"بلاي اوف" الرابطة الاولى.. التعادل يحسم كلاسيكو النجم الساحلي والنادي الإفريقي    مجلس نواب الشعب يشارك في المؤتمر الخامس لرابطة برلمانيون من اجل القدس    عميد المحامين يوجه هذه الرسالة إلى وزارة العدل..    انتخابات جامعة كرة القدم: إسقاط قائمة واصف جليل وإعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    طقس الليلة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الشركات الأهلية : الإنطلاق في تكوين لجان جهوية    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ محمد كمال الدّين قحّة ل «الشروق» - الدولة العربية الحديثة انبنت على عقلانية الخوف والخطاب الدغمائي
نشر في الشروق يوم 14 - 01 - 2013

«المنتدى» فضاء للتواصل مع قراء الشروق بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.اليوم يستضيف «المنتدى» محمد كمال الدين قحة المختص في الادب وصاحب كتابات عديدة بالعربية والفرنسية وله مقاربات جيدة جداً بحكم اطلاعه على الادب الغربي وخاصة الاوروبي والفرنسي تحديدا.

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من السادة حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى ومحمّد العزيز ابن عاشور ومحمد صالح بن عيسى وتوفيق المديني وعبد الجليل سالم ومحسن التليلي ومحمود الذوادي ونبيل خلدون قريسة وأحمد الطويلي ومحمد ضيف الله والمفكر العربي الافريقي رشاد أحمد فارح واعلية العلاني وجمال بن طاهر وجمال الدين دراويل وكمال عمران وجمعة شيخة والدكتور ابو لبابة حسين ومحمد حسين فنطر ومحمود طرشونة الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات وبامكان السادة القراء العودة الى هذه الحوارات عبر الموقع الالكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.

انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي: news_khaled@ yahoo.fr

إنّ مجرّد التأمّل السريع في ما عاشته وتعيشه تونس خلال سنتين يبعث في المرء شعورا غريبا يزاوج فيه الانتشاء الناتج عن الشعور بالارتقاء إلى مراتب صانعي التاريخ، ولو بالقوّة، كما يقول الفلاسفة، الهلعَ المنبثّ بين جميع الشرائح والحساسيّات أمام ضيق المجال الزمني المتاح والتلعثم الواضح في صياغة البديل المقنع الذي يجعل كلّ تونسي قادرا على استقراء حاضره القريب والبعيد. ولا يتعلّق تشخيصنا هذا على عموميته بالجوانب العمليّة بل بوضوح الرؤى المطروحة وبقدرتها علي قراءة الواقع واستكشاف سبل الخروج من الضيق إلى السعة ومن الغموض إلى الوضوح، ماذا نحن صانعون بأهليّتنا، الشرعيّة إلى حدود هذه الساعة، والجديدة، للمشاركة في صنع التاريخ؟

ذلك أنّنا كتونسييّن، شأننا في ذلك شأن كلّ العرب والمسلمين، لم نعرف إلى حدّ الربيع العربي، سوى الأنظمة السلطويّة الفوقيّة، على اختلاف قواعد هذه الأنظمة الإيديولوجيّة والعقديّة، التي يلعب فيها المُسَاس دور الأداة التي تنفّذ ما قرّره أولو الأمر والساسة، ويجاز عن ذلك قدر الإمكان وهو شاخص مطيع، أو يشذّ ويُنبَذ، إن لم يتعرّض لمختلف أشكال الإقصاء والتنكيل.

ولاجتناب الاستنتاجات المتسرّعة التي تختزل الفكر والمنطق فإنّ ما أسلفنا لا يعني مطلقا أنّ التصريف الفوقي والسلطوي لشؤون العباد والبلاد هي من خصوصيّات الثقافة العربيّة الإسلاميّة، لأنّ ثقافات وحضارات أخرى، مثل الحضارة الغربيّة، قد عرفت ومارست مثل هذه الأنظمة قبل أن يجبرها الواقع والتاريخ على تجاوزها إلى النظام الديموقراطي التمثيلي في مرحلة أولى، ثمّ تدريجيّا إلى الديموقراطيّة التشاركيّة التى هي في مرحلة المخاض والبلورة.وتجدر الإشارة في هذا السياق أنّ تجاوز الأنظمة السلطويّة وفكّ الارتباط بين رموز السلطة والقائمين عليها من ناحية والشرعيّة العقائديّة التي حكموا البشرَ باسمها في البلدان الأوروبيّة قرونا طوال من ناحية أخرى، لم يضعف العقيدة، بل نزّهها وأعلاها على الدنيويّ الذي هو تاريخيّ متقلّب ضرورة، كما مكّن هذه المجتمعات من تنمية قدرتها على التصريف العقلاني الناجع والمفيد لشؤون الناس والدنيا معا.لم تستبدل البلدان الأوروبيّة عقيدتها بالديموقراطيّة، لأنّ الديموقراطيّة ليست عقيدة ولا إيديولوجيا، بل نظام تاريخي لتصريف شؤون العباد، بتنزيلها في سياقها التاريخي وباعتماد قوانين مستنبطة من واقعها وبمشاركتها.

لقد أهّلتنا شجاعة وجرأة شباب الربيع العربي لتبوّئ مراتب صانعيّ التاريخ.

هل نحن قادرون على العبور إلى التاريخ حتّى نصبح شركاء في بلورة تاريخ الإنسانيّة الجديدة، إنسانيّة ما بعد الليبراليّة المتوحّشة وما بعد الاشتراكيّات التجريبيّة المسقطة؟

ستحدّد الإجابة عن مثل هذا السؤال مصير تونس ومصير المنطقة العربيّة، وليس في ذلك أيّ مغالاة ولا تفخيم للدور الذي تلعبه التجربة التونسيّة اليوم. إمّا التاريخ كمجال للفعل الحضاريّ المشترك أو الخروج النهائيّ من التاريخ، أي من مجال الفعل الإنسانيّ.

وفي غياب تصوّر واضح مقنع لانعكاسات هذه القدرة على الفعل في التاريخ ولمتطلّباتها النظريّة والعمليّة، وللتوزيع الجديد للأدوار الذي تُحتّمه، فإنّنا نكرّس حالة خطيرة من الانفصام الاجتماعيّ،التاريخي والحضاري، إذ نحن إزاء «مجتمع حديث» بوعي الاشخاص فيه بقدرتهم على الفعل وحقّهم في الكرامة والتعبير، في غياب شبه تامّ للإطار الوطنيّ العامّ الذي يمكن أنّ تتنزّل فيه هذه الحقوق وهذه القدرة. لذلك نرى التصريف الغريب لهذه «الحداثة» المكتسبة في بلادنا يأخذ شكلا مطلبيّا فئويا مجحفا في غياب أيّ تصوّر عامّ للإطار المستقبلي المشترك الذي يضفي الشرعيّة الحقيقيّة والمصداقيّة على هذه الحقوق وهذه على المطلبيّة.

عندما تُغيّب الحقوق الفرديّة الكونيّة التي انبنت عليها الحداثة، والتي أطاحت وتطيح بأشكال الاستبداد في كلّ أرجاء العالم وفي الحضارات المختلفة، البعدَ الوطنيّ والمجتمعي كمشروع حداثي مشترك، فإنّها تتراجع بالإنسان إلى حالة ما قبل الإجتماع، أي إلى حال الطبيعة، وتفتح الطريق واسعا أمام حالات الاستبداد عل اختلافها، وهي بذلك تقوّض ذاتها.

