يوم السبت الفارط وهو يوم السوق الأسبوعية في هذه المدينة الصغيرة الغالية وفي الجلسة الصباحية التي أبدأ بها يومي في محاولة لرؤية الأصحاب والأحباب واستنشاق رائحة المدينة التي تركتها وبدأت أشعر بالنأي عنها كان اللقاء بلا موعد.. هو مثلي ممن يأتون المكان لساعات عابرة ثم يغادرون.. ألقى على الطاولة مجلة الآداب في آخر أعدادها التي وصلت.. كانت أول ما اقتناه في يوم السوق الأسبوعية وهو الفقير البسيط الذي لا شك وأنه قادم ومعه قائمة طويلة من البضائع التي سيحملها للأولاد مكتويا بأسعارها الملتهبة..
نعم هكذا يؤمن صديقي بالمجلات والكتب قبل الخضر والغلال وغيرها من المتطلبات الكثيرة وأنا أشاطره ذلك.. هذه الحركة التي فعلها هي بسيطة عند الكثيرين.. لا تعني شيئا لهم.. ماذا يعني هذا؟ رجل فقير يحمل قفة بلاستيكية يلقي بمجلة على طاولة مقهى في جلسة صباحية صاخبة فيها حديث وجدل وثرثرة متألمة من وطن مهدد..
«الاداب» يا صاحبي.. هذا ما اخترته في هذا الصباح نعم الآداب وما أدراك ما الآداب.. المجلة المناضلة.. ولكنهم لا يدركون اعرف جيدا..
(ليست «الاداب «ما يعنيني في هذا النص ولكن لا بأس من أن أعرج عليها قليلا فهي من بقايا الزمن الجميل زمن الكتابة المناضلة والمشاعر العروبية العالية.. زمن الهتاف الصادق.. وهي تعد إلى اليوم صرحا عربيا رغم تغيراتها وتقلبات المزاج العربي التائه في هذه الأزمنة.. ) مثل هذه الحركة التي قام بها صديقي وهو من مثقفي زمن الجمر كما يقال وذاق السجن السياسي وعرف القمع كانت تحتاج إلى وقفة من هؤلاء المراسلين التلفزيين والاذاعيين والصحفيين المنتشرين في كل مكان واللاهثين خلف الموائد الجديدة والمتدافعين على الاستنساخ.. لكن يصعب رصدها في عيون هذا الزمن.. عجبا قد يقولون ولكن ألا يعني هذا المشهد أشياء؟ ما معنى أن يهجر المناضل ساحات الصخب ويعتصم بالفكر والثقافة والمعرفة وينحني للمجلات والكتب؟أليس ذلك هو النضال الذي يلزم؟.. إلى متى يصيح المثقف خلف الصائحين ويلهث خلف الصخب والفراغ؟ألم نكتشف في هذه الشهور أن لدينا أزمة عقليات وحاجة إلى الوعي والفكر؟وأليس من الخطإ أن يهجر المثقفون منابرهم وكتبهم و أوراقهم؟وأليس مهما أن نواجه هذا الصخب والضياع والافتراء بالعودة إلى الكتاب؟
(2)
أسر لي صديقي أنه قرر هجر كل الأشياء التي انشغلنا بها في هذه الأزمنة والتي دمرتنا.. الساعات الطويلة أمام الأجهزة الجدل الفارغ في كل مكان ثقافة الوهم والتسلق والادعاء قهر المعرفة والسعي إلى تجاوزها.. هي مرحلة كان يفترض أن يتحرر فيها العقل العربي وينطلق ولكنه تكبل .. كبلوه بالزعماء والشيوخ والآلام .. هي مرحلة يقتنع فيها المثقف العربي بالخراب .. «عدت للقراءة» هكذا قال صديقي.. وهي عودة المثقف إلى يومياته وأحبائه وعوالمه وهو يجر أذيال الخيبة مما يجري هنا وهناك ومن هؤلاء الذين اقتنصوا مواقع المثقف و التفوا على الثقافي وراحوا يهتفون ويزمجرون بأرصدة ابداعية وقرائية خالية.. وكم أعجب لهؤلاء الذين يثرثرون دون معرفة ودون ثقافة حقيقية إلا ما انتقل إليهم عبر فيروسات الزمن.. .
(3)
الاعتصام بالمطالعة خيار أخر مهم لمقاومة الجهل ودعاته ولمقاومة رغبات التزييف ولإسكات الأصوات الماكرة التي تعلو هنا وهناك وتزمجر ولسحب البساط من تحت أقدام الكثير من المزايدين وللهروب من هذا الصخب المدمر للعقل.. كم يعظم في نفسي هؤلاء المعتصمون بالمطالعة رغم القهر.. كم أشعر بالفرحة كلما لاقيت واحدا من هؤلاء الذين يشاغبون بكتبهم ومجلاتهم وكتبهم وينحنون للكلمة الصادقة .. هؤلاء الذين ينقرضون في مجتمع لم يعد يفرق بين من يعلمون ومن لا يعلمون حتى صار من السهل على كل رويبضة اختراقه بفكرة أو إشاعة أو بتحليل..