إذا قال أحدهم متأففا من حياته «هذه عيشة كلاب» فلا تصدّق أنه في أتعس حال! يكفي أن تتأمل أخبار هذا العالم المجنون حتى تتأكد الحظوة التي صارت الكلام تنعم بها. الأمثلة كثيرة ولعلنا نستحضر التعازي التي وصلت بوش إثر مصابه الجلل «نفوق» كلبته سبوت» ولو قلنا وفاتها لمااعتبرنا ذلك خطأ.. آخر الأخبار المتداولة تتعلق بإرث كلبة ألمانية ل300 مليار. لماذا نستكثر على الكلاب هذا العزّ. لماذا لا ننصفها وقد أنصفها العرب الأوائل سواء في حيوان الجاحظ أو في كتاب ظل مرجعا وأعني كتاب محمد بن خلف بن المرزبان المحوّلي المتوفي سنة 309 للهجرة 921 ميلاديا أي منذ ألف سنة وبضع سنوات.. الرجل خلّف رائعة عنوانها «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» وهو بقدر ماهو مدح لهذا الحيوان بقدر ما يحمل من هجاء للعصر (القرن الرابع) فقد كتبه لتبيان فساد الزمان وغياب المودة لدى أهله. الكتاب لم يحتو إلا على 38 صفحة دون اعتبار الحواشي والمقدمة ولكنه كان شهادة على انحدار الإنسان الذي تخلى عن إنسانيته التي صارت الكلاب أجدر بها منه. هي صفحات هجاء مهينة ولعل عنوان الكتاب يغني عن محتواه الذي جاء زاخرا بالحكايات والشهادات الحية عن وفاء الكلاب.. هل كان ابن المرزبان يهجو عصره أم كانت نظرته مستقبلية؟ الصورة قائمة ومؤلمة حتى اننا كنا نود بعد قراءة الكتاب أوفياء كالكلاب المذكورة نتحسس ملابسنا ونحمد الله على انها لم تكن فاخرة حتى يكون الهجاء لطيفا. يا ابن المرزبان : مازلنا نردد ما أوردته على لسان الشاعر : ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب. نردد معك أيضا ما أوردته على لسان شاعر آخر: من لم يكن على الناس ذئبا أكلته في ذا الزمان الذئاب حتى تصل إلى مرح الكلاب على لسان شاعر بعد تعداد خصالها. ومازال يرعى ذمتي ويحوطني ويحفظ عرسي والخليل يخون فيا عجبا للخلّ يهتك حُرمتي ويا عجبا للكلب كيف يصون سأجعل كلبي ما حييت مُنادمي وأمنحه ودّي وصفو خليلي وقد وردت في الكتاب عشرات الوقائع تبرز خسّة الإنسان الذي عجز أن يكون في مستوى الكلب ووفائه : وروي عن بعضهم انه قال : الناس في هذا الزمان خنازير فإذا رأيتم كلبا فتمسكوا به فإنه خير من أناس هذا الزمان قال الشاعر : اشدد يديك بكلب ان ظفرت به فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا وقد كان الرئيس المصري محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية يحتفظ بثلاثة كلاب يحبّها ويرعاها ويدلّلها ويخاف عليها ويقدم لها الطعام والدواء بيديه وأفرد لها عدة صفحات في يومياته وعندما سئل عن سر ذلك قال : لأنها بقايا الوفاء في عالم لم أعرف فيه الوفاء» نحمد الله سبحانه على ان ابن المرزبان قد فضّل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ونرجو أن نكون من تلك القلة التي استحقت أن تلبس الثياب وتكون بها جديرة.