إلى أين...؟، إلى التاريخ، إلى الخير إن شاء الله، والإنسان التونسي كصانع للتاريخ والحضارة؟

ذكرتم في كتابات سابقة ان الانتقال من زمن حضاريّ إلى زمن حضاريّ مغاير لا يبرّر ولا يقيّم بالمزاج والعاطفة، بل بالرجوع إلى طبيعة الديناميّة الحضاريّة وإلى تاريخيّة المجتمعات الانسانيّة في تفاعلها مع محيطها القريب والبعيد...كيف السبيل الى قراءات موضوعية؟نعم، ان أغلب الدراسات والطروحات التي تناولت عمليّة «الانتقال الديموقراطي» في بلدان الربيع العربي غلّبت الجوانب العاطفيّة والسيكولوجيّة الواهية في تفسيرها وتحليلها لطبيعة هذه التجربة التاريخيّة التي لا يمكن فهمها وتثمينها إلّا في سياق طرح ينزّلها في إطار التحوّلات التي تعرفها بلداننا منذ أكثر من قرن، عند ما زَجّ بها التاريخ في معترك الحداثة وفرض عليها مفاهيم وممارسات وسلوكيّات لم تعهدها وقد تكون لم تستبطن بعضها بعد. لقد أعطى عبد الله العروي لتناقضات الفكر العربيّ المعاصر بعدا «دراميّا» وشخّصها « أدوارا» تكاد تكون مسرحيّة في كتابه الايديولوجيا العربيّة المعاصر.

الذي يمكن اعتباره مدخلا إلى أزمة المثقّفين العرب أو بعبارة أوسع إلى أزمة الثقافة العربيّة المعاصرة.

وتشكّل الرواية «أوراق» وهي كذلك لعبد اللّه العروي، الذي يعقّب على العنوان في الصفحة الأولى من الرواية بعبارة « سيرة إدريس الذهنيّة»، الأثر المتمّم لهذه الثلاثيّة المتميّزة التي تبرز التحام الرهان العلميّ النظريّ، المتمثّل في التشخيص المتأنّي الرصين لأعراض التصدّع والإنشقاق في الوعي العربيّ المعاصر، بالرهان الإبداعي وقضيّة التعبير من جهة، وبالرهان الحضاريّ، التاريخيّ، المطروح في مجال الفكر العربيّ. ورغم ارتباط مختلف مراحل هذه الثلاثيّة بأطوار تاريخيّة معيّنة، فباستطاعة القارئ أن يستنبط منها وصفات فكريّة وسلوكيّة ليست بالغريبة عن حاضرنا القريب.

ولعلّ أولى هذه الوصفات وقاعدتها هي الاعتماد الحربيّ للأنماط الفكريّة والنظريّة في حقل الثقافة العربيّة المعاصرة، دخيلة كانت أم أصيلة، فالنمط أو المثال الفكريّ، عقلانيّا كان أوسلفيّا، ماركسيّا أو ليبراليّا، هو قبل كل شيء «مشروع» أي أحكام مسلّطة على الواقع تسليطا توحيديّا بغية تنقيته ممّا علق به من رواسب لا يستوعبها النمط المعتمد. ونجد في المرتبة الثانية التوظيف الهوويّ لهذه الأنماط، وهو توظيف إقصائي تحصينيّ يشير إلى أنّ عمليّة التدجين أو الإفراز لم تتعدّ بعد مرحلة المخاض الأليم. فيتنزّل الخطاب الهوويّ في شكل طوبوغرافي ثنائيّ، متقلّبا بين قطبي الداخل والخارج، الهجين والأصيل، الدخيل والحميم،... إلى غير ذلك من المعادلات المستحيلة التي لا تنظّر إلاّ لقدرة عاجزة عن الحلول. ثالث هذه الحالات الموصوفة متمثّلة في العنف كظاهرة عامّة للخطاب العربيّ المعاصر. وليس تفسير ذلك بالعسير، إذا ما ذكرنا الاعتماد الحربيّ للأنماط والأمثلة الفكريّة. فالعنف هنا هو وجه الحقيقة القاصرة عن معاينة النقيض والتحاور معه، وهذه الظاهرة مشتركة بين مختلف الأمثلة الفكريّة المتداولة في مجال الفكر العربيّ، مستنبطة كانت أو مدّجنة. ويضفى هذا التوجّه طابعا تبشيريّا على الخطاب العربيّ يؤهله للإستعمالات الدغمائيّة والإستنفاريّة.

ما هي الغاية من تحديد هذه الحالات والاعراض ؟

ما يهمّنا بالتحديد من تعداد هذه الحالات أو هذه الأعراض، التي يمكن أن نستشفّها من كتابات العروي وكذلك من الممارسة المباشرة للحياة السياسيّة والفكريّة، هو انسحاب هذه الحالات على جميع « الأدوار « التي يتقمّصها الفكر العربيّ وعلى جميع الأنماط التي تسخّر في مجاله، على ما في ذلك من تناقض مبيّت أحيانا، ومفضوح أخرى، بين جدوى هذه الأنماط وتركيباتها الخصوصيّة التي تحدّد موقعها النظريّ، وبين الشكل الدغمائيّ التبريريّ الذي تظهر عليه في معترك الفكر والسياسة.

وتشكّل وحدة السلوك على اختلاف المناهج المعتمدة حالة من التباين الذي قد تتباعد أغواره حسب الأنماط والأفراد في بنية الوعي العربيّ. إذ نرى هذا الوعي، في أبرز وجوهه، متردّدا بين الإلتزام المجرّد بمقوّمات النمط الفكريّ المعتمد نقلا أو استنباطا، وبين الضغوطات التي يسلّطها العالم الخارجيّ متمثّلة في رسوبات المجتمع وفي موازين القوى العالميّة، على ذلك الوعي.ويقف الباحث على وجه ثان من وجوه التباين عند مراجعة «الأدوار» والأنماط المتداولة قصد حصرها داخل مجموعات موحّدة حسب إقصاءاتها لبعض المنظومات الفكريّة أو التقائها حولها، وانطلاقا من نفس السؤال الذي تردّده هذه الأدوار المختلفة والذي يمكن صياغته كالآتي .

