سنة 2023 : عدد زوّار تونس بلغ 9.370 مليون سائح أي بزيادة بنسبة 45،5 بالمائة    الطلبة التونسيون يتحركون نصرة لفلسطين    نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن خبر غير سار لمحبيه    تعرّض سائق تاكسي إلى الاعتداء: معطيات جديدة تفنّد روايته    بن عروس : تفكيك وفاق إجرامي مختص في سرقة المواشي    السنغال تعتمد العربية لغة رسمية بدل الفرنسية    فيديو : المجر سترفع في منح طلبة تونس من 200 إلى 250 منحة    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    التونسيون يستهلكون 30 ألف طن من هذا المنتوج شهريا..    عاجل : وزير الخارجية المجري يطلب من الاتحاد الأوروبي عدم التدخل في السياسة الداخلية لتونس    مليار دينار من المبادلات سنويا ...تونس تدعم علاقاتها التجارية مع كندا    رئيس الجمهورية يلتقي وزير الشؤون الخارجية والتجارة المجري    الرابطة الأولى: تعيينات مواجهات الجولة الثانية إيابا لمرحلة تفادي النزول    عاجل : تأجيل قضية رضا شرف الدين    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    عاجل/ حادثة إطلاق النار على سكّان منزل في زرمدين: تفاصيل ومعطيات جديدة..    بنزرت: طلبة كلية العلوم ينفّذون وقفة مساندة للشعب الفلسطيني    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    منوبة: تقدّم ّأشغال بناء المدرسة الإعدادية ببرج التومي بالبطان    الحماية المدنية: 17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    نشرة متابعة: أمطار رعدية وغزيرة يوم الثلاثاء    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    عاجل/ تعزيزات أمنية في حي النور بصفاقس بعد استيلاء مهاجرين أفارقة على أحد المباني..    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    كاتب فلسطيني أسير يفوز بجائزة 'بوكر'    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور رفيق حبيب:هوية مصر يجب أن تكون قضية مفتوحة للحوار
نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 02 - 2011

رفيق حبيب قبطي مسيحي ينتسب إلى الطائفة الإنجيلية في مصر، وهو أحد أبرز المتخصصين في دراسة الحركات الإسلامية.
نشأ في بيئة مسيحية يفترض أنها بروتستانتية خالصة لأن والده الراحل كان رئيس للطائفة الإنجيلية في مصر لسنوات طوال وأحد أهم مؤسسي العمل الاجتماعي فيها، إلا أنه يجاهر أبدا ودوما بأن المرجعية الوحيدة والحقيقية لتلك المنطقة هي عربية إسلامية وأن العلمانية بتنوعاتها المغرقة لا تناسب الأرضية الدينية التي بنيت عليها الذهنية الفكرية.
وأهمية الدكتور رفيق حبيب، المفكر المصري المسيحي الديانة والباحث المتخصص في الشخصية المصرية والحضارة العربية والإسلامية، تتأتي من أنه رجل علم النفس الاجتماعي الذي استطاع عبر دراساته العلمية المعمقة وأطروحاته الكتابية إماطة اللثام عن ما يجري في مصر وللشخصية المصرية من تحولات وتغيرات.
قام مركز الجزيرة للدراسات بمحاورة المفكر د حبيب وطرح عليه العديد من الأسئلة لاستكناه آرائه حول بعض الهموم المصرية الراهنة ومن أبرزها الهم الطائفي.
المسلمون والأقباط بمصر.. إلى أين؟
بداية وقبل كل شيء كيف تقرأ حال العلاقة الراهنة بين الأقباط والمسلمين في مصر وإلى أين تمضي؟
د. رفيق حبيب: تمضي إلى مرحلة أزمة أكثر عمقا والأزمة بدأت منذ السنوات الأخيرة في القرن الماضي عبر حادثتي الكشح الأولى والثانية ومستمرة في منحى تصاعدي ديني وطائفي، حجم العنف مرتفع، حجم تلاحق الأحداث سريع، إذن نحن نمضي إلى لحظة الذروة في هذه الأزمة.
