات الجامعية ووصولا إلى فضاءات المساجد التي أصبحت فضاءات للنشاط السياسي المبكر خدمة للإستحقاقات القريبة وهي المتمثلة في الإنتخابات التشريعية والرئاسية علاوة على الضغط الرمزي على إحتكار المرجعية في صياغة الدستور وخدمة للإستحقاق البعيد أو المتوسط في البعد وهو أسلمة المجتمع التونسي الذي إكتشف الإسلام بعد الثورة... والمعنى الفصل في كل ذلك هو أن حالة الطوارئ وجعلها واقعا مخمليا أو قاسيا هو التوغل في الإستبداد مباشرة على الطريق الرمزية السريعة لشارع الحبيب بورقيبة مع الإحتفاظ سيكولوجيا بالحقد الكبدي على هذا الشارع بالذات الذي لم يشاركوا فيه عقلا وجسدا وصوتا يوم 14 جانفي.
(5) وأذكر أن الصديق الشاعر والكاتب المسرحي المذهل بول شاوول كان حين يزور العاصمة يظل في الليل يذرع الشارع الرئيسي ذهابا وإيابا بين صفا الساعة الفولاذية القبيحة ومروى التمثال الزبيري (نسبة لزبير التركي) , حتى أصبح صديقا للقطط والمتسكعين والسكارى والشحاذين وبائعات الهوى والشرطة والعسس والمخبرين والتائهين القادمين من الفجاج العميقة للبلاد يلهثون وراء حلم منكسر في العاصمة ... الشارع الرئيسي الذي لا يغدو أن يكون نهجا صغيرا في مدينة هندية أو صينية يتحول إلى قلب الدنيا وشريانها حين يثبته الحبيب بوعبانة بقامات شجره الباسق تتبرج فيه الأميرات التونسيات ويتعشّق فيه الشعراء الدراويش ... شارع الحبيب بورقيبة الذي يكتب فيه الشعراء وصيتهم كان الشارع الذي احتضن أول ثورة شارك فيها الطير بأبيبل الحرية والكرامة والمساواة تاركا ريشه على خوذات البوليس وابتل ما تناثر من الدم والعرق والدموع ... شارع الحبيب بورقيبة يسخر منه أصدقاؤنا الشرقيين المشارقة لصغره حين يزورون تونس لأول مرة ويشتاقون إلى ريحه كما يشتاق المؤمن إلى ريح الجنة.