كيف يمكن للذات العربيّة أن تستقيم بذاتها في محيط يكرّس تراجع قدرتها على الفعل؟

وسرعان ما ينقلب حوار «الأدوار» و»الأنماط» إلى مبارزة شرسة بين المنادين بشنّ «حرب التقدّم» على المجتمعات التقليديّة التي يرون فيها سبب البليّة وعقال الفكر، وبين القائلين بضرورة الإنسلاخ من كلّ مظاهر الهجانة الحضاريّة التي أفسدت الذات العربيّة وتدنّت بها إلى مرتبة التواكل والتهميش.كيف تردّى الفكر العربيّ في مثل هذه الطروحات المغلوطة، وهل من تفسير لمثل هذا الخلط بين ما هو تاريخيّ موضوعيّ، وبين ما هو عاطفي دغمائيّ ؟

إنّ الإجابة عن السؤالين المطروحين تتطلّب اعادة قراءة تاريخ الفكر العربيّ المعاصر منذ نشأته، والتأمّل المليّ في مختلف أطواره، وذلك ما لا يتّسع له مثل هذا المجال. إلاّ أنّننا سنحاول طرح نفس الإشكال من زاوية ثانية، لعلّها تمكّننا من الوقوف على تفسير أوليّ لما أسميناه بعد عبد الله العروي أزمة الفكر العربيّ المعاصر أو الحديث. وعلينا أن نؤكّد أنّ قراءتنا لهذه الأزمة لا تسخّر المعني السلبيّ للكلمة بل تعتمد معنى ثانيا قوامه إبدال التصادم العقيم بين النقيضين بعمليّة إنضاج وبلورة مرحليّة لمثال نظريّ وسلوكيّ يتخطّى سلبيّات الطروحات السابقة. وكمثال لهذه البلورة المرحليّة للبديل سنقدّم قراءة نقديّة لنظامين متباينين مازالا يؤثران تأثيرا خطيرا في مصير التطلّعات العربيّة إلى ما وراء الأزمة، وهما :

نظام الخطاب العقلانيّ الذي يستبطن التباين بينه وبين المجتمع التقليديّ من ناحية، وبينه وبين المحيط العالميّ الواسع من ناحية ثانية، كوعي حادّ بهشاشة كيانه أمام الضغوطات المسلّطة عليه، ونظام الخطاب «اللاعقلانيّ» الذي يرى في تطلّعات العقلانيّة قوّة مدمّرة تبعث الرعب في أعماق المجتمعات التقليديّة.

إنّ الظاهرة المتميّزة للحياة الفكريّة في العالم العربّي، خلال فترة ما بعد الاستقلال، هي التزامن الحتميّ بين انعكاسات الظرف المتقلب وضرورة الاهتداء إلى الصياغة المثلى، على مستوى الفكر، لأبعاد هذه الانعكاسات وتأثيرها في قدرة العربيّ على الفعل في هذا الظرف فعلا حضاريا متعديّا، حتى بدت مختلف التيارات الفكرية لدارسها كمجرّد ردّ فعل مباشر لتقلّبات الظرف المتشعّبة.

وفي ذلك ما يفسّر، من وجهة نظرنا، طابع الفوضى والتلعثم الذي يبرز قصور الفكر العربي عن مواكبة هذه التقلّبات، وعن تنزيلها في إطار تصوّر متكامل لحاضر الشعوب العربيّة ومستقبلها، مع ما يترتّب عن حالة القصور هذه من استعمال لا نقديّ ومتسرّع للمفاهيم والمصطلحات المستبطنة، مما يجعل عمليّة التحليل والتقييم لصدى هذه المصطلحات أمرا يكاد يكون مستحيلا للترابط الوثيق بين المصطلح والعاطفة التي تسخره تسخيرا قياسيا لتعليل الحالات التي تمرّ بها.

وهكذا نرى الفكر العربي المعاصر لاهثا وراء المصطلحات والمفاهيم، عاجزا عن توظيف نقدي لهذه المصطلحات في سعيه لبلورة رؤية مستقبليّة للتناقضات التي تعتمل في مجتمعاتنا. ولنا في مصطلح «العقلانيّة» وفي استعمالاته المتداولة بيننا تشخيص معتبر لانعدام البعد النقدي في هذه الاستعمالات، وهو بعد ضروريّ لرشح الفكر وبلورة المفاهيم وتحصينها من التطلعات الدغمائيّة التي ترمي إلى تكريس استعمالات مغلوطة تخدم أغراضها. وما أدلّ على ذلك من المرادفة الشائعة بين «العقلانيّة» وماديّة المجتمعات الغربيّة»، أو بين « العقلانيّة» والعلم، أو حتى بينها وبين بعض التنظيمات السياسيّة والاجتماعيّة...ويبدو بصفة جليّة أن عمليّة الترادف كما جاءت في هذه المقابلات التي يمكن تعزيزها بأخرى مماثلة لا تنطلق من تحديد معيّن لمصطلح العقلانية بل من عمليّة اقصائيّة لكلّ ظواهر الحداثة من علم وأنماط سلوكيّة ومعايير نظريّة وأخرى أخلاقيّة، أي في نهاية الأمر كلّ ما هو دخيل على المجتمع التقليدي. فالمرادف هنا ليس تعريفا للمصطلح، بل مجرد شحنة سالبة وعلامة إقصاء من المجتمعات العربية، وللمجتمعات العربيّة من التاريخ الذي يكرّس عجزها عن الفعل. وهكذا تصبح «العقلانيّة» نقيضا «للأصالة» وتكريسا لسطوة «الدّخيل» على حرمنا، وهو خلاصة الخطاب الدغمائيّ الذي يسخره الفكر السلفي في قيامه ضدّ العقلانية والحداثة. ويعني بالخطاب الدغمائيّ كل خطاب يخلط بين المستويات التالية :

أ المستوى التاريخي للأحداث والممارسات،

ب المستوى الأخلاقي ETHIQUE لهذه الممارسات وهو الذي يحدّد الفرق بين الحدث الفعلي والحدث المؤمل أو المشروع (PROJET)

ت وأخيرا المستوى النظريّ وهو الذي يضمن حدّا من التجريد الضروريّ لاستقلال المفاهيم والمصطلحات عن تقلّبات التطلّعات الفرديّة والجماعيّة في تفاعلها الآنيّ مع الأحداث التاريخيّة.

ومن طبيعة الخطاب الدغمائيّ، إلى جانب هذا الخلط بين المستويات، استعمال المفاهيم الموظّفة استعمالا تعبويّا تتحريضيّا بقطع النظر عن شخناتها السالبة أو الموجبة مما يبرز طغيان الرغبة المبهمة على مثل هذا الخطاب وتسلّطه على الواقع.

ومثل هذا الخلط بين المستويات ليس حكرا على التوجّه السلفي، كما قد يخيّل للبعض، بل هو القاسم المشترك بين كلّ التيارات الفكرية التي تطرح قضيّة التقاء المجتمعات التقليديّة بالحداثة طرحا هوويّا ولو اعتمدت في ذلك بعض المقولات والمصطلحات العقلانيّة. ممّا يستوجب التفريق بين العقلانية كخطاب دغمائيّ مرتبط بزمن تاريخيّ محدّد وبمصالح معيّنة وبين قدرة العقل البشري على استنباط النظم الفكريّة والنظريّة التي تؤهّله لصياغة نافذة لأطر تفاعله مع واقع دائب التعقيد.ماذا تقصدون بالخطاب الدغمائي للعقلانية ..؟

العقلانية كخطاب دغمائيّ،هي ممارسة عقائديّة مطلقة أي ممارسة تبشيريّة. وعلى عكس ذلك نرى «عقلانية العقل»، أيّ مجرّد الإقرار بمكانة ملكة بشريّة معيّنة، تحلّ الحركيّة محلّ الجمود، والنسبيّة محلّ التغيير المطلق، وهي بذلك ترقى إلى مرتبة الممارسة العلميّة الرصينة والأخلاقيّة المتبصّرة في غير تسلّط.