إلى ما تعزي هذا الاحتقان الخطير في الأعوام الأخيرة؟
- هناك في واقع الأمر عدة أسباب منها ضعف تمثيل الدولة للانتماء العام فمنذ سبعينات القرن الماضي أستطيع أن أقول إن هناك أزمة مجتمعية طرحت نفسها بعد هزيمة عام 1967، وبات المجتمع المصري يعيد بناء نفسه على أسس هويات دينية دون أن تعبر الدولة عن هوية واحدة جامعة مانعة داخل إطارها الأوسع، هناك كذلك أزمات اجتماعية واقتصادية أدت إلى زيادة التعصب والاحتقان، هذه العوامل مجتمعة شكلت أزمة مجتمعية شاملة أثرت على قيم الإنسان المصري وهويته ولذا ظهرت درجة عالية من التعصب كما نتجت حالة احتقان ونزاع ديني.
لكن، ألا ترون أن مصادمات الجيزة الأخيرة بين بعض الأقباط وابين لأمن مشهد نوعي غير مسبوق يتمثل في اللجوء للعنف؟
- هي لحظة جديدة في مسالة النزاع الديني بلا شك، وقد سبق ذلك مرة واحدة في مظاهرة سابقة في الكاتدرائية المرقصية، وأحدث المتظاهرون بعض الإصابات في عدد من الضباط وجنود الأمن المركزي، ويمكن القول إن الخروج بالتظاهرات والاعتراضات منذ حادثة الكشح ينمو تدريجيا. والآن انكسر حاجز الخوف لدى الأقباط كما حدث لدى فئات كثيرة في الشارع المصري مما شجع الأقباط على الدخول في مواجهات مباشرة مع الدولة.
هل تخشى من أن يكون هذا النموذج مرشحا للتصاعد عند أقرب مواجهة فكرية تالية؟
- أتصور أنه مرشح للتصاعد والتكرار عند أي أزمة تحدث لافتقاد إستراتيجية حقيقية ناجعة لمواجهة مثل تلك المشكلات منذ سبعينات القرن العشرين، أي منذ أربعة عقود ولابد من إجماع العقلاء والحكماء في مصر على إيجاد مثل هذه الإستراتيجية.
هل قضية تلكؤ الحكومات المتعاقبة في إصدار قانون بناء دور العبادة الموحد هو المنطلق الرئيس لهذه الصدامات أم أن هناك جذورا أكثر عمقا للازمة؟
- مواقف الأقباط الأخيرة لا يمكن أن نعزوها فقط إلى تأخر صدور قانون العبادة الموحد، بل يجب أن نعزوها إلى عدة أشياء في وقت واحد منها عل سبيل المثال: القول إن الجماعة القبطية أصبحت جماعة نشطة في إطار طائفي سياسي داخل إطار الكنيسة وأن لديها رؤى ومشروعا، لأنها عندما خرجت في حادثة وفاء قسطنطين لم يكن معها الحق أن تخرج لأنها خرجت ضد حرية الاعتقاد، وهذا يعني أن تلك الجماعة تخرج أحيانا في شكل رد فعل وأحيانا في شكل فعل، وبالتالي لا يمكن أن نعزو الأمر لإشكالية بناء دور العبادة فقط.
أما مسالة تلكؤ الدولة فهي حقيقة لأن هناك إجراءات لبناء الكنائس غير واضحة، غير عادلة، لا تؤدي إلى تحديد مساحة الحق أين هو، ولا تؤدي بأي شخص لأن يعرف أين حقه لكي يأخذه.
يرى الكثيرون أن هذا الملف، مع ملفات مشابهة يؤذي النسيج الاجتماعي المصري.... هل تتفق مع هذا؟
- مؤكد أن مثل تلك الإجراءات المعقدة تؤذي مشاعر المسيحيين لأنها تمس حقهم في بناء دور العبادة، وأنا أرى أن الدولة تتلكأ في إصدار قانون البناء الموحد لدور العبادة لأنها تعتقد -أولا في ظني- أن تصاريح بناء الكنائس هي أداتها للسيطرة على الكنيسة ، وأنه -ثانيا- إذا كان هناك قانون محدد وعادل وواضح لبناء الكنائس يحدد متى يمكن ومتى لا يمكن سوف تفقد ورقة مهمة للسيطرة على الكنيسة والضغط عليها.
