حلّ الظلام وانتهت شجون الحديث، وحام فوقنا موعد الوداع، أدركتْ أحاسيسُنا عاطفية الموقف، فحلّ بنا صمت طويل، لأن كلانا يعلم أن لحظة الوداع بين قلبين ينبضان حبّا ليست بالأمر اليسير، نظرت في عينيها وساد صمتٌ حزين، زاده هزيز الرّيح وحفيف أوراق الشّجر.. رَفعت رأسها وقالت: تموت الأشجار واقفة لأنّها كريمة. قلت: ولعلها تموت واقفة كذلك كي لا تٌسقط أعشاش العصافير، لأنّ العصافير بدورها تحب أن تموت في أعشاشها بين أغصان الشّجر.. قالت: ليتنا كالأشجار نحيا في أمّنا الأرض واقفين، وكذلك نموت ولا نركع.. قلت: ليتنا كذلك، كي تحيا الأجيال من بعدنا بين جوانحي ذكرانا شامخين بعهدنا، ليقولوا دوما، يحيا الوطن، كريما بذكرى أجدادنا.. وِليحيا الوطن للجميع، وكذلك يبقى إلى أبد الآبدين.. فلا شعبَ بدون وطن ولا وطنَ بدون شعب.. والموت لوطن بلا شعب والتشرّد لكل شعب يخون ولا يحمي حمى الوطن. قالت: كرامة الوطن في كرامة الشّعب. قلت: أوَ ليس عندما يحيا الشعب في الوطن كريما، يحيا الوطن في الشعب عزيزا. جاءني شرطيٌ يدق حذاءه في الأرض دقّا مكشّرا عن أنيابه، وكأني صيد ثمين ليسرقني بعنوة القانون دراهم كثيرة، أنا في حاجة إليها، فهو يبيع نفسه كما اشتروه بثمن بخس كسوة حقيرة، مزهوا بكسوة لا تعدوا في كثير من المواقف إلا أن تكون حقيرة، أمام المحرومين وأبناء الفقراء.. ألبسوه وأطلقوا له العنان وكانوا فيه من الزاهدين.. نظر إلي كنظرة الصّاعقة فهو قانون ودستور الوطن عينه المنزل على رأسي، فتوقف متعنترا مخاطبا إياه بهمجية الغاب وقانون الأقوى: أنت لصّ تسرق عبارات ولحظات بين ظلام زوايا الشّارع. قلت له: قبل أن تحاسبوا لصوص سكون الشارع، ولصوص الشارع، حاسبوا لصوص الظلام ولصوص الوطن، فلم يعد للزمن عهدٌ بأوطان تمسي مسروقة قبل شروق الشمس وبعد سقوط المطر، إلاّ في عهدنا، مدام السّاقطون يتعالون في وطننا على سماءه وبحره ويستخفّون بريح المطر.. ... وبعد قصّة مخفر الشرطة الطويلة التي أكدت لي أن التغيير أضحى في بعض الأوطان فرضَ عين، اتصلت بها، وقلت لها بعد أن لملمت أشلائي: فلتصبحي على وطن من سحاب ومن شجر!! فتحتُ النّافذة وخاطبت سكون الكون ونيام البشر قبل أن أختم جواز السّفر: لا تَمسوا إلاّ بين الحرية أوالقطيعة في انتظارِ العاصفة، أملاً أن تنظّفوا في صُبحٍ جميل كلّ أركان الوطن، وتُسقطوا السّاقطين في خريفٍ من غصن الزّمن.. سأعيش كما اخترت أن أكون حرّا ولتَعش أنت وأنت كذلك حرّا أن لا تجعل من نفسك للسّاقطين ذيلا، وإن لم يكن لك من الأذيال بدّ فانعزل بعيدا في قطيعةٍ عن كلّ القطيع. تماما كما قال أنيس الفكر "جبران خليل جبران": (الوحدة عاصفة هوجاءٌ صمَّاءٌ تحطِّم جميع الأغصان اليابسة في شجرة حياتنا ولكنها تزيد جذورنا الحيِّة ثباتاً في القلب الحيِّ للأرض الحيَّة). هكذا تعيش قلوبُ الأحرار، مهما اشتدت وطالت النّكسات.. فقط تذكر دوما أن الأشجار تموت واقفة.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر.. ولكن اسقطوا كلّ السّاقطين.. اسقطوا كل السّاقطين، إن أردتم فعلا أن تُصبحوا على وطنٍ من سحاب ومطر، وتمسوا على وطن من غصن وشجر.. السّلام عليكم محمد بوعلام عصامي