وعموما فالعقلانيّة العربيّة لم تبرح بعد مرحلة الخطاب، أي مرحلة الدغمائيّة. وهي في خطابها تؤلّف بين توجّهات علميّة وضعيّة، ومقولات سياسيّة ليبراليّة أو يسراويّة، وممارسات أخلاقيّة وعقائديّة تتسم بالتذبذب والحيرة.وإجمالا فالخطاب العقلانيّ إمّا متسلّط على المجتمع وعلى الطبيعة لتسخيرهما تسخيرا سببيّا في بناء « المجتمع العقلاني» أو متراجع إلى منزلة التبرير والتوفيق عند تراجع قدرة الفعل فيه.وهو ملازم دوما لمصطلح الحداثة التي أفرزته في ظروف سنتعرض لها في ما بعد، وجعلت منه رأس الحربة المشرعة على المجتمع التقليدي.

وسنرى كذلك أن الخطاب العقلاني، بهذا المفهوم الضيّق لا يشكّل فلسفة ما، أو بناء فكريا متجانسا، وإنما هو وجه من وجوه ممارسة السلطة في الدولة الحديثة.

ولنشر أخيرا إلى أن هذا الخطاب العقلاني يعتمد العلم كتكريس قطعيّ لقدرة المجتمعات التي استبطنت العقلانية، على الفعل والنفاذ إلى الواقع، وكحجّة على تهميش المجتمعات التقليديّة.

هل يمكن اعتبار مثل هذه التراكمات المصطلحيّة خطابا عقلانيا ؟ وهل أفرز تاريخ الفكر العربي المعاصر ممارسات عقلانية نافذة إلى الواقع تؤهله للقيام بدوره في تأطير الفعل التاريخيّ وتسمو به إلى منزلة البناء الحضاري ؟

إن الإجابة عن مثل هذا السؤال تمرّ حتما بتوسيع المجال المدروس، والمتمثّل هنا في الخطاب العقلانيّ العربيّ، إلى حدود مطلع القرن الحالي إلى فجر ما سمّي بعصر النهضة العربيّة. ولنلاحظ هنا أن الإقرار بوحدة مصير الفكر العربيّ خلال هذه الفترات المختلفة شبه جماعيّ.

ذلك ما تبرزه دراسات مفكّرين أمثال عبد الله العروي وأنور عبد المالك وألبير حوراني (11) التي نلمس من خلالها الارتباط الوثيق بين الرهانات الكبرى التي تعتمل في المجتمعات العريقة وبين القضايا التي مارسها مفكرو فترة النهضة، فردود الفعل على اختلافها وتنوّعها تنطلق من نفس الحيرة ومن نفس السؤال الذي لا يزال مطروحا إلى يومنا هذا.

حسب رايكم، كيف يمكن للإنسان العربيّ أن يسخّر موازين القوى غير المتكافئة التي تشدّه إلى العالم الخارجي تسخيرا نوعيّا يخرج به من حالة «المفعول به» إلى حالة « الفاعل» في حاضره القريب وفي مستقبله ؟

تلك هي معضلة الفكر العربي المعاصر ومعضلة المجتمعات كذلك أي كيف يمكن إحلال هذا الإبدال النوعي انطلاقا من هذه الموازين المختلة التي تكاد تفرض القصور كقدر محتوم ؟

أول مقومات هذا الخطاب هو الذعر كردّ فعل أمام تفجّر الوعي بعدم تكافؤ الموازين بين المجتمع الذي ينتمي اليه المفكّر أو المصلح والمجتمعات الأخرى التي تكرّس وجود العالم الخارجي كقدرة على النفاذ إلى صميم المجتمع التقليدي وعلى تفكيك أنسجته. والذعر هنا ليس من باب التماس التحسينات البلاغيّة، بل هو محاولة منّا لمجرّد الإشارة إلى مأساة عاشتها أجيال من شعوبنا وهي تجابه بعجزها عن مجرّد الفهم لما يجدّ حولها ويحاصر كيانها.ولنا في تاريخ عبد الرحمان الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) تشخيص لمثل هذه الحالة، وخاصة في حديثه عن حلول الحملة الفرنسية بمصر. إذ يتبيّن من هذا الوصف مدى سحق الهوّة بين نسق الفعل عسكريا وفكريا بين الدخيل والمجتمعات المدخول عليها. وما أبلغه تعبيرا عندما يتحدّث الجبرتي على لسان مشايخ الأزهر وهم يزورون المعهد الذي أسّسته البعثة مقرّا معهم بعجز العقل العربي عن إدراك ما يجدّ حوله في تلك الفترة بالذات . وسنرى أنّ هذا الذعر سيولّد موقفين متباينين داخل نفس المجتمع :

الموقف الأول هو لأرباب السلطة ولاركانهم من رجال دين وإدارة ومثقّفين بصفة عامّة ويقول بضرورة التملّك من وسائل القوّة والمناعة لتحصين الكيان الداخليّ، ويدعو إلى النقل والقياس على الغالب. وهو بذلك يكرّس مفهوما عسكريّا تقنوقراطيّا للحداثة سيحكم عليه التاريخ حكما نهائيّا في الفترات اللاحقة.

والموقف الثاني هو للمجتمع الخارج عن السلطة، الغريب عن تطلّعاتها والذي لم يزده حلول الغرب إلا انعزالا عن التاريخ. ستعمد هذه المجتمعات إلى تعميق تجربة التأصيل – التي هي تجربة هوويّة انفصاليّة لتحصين كياناتها المهدّدة، وذلك بتجذير الممارسات الطرقيّة والشعبويّة انطلاقا من القاعدتين العشائريّة والعقائديّة وتشكّل نسبة هذا الخطاب إلى المتكلمين به وضبط موقعهم من قضية تحديث المجتمعات العربية ثاني مقوّمات العقلانية العربية المعاصرة. فهؤلاء هم إمّا من المثقفين الرسميين أمثال الجبرتي وحسن العطار وخيرالدين التونسي , وإما من المسؤولين المباشرين للسلطة كمحمّد علي وحمّودة باشا...

ولهذه الجزئيّة قدر كبير من الأهميّة نودّ التركيز عليه، فهي تعطينا فكرة عن تغييب المجتمع العميق، جسد المجتمع، من عملية الإصلاح، هذا الجسد الذي لم يبلغنا صوته عبر التاريخ لهذه الفترة الهامة من حياة شعوبنا، والذي كان يعاني من تسلّط الأطماع الغربية ومن طموحات السلطة الحديثة الناشئة التي لم تكن لترضى بممارساته الانعزاليّة. إنّ وقع هذه المعاناة، عبر التاريخ، على العقليّة العربية المعاصرة لشديد، وأشدّ منها وأفتك تجاهل المفكّرين والسياسيين لما تمثّله هذه المعاناة التليدة من قدرة على الرفض والهدم، إذا ما كرّست الممارسة الفكريّة والسياسية غربة المجتمع عن التاريخ.