أيضا الدولة أحيانا كثيرة تتجنب فتح ملفات كثيرة لا تعرف كيف تديرها على المستوى الاجتماعي، مثلا تجنبت الدولة فتح قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين لعقود طويلة وأنا أظن أن الدولة ستتلكأ أكثر في مسالة بناء الكنائس وأن هذا سيظل أحد أهم الأسباب الرئيسية للتصادمات الطائفية كما كان منذ عام 1972 وحتى الآن.
الكنيسة المصرية.. وجدل الهوية
هناك جدل جرى في مصر بين بعض الرموز المسيحية والإسلامية حول هوية مصر: من هو صاحب البلد الأصيل ومن الضيف.. هل تعتقد أن مثل هذا الجدل العقيم ساعد في إشعال المواجهات؟
- جوهر التصريحات التي صدرت عن الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية المصرية عن أن الأقباط هم أصحاب مصر الأصلاء وأن المسلمين ضيوف تعبر عن رؤية ذات بعد قومي سياسي وتتناول الحديث عن مصر المصرية الخالصة التي ليست لها أي روابط بهوية العالم العربي أو الإسلامي. هذه الرؤية ظهرت عدة مرات من ممثلي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عدة محاضرات سابقة كما في محاضرة الأنبا توماس في الولايات المتحدة الأمريكية. هي رؤية سياسية قومية بدأت تنتشر لدى الجماعة القبطية وليست جديدة، بل الجديد هو التصريحات التي أظهرتها.
وتفاعل الدكتور محمد سليم العوا المفكر الإسلامي فتح باب المواجهة للرأي الأخر، وتصوري أن طرح الحديث عن هوية مصر يجب أن يكون قضية مفتوحة للحوار وأن يحدث عليها حوار، وحدوث الحوار، حتى ولو كانت له آثار سلبية، ليس خطرا، لأن بقاء رؤية معينة لدى الأقباط عن هويتهم ورؤية للمسلمين عن هويتهم؛ وبقاء الرؤيتين معناه أننا تحولنا إلى شعبين ولم نعد شعبا واحدا وهذه هي الخطورة الشديدة؛ ولذا علينا أن نناقش هذه القضية بموضوعية.
أما القول إن الكنائس والأديرة مليئة بالسلاح فهذا حديث كان يجب التحقق منه أولا بشكل موضوعي وفي قناعتي أن الأقباط لا يلجئون ولن يلجئوا إلى حمل السلاح في مواجهة الدولة أو المسلمين لأنهم عقليا الطرف الأقل عددا، وبالتالي السلاح خطر عليهم قبل أن يكون خطر على الآخرين.
ما الذي جرى للتعايش الإسلامي المسيحي المشترك عبر أربعة عشر قرنا في مصر؟
- عبر أربعة عشر قرنا كان هناك تعايش واحد إسلامي مسيحي، نعم حدثت نزاعات دينية بين المسلمين والمسيحيين في بعض الفترات المتفرقة لكنه لم يحدث أن استمر أربعة قرون كما الحال مؤخرا ، كان يستمر أسابيع أو أشهرا على أقصى تقدير ثم ينتهي.
كان النزع الديني وقتها يرجع إما إلى أزمات العصر، مثل المجاعات أو استغلال الحكام الطغاة لمناصبهم ولهذا لم يكن النزاع يتمحور حول القيم والهوية، الآن التنازع حول الهوية الدينية. ولعل ما عمق الأزمة أنه في الماضي كان المجتمع قويا برجاله ومؤسساته وتكويناته الاجتماعية وقياداته المجتمعية القادرة على حل أي أزمة؛ لكن هذا النموذج ضعف لصالح سيطرة الدولة وبالتالي لم تعد هذه الرموز حاضرة مما أضعف كيان المجتمع المصري وسهل ظهور تلك النزاعات.
قبل عدة عقود لم تكن الكنيسة إلا موقعا وموضعا للعبادة.. ما الذي تغير على صعيد هذا الدور في تقديرك؟
- حقيقي أنه لأول مرة في التاريخ المصري يتغير الدور الأصلي المنوط بالكنيسة القبطية، وبدا وكأنها تطرح نفسها ممثلا سياسيا وتظهر الكنيسة بهذا الشكل في العمل السياسي لتكون ضمن القوى المؤيدة مباشرة للحزب الحاكم. وبالتالي نحن أمام متغيرات جديدة جعلت أزمة المجتمع مختلفة وخطيرة في نفس الوقت.