نلمس إذن أن خطاب التحديث أو «العصرنة» باعتماد العلوم والتقنيات التي تصبح من مقوّمات القوة والمناعة هو خطاب السلطة الحديثة خلال مرحلة نشوئها، هذا رغم بدء الوعي لدى الساسة والمفكّرين بشموليّة السلطة الحديثة التي لا تقتصر على إبراز مظاهر القوّة ولا تستقيم إلاّ بتصريف متبصّر لمختلف ظواهر الاجتماع والتعايش المدني. إلاّ أنّ هذا الجانب، وإن أولاه بعض المفكّرين والمصلحين جانبا من الأهميّة، يبقى هامشيا غير واضح المعالم أمام ضرورة استيفاء متطلبات السلطة الحديثة .

وهكذا فإن خطاب الحداثة التي تعتمد العلم والتقنيات العصرية اعتمادا تحصينيّا هو خطاب نخبويّ صادر في المرحلة الأولى من تتطوّره عن أطراف لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بإشكالية السلطة الحديثة وهي تجابه التحديّات الخارجيّة والداخليّة.

الظاهرة النوعيّة الثالثة من بين الظواهر التي تؤسّس لهذا الخطاب هي الطابع الدفاعي الذي يطغى عليه انطلاقا من استبطان حالة الذعر التي كنا تحدثّنا عنها، أي من الوعي الحادّ لدى المشرفين المباشرين للسلطة بضرورة تحصين بلدانهم، وذلك بتمكينها من وسائل الدفاع الحديث. لذلك نرى أنّ أولى المدارس العصرية في مصر، مع محمّد علي، وفي تونس مع حمودة باشا كانت مدارس عسكريّة

إلاّ أنّ الإلمام بمتطلّبات الدفاع العصري والعتاد المتطوّر تقتضي لا فقط الدربة على السلاح بل كذلك على العلوم التي يعتمدها هذا السلاح وعلى غيرها من العلوم اللازمة للدراية بالمحيط الذي سيستعمل فيه كالجغرافيا وعلوم المناخ، وإلى تلك التي تضمن سلامة المستعملين من الأمراض والأوبئة من طبّ وتطبيب الخ... وهي كلّها علوم دخيلة في تلك الفترة من تاريخ المجتمعات العربية.

ممّا يؤدّي إلى ازدواجية الخطاب، فهو من ناحية دفاعي إقصائيّ لضمان التحصين لكيانه، وعمليّة التحصين هنا ليست عسكريّة فحسب بل هي كذلك ثقافيّة وحضاريّة. إذ لا يتمثّل الخطر في عتاد الغزاة فحسب بل كذلك في قدرتهم على زرع أفكارهم وممارساتهم. ولكنّ هذا الخطاب من ناحية أخرى نقليّ لزوما لإقراره بضرورة الأخذ عن الغرب في كل ما يتعلّق بوسائل التحصين. لذلك سنرى النقل يتّخذ نسقا انتقائيّا لفرز ما هو من متطلّبات التحصين وما هو غير قابل للتدجين.وستفرغ عمليّة تدجين الفكر الحديث النظم الفكريّة والأساليب الفنيّة من كلّ محتواها أثناء عمليّة النقل وتنزع عنها جدواها ونجاعتها في أغلب الأحيان.

ويفضي بنا هذا إلى القول إن الفلسفة التي انبنى عليها الخطاب الإصلاحي في هذه المرحلة، وفي إفرازاته الرسمية، هي فلسفة نقليّة تحصينيّة تعتمد الترجمة والتربية لتوفير المناعة للسلطة وللمجتمع. وهكذا تصبح وسائل التحصين والمناعة العمود الفقريّ للدولة الحديثة مستقطبة الجانب الأوفر من المجهود الإصلاحي. وليس تفسير ذلك بالعسير على من يذكر الخارطة الجيوسياسيّة للمنطقة في فترة النهضة، وإحساس أرباب السلطة بهشاشة قدراتهم التحصينيّة وسطوة البلدان الغربيّة المتطلّعة بمطامعها نحو المنطقة العربيّة.

إلاّ أننا نجد كما ذكرنا آنفا عند بعض المصلحين من الجيل الأوّل شبه وعي لم يتبلور بعد بضرورة تطعيم النهضة التحصينيّ باهتمامات مغايرة تبرز من خلال حرص محمد علي وحمودة باشا على دراسة القانون المدني لنابوليون وانكباب الطهطاوي على ترجمة آثار بعض مفكّري عصر الأنوار الفرنسي من أمثال فولتير وفنلون ومونتسكيو وكذلك من الاهتمامات المتنوّعة لدى خيرالدين التونسي الذي أولى مكانة خاصة لقضايا التنظيم والإدارة في الدولة الحديثة . ولأسباب عديدة لم يكتب لهذا الوعي أن يكتمل وأن يتبلور تمشّيا واضح المعالم ترفده ممارسات جماعيّة ودواليب رسميّة، فسرعان ما عزل خيرالدين ونفي الطهطاوي إلى جنوب السودان.وبهذا تختم المرحلة الأولى من تاريخ تحديث المجتمعات العربيّة باستبطان مباشر وآليّ للنظم والمفاهيم من جهة ولوسائل التحصين الجماعيّة من جهة أخرى.

وستشهد المرحلة الثانية من تاريخ النهج الإصلاحي استقلالا متفاوتا عن السلطة، وستتخذ شكلا نقديا صريحا لهذه السلطة التي تعجز عن مواكبة ما يفرضه العصر من متطلبات التحصين والمناعة مع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. إلاّ أنّ هذا الاستقلال النسبيّ وهذا الطابع النقديّ لا ينفي التقاء التوجّه الإصلاحي في مرحلتيه حول نفس السّؤال الذي سبق أن طرحناه والذي يحدّد، في نفس الوقت، طبيعة السلطة ودورها في مجتمع يطمح إلى أن يتجذر في محيطه البعيد والقريب، وكذلك طبيعة النهج الإصلاحيّ، الذي يبقى رهين قدرته على إخراج المجتمع العميق من انزوائه حول ذاته التليدة، وطاقته على تسخير المعرفة لتحصين السلطة والمجتمع.

وسيشهد النهج الإصلاحي تعقيدا جديا خلال هذه الفترة متمثّلا في تكتل القوى التي تعمل على عزلته رغم تباين أغراضها، إذ يشكل التقاء السلطة التقليديّة أو ما تبقّى منها، والمستعمر الذي حلّ بالبلاد، والمجتمع العميق الذي يرفض التحديث حول نفس الغاية المتمثّلة في عزل الفكر الإصلاحيّ وتهميشه، الظاهرة البارزة في تاريخ الفكر الإصلاحيّ خلال هذه الفترة الحرجة من مساره. وهذا ما سيحدّد طبيعة النهج الإصلاحي الذي سيرتبط في المرحلة الثالثة بالتحركات السياسيّة المناوئة للاستعمار، ولمظاهر الحياة التقليديّة على تنوّعها.

وكما نعلم، أفضت هذه المرحلة الثالثة إلى الاستقلال الذي أعطى النهج الإصلاحي طابعا رسميا بتحمّل «النخبة» مسؤولية القرار السياسي والثقافي في أغلب البلدان العربية. وستعمل هذه النخبة على تحقيق أهمّ الأغراض الإصلاحية التي ضبطت كما شاهدنا خلال المرحلة الأولى والتي ستكرّس أهميّة المؤسسة الدفاعيّة والمؤسّسة التربويّة كدعامتين أساسيّتين للسلطة الحديثة، أو للدولة الحديثة.في المحصلة الى ماذا انتهى النهج الاصلاحي العربي من نتائج ؟

النهج الإصلاحي أفرز بعد تقلّبات عديدة مؤسسات تحصينيّة وأخرى لتصريف حديث لمختلف الوظائف المرتبطة بالسّلطة، إلاّ أنّه لم يفرز مجتمعا حديثا يواكب عمليّة التحديث ويجذرها في واقع البلاد. وستفضح السهولة التي سيدخل بها المستعمر إلى البلدان العربيّة – وحتى إلى تلك التي شهدت بداية تحرّك إصلاحيّ، ثمّ في مرحلة ثانية تفشّي التيّارات السلفيّة، افتقار الدولة الحديثة إلى مجتمع وافتقار المجتمع إلى دولة. ولنعد ثانية إلى السّؤال الذي سبق أن طرحناه. هل يحقّ اعتبار هذه المقوّمات التي أسّست الفكر الأصلاحي عقلانيّة؟ أو بعبارة أخرى، هل يشكّل اعتماد العلم والمعرفة من خلال المؤسسة التربويّة اعتمادا يرمي إلى تحصين كيان السلطة وإلى تحديث فوقيّ للمجتمع العميق خطابا عقلانيّا ؟ إن خطابا يؤسّسه الذعر الشديد ويعتمد النقل الآلي لأدوات التحصين والدفاع الحديثة التي تستقيم بها السلطة خارج حدود البلاد وداخلها لهو خطاب كيان محاصر يغيّب روح الأنظمة المعرفيّة التي يسخّرها تسخيرا آليّا، كما يغيّب جسد المجتمع الذي يعيش حالة من الغربة المزدوجة، فهو غريب أعزل أمام تكريس تداخل المصالح المالية والاقتصادية العالميّة التي امتدّت إليه وتطاولت عليه، وهو غريب كذلك إزاء طموحات الدولة العصريّة التي ترمي إلى استئصال الانتماءات العشائريّة التي تكرّس غربة السلطة عن المجتمع.

وكما نرى فمثل هذا الخطاب يتمحور حول السلطة ويرمي إلى تركيز مفهوم حديث للسلطة لا للمجتمع. ذلك هو أوّل تعريف للحداثة التي اعتمدت الخطاب العقلاني كتعبير عن تطوّر لم يكتمل لمقتضيات تحديث السلطة والمجتمع في البلدان العربية، فجاء الإصلاح تأسيسا منعزلا عن التاريخ وعن المجتمع لأجهزة السلطة ولخطابها التحديثيّ الفوقيّ، مع كل ما يترتّب عن ذلك وينعكس على طبيعة السلطة التي ستتخذ شكلا قسريّا وعلى جدوى النهج الذي انتهجته. الخطاب الهووي إقصائيّ للمجتمع وللنقيض المسلّط على كيانه وهو نقليّ

عن نفس النقيض الذي يترصّده، معزول عن المجتمع الذي يرفضه كتكريس لغربته. مثل هذا الخطاب لا يمكن أن يكون عقلانيّا، الاّ إذا اعتبرنا أنّ للخوف عقلانيّة أي ناموسا هلسيّا يوحّد بين مقوّماته.

ويواجه المجتمع التقليديّ السلطة الحديثة متحصنا بانتماءاته العشائرية، متدرّعا بروحانيّته الشعبويّة، رافضا لخطاب الحداثة الذي يرى فيه خطاب السلطة الحديثة، متردّدا بين الخوف من هذه العقلانيّة الضيّقة المسلّطة عليه، وبين العنف الشديد الذي يعتمل في كيانه المحاصر. وفي الحالتين يعيش حالة انشقاق عن السلطة، أمّا بصفة مفضوحة في الانتفاضات التي تقمعها السلطة بكلّ شراسة، وإمّا بصفة مبيّتة وغير مباشرة وهي الأكثر فتكا بالسلطة وبالمجتمع كذلك، لأن هذه الطريقة الثانية في ممارسة الرفض مبنيّة على ممارسة واسعة لشكل من «›التقيّة» الاجتماعيّة أي من كتمان الفزع الشديد الذي يسلّطه جهاز الدولة الحديث على كيان المجتمع، والجهر بالولاء للسلطة مع التخاذل في القيام بالوظائف الحيويّة التي لا تستقيم السلطة بدونها، بدءا بالاحجام عن أداء الضرائب وانتهاء بإفراغ محتوى العمل من كلّ مدلول.مما يختلّ له النسيج الاجتماعي بأكمله. وهكذا يتبيّن لنا أن عقلانية الخوف التي انبنت عليها الدولة الحديثة كإفراز للتجارب الإصلاحيّة تصدي فتزرع الخوف من العقلانية ومن الحداثة في أعماق المجتمع. ويرتكز هذا «الشعور» على نفس الخلط بين المفاهيم الذي نلمسه لدى المصلحين في تخطيطهم للدولة الحديثة، انطلاقا من تحويل الأنظمة المعرفية المنقولة إلى أدوات لتحصين السلطة من الأخطار التي تهدّدها، خارجيّة كانت أم داخليّة. إلاّ أنّ هذا التوظيف التحصينيّ لمنظومة «التقدّم» وللمعرفة كأداة لتحديث السلطة والمجتمع لن يستتبّ ولن يكتسب نجاعة نسبيّة إلاّ خلال فترة ما بعد الاستعمار. إذ ستضفي الدولة الحديثة المستقلّة شرعيّة تاريخيّة على الحركة الإصلاحيّة ولكنها في نفس الوقت ستتضمّن تناقضاتها ونقائصها التي لن تظهر للعيان إلاّ في الأزمات لتفضح التباين المطلق بين المجتمع القاعديّ العميق والمجتمع الضيّق الذي هو المجتمع الرّسميّ للسلطة الحديثة، أي المجتمع الذي ولّدته الحركة التحديثيّة والذي يكرّس وجودها ويتمعّش منها.

وسيضيف منظّرو الدولة الحديثة المستقلّة إلى أدوات التحديث والتحصين الذي ذكرناها، «أداة غريبة» بمنزلتها غير المحدّدة بين المؤسسة والتنظيم السياسيّ، متمثّلة في الحزب الواحد الذي لم يدرس خطابه دراسة علميّة إلى يومنا هذا. فهو في تنظيمه «كنيسة» أي أداة تعيير للسلوكات الفرديّة والجماعيّة. وهو بمحتوى خطابه تقدّميّ، أي مقرّ لضرورة تفجير الأنسجة التقليديّة للمجتمع باسم منظومة التقدّم والقيم الليبراليّة تارة والاشتراكيّة أخرى. وهو بأنماط السلوك التي يعتمدها فاشيّ، أي متسلّط على كلّ من لم ينضو تحت لوائه وخاصة على أعماق المجتمع يلفّها كالأخطبوط لخوفه منها وعدم ثقته بها، فالحزب الواحد من وسائل الدفاع والتحصين التي اعتمدتها الدولة الحديثة في البلدان ذات المجتمعات التقليديّة. - هناك جدل واسع حول الثقافية بين الكونية والخصوصية، ما هي مقاربتكم في هذا المجال ؟ الحقوق الثقافيّة كحقوق فرديّة دوليّة، أي كحقوق معترف بها في المواثيق والعهود الدوليّة، هي حديثة نسبيّا وهي امتداد وتوسيع لمجال حقوق الإنسان القاعديّة، وهي موثّقة في معاهدات ونصوص سيستعرضها أهل الذكر بالتفصيل ولذلك سنقتصر هنا على الإشارة السريعة إلى أهمّها.