خطر البلقنة.. هل هو وارد بمصر؟
البعض يحذر من أن مصر تمضي في طريق سيناريو اللبننة أو العرقنة أو البلقنة هل ذلك كذلك فعلا؟
- الأزمات الطائفية الأخيرة تضع مصر في مواجهة سيناريو لمشروع لببنة لمصر وإن كان مغايرا لما جرى في لبنان، يضعها أمام مشروع لا يتعلق بالتقسيم الطائفي كما هناك لأنه لا توجد طوائف في مصر ولا توجد فكرة تقسيم مصر جغرافيا لأن الأقباط منتشرون من الإسكندرية إلى أسوان شمالا وجنوبا، ولا يوجد مشروع لإقامة ما يسمى بالدولة القبطية هذا غير صحيح. لكن ما يحدث هنا في مصر، هو تحول مصر إلى دولة لشعبين، وعندما تضحى دولة لشعبين يكون هذا بداية الطريق لأن تصبح تحت الحماية الدولية، وتتحول في النهاية إلى دولة تفرض عليها وصاية دولية لحماية شعب من تغول شعب أخر عليها، وهذا هو الوارد والممكن في المشروع القبطي.
بعض الآراء قالت إن ما جرى من صدامات طائفية قبل الانتخابات البرلمانية هو سيناريو مرسوم بعناية من قبل أجهزة الأمن للتغطية على ملابسات الانتخابات.. ما مدى صحة هذا القول في تقديرك؟
- أتساءل في البداية من الرابح ومن الخاسر؟ الخاسر الأول هو الدولة والأمن والنظام وهو المقبل على هذه الانتخابات لأن هذه اللحظة ينفجر فيها حتى من يسمون حلفاء للنظام الحاكم "الأقباط"، ومعنى ذلك انتفاء فكرة التفاهم بين الدولة والأقباط. فكيف يصوت الأقباط للحزب الحاكم ونحن نشهد مثل هذه المواجهات التي أصبحت عنيفة على النحو الذي شهدناه؟
أنا أظن أن النظام خسر كثيرا لأنه دخل في حرب مع الإعلاميين وحرب مع التيار السلفي وأغلق له قنوات كثيرة، ودخل في مواجهة مع الأقباط، ومع معظم القوى السياسية وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وهو يفتح على نفسه كل المعارك في وقت احد ولذا فهو الخاسر الأول.
الإسلام السياسي والأقباط
لماذا بات الأقباط يخشون من تصاعد ما اصطلح على تسميته "بالإسلام السياسي" كل الخشية؟
- أفضل دائما أن أسميها الحركات السياسية الإسلامية لأن تعبير الإسلام السياسي يوحي بأن الإسلام موضوع في إطار السياسة وهناك إسلام سياسي وإسلام غير سياسي، مثل أي حركات مسيحية سياسية في الغرب فليست هناك مسيحية سياسية وأخرى غير سياسية والأدق القول بالحركات السياسية الإسلامية أو المسيحية.
وأعتقد أن رؤية الأقباط عن الحركة الإسلامية المعتدلة مثل جماعة الإخوان المسلمين تخالف الواقع الذي هي عليه بنسبة 80% ولا تقل عن ذلك. ما لديهم من صورة يبنون عليها مواقفهم إنما هي صورة ليست حقيقية، وبناء على هذه الصورة يشعرون أن وصول أي حركة إسلامية للحكم يمثل خطرا شديدا على بقائهم وموضعهم وحقوقهم القانونية والدستورية، لكن هذه المخاوف نتاج هذه الصورة غير الحقيقية.
من المسؤول عن إنتاج هذه الصورة: أهم الإخوان الذين لم يبلوروا طرحا مقبولا؟ أم هو الإعلام الذي قدم صورة سلبية عن الجماعة؟
- هناك عدة أسباب في حقيقة الأمر وفي مقدمتها أن القول إن جماعة الإخوان المسلمين تمارس نشاطها الديني والدعوي فهذا بداية يخلق عند المسيحيين مشكلة أولى لأنهم مخالفون في العقيدة ولا يعرفون الفكر الإسلامي ولا التيارات الإسلامية المختلفة ولا تراتبيتها وأفكارها وتنظيمها.