1 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
 العهد الدولي المتعلّق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة، المصادق عليه والمعروض للتوقيع في ديسمبر1966 والذي دخل حيز التنفيذ في 3 جانفي 1976.
 الإعلان العالمي الصادر عن اليونسكو حول التنوّع الثقافي في 2 نوفمبر 2001
- إعلان فريبور حول الحقوق الثقافيّة المؤرّخ في 7 ماي 2007

5- البروتكول الاختياري المتعلّق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة المصادق عليه من طرف الجلسة العامّة للأمم المتّحدة في 10 ديسمبر 2008 والمعروض للمصادقة الدوليّة في 30 ديسمبر 2009 ودخل حيز التنفيذ 3 أشهر بعد هذا التاريخ.


وفي هذا الصدد من المهم تناول الحقوق الثقافيّة في علاقتها بالكونيّة والخصوصيّة من ناحية ومن زاوية انعكاساتها المحتملة على حرّية النشر، من ناحية أخرى. وما هذا التوسيع لمجال المداخلة إلى قضايا النشر إلّا لأنّ النشر امتداد طبيعي لحرّة التفكير والتعبير والإبداع، إذ يعطي كلّ هذه الأفعال والمبادرات الفرديّة صدى أوسع يتعدّى الفرد إلى المجموعة فيصبح الفعل الفردي فعلا تشاركيّا ومكوّنا من مكوّنات المجال الثقافي.

لنعد بعد هذا التوضيح في عجالة إلى النصوص القانونيّة الدوليّة حول الحقوق الثقافيّة لنستلهم منها ما يمكن أن يعيننا على توضيح مكانتها في مشروع الدستور الجديد للبلاد التونسيّة وما يصلح لترشيد التعامل مع حرّية النشر كحلقة من حلقات حرّية التفكير والتعبير.

تجمع كلّ المواثيق الدوليّة غلى اعتبار الحقوق الثقافيّة امتدادا وتكريسا وتتويجا للحقوق الأساسية التي جاءت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العالميّة أو الكونيّة.

إذا استثنينا الإعلان حول التنوّع الثقافي الذي يشير إلى الثقافات كقاسم مشترك وكإرث عامّ بين مجموعات بشريّة فإنّ كلّ النصوص الأخرى التي أشرنا إليها تبرز الحقوق الثقافيّة كحقوق فرديّة وشخصيّة رغم تعديل ذلك في إعلان فريبور بعبارة: « لكلّ شخص منفردا أو ضمن مجموعة» بداية من المادة الثالثة من الإعلان.
- الحقوق الثقافيّة كلّ لا تتجزّأ مكوّناته، خاصّة في علاقتها المزدوجة بحرّية الفكر والمعتقد والتعبير من ناحية، وبالحقّ في التمتّع بالإرث الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة. والإرث أو التراث هنا ليس عبأ يثقل كاهل الأحياء بقدر ما هو زخم معرفي وحضاري وجمالي يكرّس حرمة الحياة وكرامة الحيّ.

نقرأ في النقطة الثانية من ديباجة إعلان فريبور:

« وإذ نؤكّد مجدّدا أنّ حقوق الإنسان كونيّة غير قابلة للتجزئة مترابطة، وأنّ الحقوق الثقافيّة، على غرار حقوق الإنسان الأخرى، تعبير عن الكرامة الإنسانيّة ومن مستلزماتها، نورد في ما يلي الحقوق الثقافيّة كما ذكرت في إعلان فريبور:

الحق في اختيار الهويّة والتراث الثقافيين
الحقّ في الانتساب إلى الجماعات الثقافيّة
الحق في الدخول إلى الحياة الثقافيّة والمشاركة فيها
الحق في التربية والتكوين
الحق في الإعلام والاتصال
الحق في التعاون الثقافة

كيف تناولت هذه النصوص المرجعيّة إشكاليّة العلاقة بين الكونيّة والخصوصيّة؟

نراها تشير كلّها، وبكلّ وضوح، أنّه لا يمكن أن تتضارب الحقوق الثقافية الخاصّة بسياق تاريخي أو حضاري معيّن مع الحقوق الكونية للإنسان وأنّه في مثل هذه الصورة تبقى الأولويّة للأولى على الثانية.

في إعلان فريبور، نقرأ في المادّة الأولى (المبادئ الأساسيّة) في النقطتين ب وج:

«يجب أن لا يتألّم – والأصحّ أن لا ينال أحد سوء- أو أن يكون ضحية تمييز بأيّ شكل من الأشكال لأنّه يمارس أو لا يمارس الحقوق المنصوص عليها في هذا الإعلان»لا يحقّ لأحد أن يتذرّع بهذه الحقوق لينتهك حقّا آخر معترف به في الإعلان العالمي أو الصكوك الأخرى الخاصّة بحقوق الإنسان.»

ونجد نفس التوضيح تقريبا في إعلان اليونسكو حول التنوّع الثقافي – المادّة الرابعة:

«الدفاع عن التنوّع الثقافي واجب أخلاقي يلازم كرامة النفس البشريّة, ويفرض ذلك التعهّد باحترام حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة، خاصّة للأشخاص الذين ينتمون إلى أقلّيات وكذلك للشعوب المحلّية. لا يحقّ لأحد أن يعتمد التنوّع الثقافي للنيل من حقوق الإنسان المضمونة في القانون الدولي أو أن يحدّ منها.» نجد كذلك في العهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نفس التنصيص غلى ضرورة احترام مبدئ عدم التضارب بين الحقوق الكونيّة والثقافيّة للإنسان، وبالتحديد في المادّتين الرابعة والخامسة من القسم الأوّل. - كيف يمكن قراءة مثل هذا التصوّر لعلاقة الحقوق الثقافيّة بالكونيّ والخصوصيّ في مجال حقوق الإنسان الأساسية؟

سنحصر القراءات الممكنة في قطبين اثنين، قطب سالب يسلّط عليها قراءة نقديّة، وقطب موجب يجعل منها حجر الزاوية لتصوّر للاجتماع يرتكز إلى قدرة الفرد على الابداع والإضافة إلى الحضارة والتمدّن بالمراوحة بين الانتماء الحرّ إلى التقليد والإرث الثقافيين والحضاريين وحرّية مساءلة الموروث بغية تطويره والارتقاء بقدرته على التنزّل في الواقع ومحاورته.