الأمر الثاني أنه لا يوجد على أرض الواقع بين الإخوان المسلمين والأقباط احتكاك حقيقي بحكم أن حرية العمل الاجتماعي والنقابي كلها أصبحت مقيدة بعكس ثمانينات القرن الماضي عندما كانت هناك مساحة أكبر للاحتاك في الجامعات والنقابات.
عطفا على ذلك فإن الأقباط بالفعل وفي مجملهم تأثروا تأثرا شديدا مباشرا بالإعلام الحكومي والإعلام الغربي وإعلام النخب العلمانية في مصر، وهذا التأثر خلق لديهم صورة هي نفس الصورة التي يحاول أن ينتجها الإعلام العلماني عن الإخوان المسلمين، وبالتالي نجح هذا الإعلام في تشويه صورة الأخوان على صعيد الأقباط والمسلمين دفعة واحدة.
معروف عنك قربك الكبير من دوائر حركات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين بنوع خاص.. أما من تناقض بين ذلك وخلفيتك الدينية والمذهبية؟
- كنت ولا أزال من المقربين من المرشد العام السابق والحالي للإخوان المسلمين ممن تتم استشارتهم، وهذا ليس منصبا وإنما مسالة ضمن الحوارات الجارية بين الأطراف السياسية المصرية.
الأمر الأخر هو إني لست علمانيا بمعنى أن توجهاتي الفكرية ليست علمانية، أنا من المقتنعين بأن هوية هذه الأمة هي مرجعيتها الحضارية والإسلامية وأن جزءا من هذه المرجعية شارك وأسهم في بنائه المسيحيون العرب. وهناك دراسات عميقة في هذا الإطار كما في كتب العلامة الدومنيكاني المصري الأب جورج قنواتي. أنا أؤمن بأن المسيحي المصري ذو طابع حضاري شرقي متدين مثل المسلم المصري، وأن الأمة الإسلامية ذات طابع حضاري واجتماعي واحد، وأن الانتماء إلى الحضارة الإسلامية يتيح للمسيحيين أن يحافظوا على هويتهم الدينية وتميزهم الخاص. ثم إن هذا الانتماء يكفل لهم أن يعيشوا في بيئة دينية محافظة مماثلة لتوجهاتهم وأفكارهم، ثم يحافظ على المسيحية في الدول العربية والإسلامية ويحميها من خطر تغول العلمانية لأنها ستضحي خطرا مزدوجا على المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
ألهذا السبب قلت في تصريح لك ذات مرة إن الشريعة الإسلامية صمام أمان للمسيحيين في مصر؟
- بالتأكيد وبالفعل حدثت وقائع على الأرض تؤكد ما كنت أدعو له، ذلك أنه طبقا للقوانين الوضعية لا يحق للمسيحيين أن يكون لهم قانون أحوال شخصية خاص، طبقا للقوانين الوضعية والعلمانية يصبح الزواج مدنيا وتسقط ولاية الكنيسة على الزواج والأسرة المسيحية. وطبقا للقوانين الوضعية يتحول رأس الكنيسة أي البابا شنودة إلى موظف عام يجوز محاسبته أمام القضاء مثله مثل أي موظف في الدولة. القوانين الوضعية العلمانية سوف تحرم المسيحيين أولا من كونهم جماعة لها هوية دينية خاصة تعبر عنها، وسوف تحرمهم من أن تكون لديهم مؤسسة ترعى شؤون العبادة والعقيدة والأسرة وهي الكنيسة. وسوف تجعلهم مستباحين أمام عملية العلمنة الخارجية التي يمكن أن تقضي على حضورهم. وأستشهد هنا بما قاله البابا شنودة ذات مرة من أنه: إذا تحول الزواج إلى زواج مدني تم هدم الأسرة، ما سيؤثر على شعب الكنيسة ثم سيؤثر لاحقا على الكنيسة. وبقول آخر: أذا أصبح الزواج وبناء الأسرة لا يتم على أسس دينية تنتهي الأسرة المسيحية، وإذا انتهت هذه تنتهي الجماعة المسيحية وكذلك تختفي الكنيسة. وهذا ما جرى في كثير من دول أوربا وما نراه من تراجع مسيحي هناك.