ويمكن تلخيص القراءة الأولى السالبة أو السلبيّة في النقاط التالية:

إعطاء الأولويّة للكونيّ على الخصوصيّ هو تصريف من تصاريف الغزو الثقافي المسلّط على المجتمعات والثقافات التي لا تقرّ بحرّية الفرد كقيمة قاعديّة تنبني عليها كلّ القيم الأخرى،- وهو من هذا المنظار عنف مسلّط على الثقافات والحضارات والنظم العقديّة التي تقيّم الأفراد والسلوكات والبنى الفكريّة بمقتضى سلّم موحّد للقيم التي على أصحابها أن يستبطنوها كشرط من شروط الإنتماء إلى المجموعة. أي في نهاية الأمر إلى النظم التي ترادف بين الهويّة والثقافة ترادفا معياريّا (normatif). نشير هنا إلى أنّ مثل هذا التطابق الكليّ بين الثقافة والهويّة هو من الخصائص التي تعرّف للمجتمعات والنظم المهدّدة كياناتها والتي تفعّل العصبيّات كردّة فعل، كما هو الشأن بالنسبة إلى الدول التي نشأت على أنقاض الاستعمار وكذلك بالنسبة إلى النظم الفاشيّة والدكتاتوريّة التي لا تقبل الاختلاف وتطارده كظاهرة من ظواهر تلويث الهويّة وتشويهها.

تقابل هذه القراءة السلبية قراءة موجبة يمكن اختزالها في النقاط التالية:

الحقّ في الثقافة وفي التراث حقّ يرتكز إلى الحقّ في الكرامة والتقدير للكائن البشري )و الكائن الحي على الوجه العام).
الثقافة والتراث في تنوعهما عوامل إثراء للأفراد والمجموعات وليست بحدود مسلّطة عليهم لقيس مدى انضباطهم وتقيّدهم بالمعايير التي تضبط قاعدة الانتماء
للفرد حقّ الاجتهاد في مساءلة ثقافته وتراثه قراءة جديدة قد تثريها وتجعلها أكثر نفاذا إلى الواقع، دون أن يسلّط عليه سيف الخيانة والإقصاء
علويّة الحقوق الكونيّة العامّة أو أسبقيّتها هي في الآن نفسه ضمان للحرّيات الأساسيّة للكائن البشريّ وتحصين لكيانه الجسدي والفكري، وكذلك للثقافة والتراث الذين لا يتخلّصان من الرؤى المتحفيّة والفلكلوريّة المحنّطة إلّا بقدرة الفكر الحرّ، أي الفكر النقدي على تجديدهما.
ولعلّنا بهذا نصل إلى لبّ هذا التصوّر الثاني الذي يجعل الثقافة والتراث في خدمة الحياة وفي خدمة الكائن الحيّ، ويصالح بين التقليد والحاضر ولا يجعل منهما حدودا مسلّطة على الفكر وعلى الإبداع.
ونرى كيف أنّ الثقافة في إطار هذا التصوّر الثاني أوسع مجالا من الهويّة لأنّها تستبطنها كمكوّن من مكوّنتها ترعاه وتنهض به، لكنّها كذلك تعيد قراءته وتسائله لتوسّع من مجال قدرته على النفاذ إلى الواقع. وتبدو لنا هذه العلاقة الحواريّة مع التقليد والتراث أخصب وأثرى من العلاقة المنحصرة في الخيار بين ترجيع القيم القاعديّة والانتماء على وتيرة واحدة والانسلاخ أو الإقصاء من المجموعة.
كيف يتسنّى للتونسي، وللعربي بصفة عامة، أن ينتمي بكلّ عزّ ونخوة إلى ثقافته وتاريخه دون أن يكون سجينهما ورهينتهما، دون أن يتنازل عن ملكة التفكير والإبداع النيّرة، دون أن يحسب عليه ذكاءه وملكة الإبداع لديه خيانة، إن جاء فكره بنمط خارج عن التقليد وعن المعاييرالمعهودة.
الحلقة المفقودة في تاريخ الفكر والاجتهاد العربيين

إنّ التصادم الذي ألفناه في ديارنا وفي سائر الدول العربيّة بين الدعوة إلى إقرار كونيّة القيم والدعوة المضادّة إلى إقرار خصوصيّتها، يطرح علينا وعلى مجتمعاتنا سؤالا بعيد الخطورة، يبدو أنّ الفكر العربي حاول تغييبه أو عجز عن طرحه.«هل الانتقال من النظم السلطويّة النافية لحرّية الفرد كقيمة قائمة بذاتها، وبقطع النظر عن طبيعة هذه النظم، إلى النظم الديمقراطيّة التي تجعل من هذه الحرّية حجر الزاوية في نظام تصريف الشؤون الخاصّة والعامّة، وتحديد دور السلطة والأفراد صلبه، ظاهرة انتقال تاريخي قابلة للتعميم عند توفّر الشروط التاريخيّة والمادّية في سائر المجتمعات والحضارات، أم هي ظاهرة خصوصيّة لبعض المجتمعات، بينما لا تستقيم الأخرى إلّا بتقليم الفروقات بين الأفراد برعاية سلطة مؤتمنة على استمراريّة سلّم القيم التي تجمع بينهم وعلى مطاردة كلّ خروج على النسق العامّ.إنّه لرهان حضاري شديد الخطورة على حاضرنا وعلى مستقبل أوطاننا، وهو مطروح في المرتبة الأولى على أهل الفكر والذكر وكذلك على الساسة والمنكبّين على شؤونها.

من هو الأستاذ محمد كمال الدّين قحّة؟

محمد كمال الدّين قحّة من مواليد 11 ماي 1949 بمنزل كامل ولاية المنستير، متزوّج، أب لبنت (نسرين قحّة). الشهادات العلميّة

الأستاذيّة في اللغة والآداب الفرنسيّة ودكتورا المرحلة الثالثة في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسيّة ودكتورا دولة في الأدب الفرنسي خلال القرن الثامن عشر .
المهام العلميّة والإداريّة :

من 1971-1978 : أستاذ تعليم ثانوي بمعاهد التعليم الثانوي التونسيّة.
من 1978-1984 : مساعد مختص في اللغة والأدب الفرنسي وفي نظريّة التعريب بالجامعة التونسيّة.
من 1984-1993 : أستاذ مساعد في نفس الإختصاص بجامعتي تونس ومنوبة.
من 1993-1994 : أستاذ محاضر في نفس الاختصاص بجامعتي تونس ومنوبة.
- من 1999-2003 : استاذ تعليم عال بجامعات تونس, منوبة وتونس المنار (مكلف بإدارة قسم اللغة والآداب والحضارة الفرنسيّة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس).

27 أوت 2003 : أستاذ تعليم عال مكلف بإدارة المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر.2000-2008 رئيس لجنة التبريز في اللغة والآداب الفرنسيّة (جامعة منّوبة)

التأطير والبحث :

2002 : أستاذ تعليم عال مسؤول عن وحدة بحث في تعلّيمية ونظريّة النص الأدبي . 1984-2003 : - مسؤول عن ورشة بحث في اطارالتعاون بين جامعة تونس وجامعة باريس 7 حول العقلانيّة واللاّعقلانيّة في النص الأدبي من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر.

أهم المنشورات بالعربيّة: كتابة الرّواسب في الأبداع والعمران وورقات من كتاب الترحال.

مجموعة مقالات في تاريخ الترجمة وفي نظريّة العمران في العالم العربي الحديث, وباللغة الفرنسية : الاستعارة في رواية المضلع الكوكبي لكاتب ياسين ونظريّة الخطاب في الأعمال الروائية ل : Denis Diderot , وطريق الذهب، شعر، نشر بيبليوماد، تونس 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.