يرى البعض أن فوران حالة الإسلاموفوبيا في الغرب والدعوة لمطاردة المسلمين بوصفهم إرهابيين والدعوات لحرق القرآن وما إليها أحدثت ردود فعل طبيعية في الدول العربية والإسلامية.. إلى أي حد يصدق هذا التحليل؟
- هذا صحيح إلى درجة كبيرة سيما وأن الهجوم على الإسلام والمسلمين تعاظم مؤخرا وتمثل في مظاهر كثيرة مثل منع بناء المآذن ثم منع النقاب والدعوة لإحراق القران. وفي هذا السياق كان طبيعيا أن يشعر عموم المسلمين بأن هناك حرب على الإسلام، وهناك عشرات من الدلائل تشير إلى وجود حربا على الإسلام، ولهذا كان من الطبيعي أن يسأل رجل الشارع المسلم العادي أين موقع الأقباط من هذه الحرب. فإذا وجدوا أن الأقباط يستظلون بالحماية الدولية، ويرحبون بالتدخل في الشأن الديني كما رحبت الكنائس بتقرير الحريات الدينية إذن على عامة المسلمين أن يدركوا أن هناك علاقة ما بين الطرفين، وبهذا يتم التوصل إلى خلاصة أن الأقباط هم جزء من الحرب على الإسلام وجزء من الإسلاموفوبيا.
متى ستنتهي جدلية النظرة العربية والإسلامية لكل ما هو غربي بوصفه صليبيا وعلى الجانب المشاطئ كل ما هو عربي وإسلامي هو إرهابي إن جاز هذا الإجمال المخل على الجانبين؟
- أعتقد أننا أمام مشكلة ينبغي ردها للتاريخ: الغربي دائما يريد أن يهيمن على المنطقة العربية والإسلامية في لحظات قوته، فعل ذلك منذ زمن الإسكندر الأكبر والإمبراطورية اليونانية مرورا بالإمبراطورية الرومانية وصولا إلى جورج بوش الثاني. هذه الهيمنة لم تكن بدافع صليبي مسيحي، إذا استثنينا فترات الحروب الصليبية بالتأكيد، هي نزعة قومية غربية، الرجل الأبيض الغربي المتفوق يرى أن من حقه أن يقود العالم لأنه الأفضل والأكثر تحضرا ويجب عليه أن يهيمن كذلك على حدوده الجنوبية أي حدود أوربا الجنوبية في العالم القديم لأن تلك الدول ببساطة يمكن أن تكسر هيمنته أو تنافسه أو تكون بديلا عنه على المستوى الدولي والعالمي. هذه الرؤية هي التي جعلت الغرب كلما تقدم يمضي في الهيمنة على جنوب البحر المتوسط والمنطقة الممتدة من مراكش إلى طنجة.
والحقيقة أن الاستعمار الغربي منذ الحملة الفرنسية على مصر حتى غزو العراق هو استعمار علماني يريد أن يجعل من المنطقة فناءه الخلفي.
وهنا نلفت النظر إلى أمر مهم يلتبس على البعض وهو أن رؤية الغرب للعالم العربي والإسلامي لم تختلف بعد 11 سبتمبر/ أيلول عما سبق، ذلك أنه إذا عدنا لكل ما هو مكتوب ومقرو من التراث السياسي والثقافي والفني الغربي لعدة عقود، فإننا نجد هوليوود تشوه دائما صورة العرب والمسلمين منذ السبعينات. ويقال إن صورة العرب والمسلمين في الغرب لم تتغير إلا بزيارة الرئيس السادات للقدس، أي أنه عندما سلمت المنطقة الراية لأمريكا وإسرائيل تحسنت صورتها، الغرب يريد من هذه المنطقة أن تكون تابعة له.
في هذا السياق يصبح الغضب العربي والإسلامي والعنف الممارس هو ردة فعل طبيعية وهذا ليس تبرير أو إعطاء شرعية أو مشروعية له لكنه تنفيس طبيعي في ظل غرب قابض بيد من حديد على الأنظمة العربية والإسلامية في هذه المنطقة.
وباختصار غير مخل هذه الجدلية تنتهي عندما ينتهي زمن محاولة سيطرة حضارة على أخرى وقطب دولي على أخر.
لماذا يعلق كثير من الكتاب والمحللين الذين يتناولون الشأن الإسلامي كل أخطاء التشدد على ما يعرف ب"الإسلام الوهابي".. هل الأمر شماعة لا أكثر أم حقيقة علمية موضوعية وتاريخية في الوقت ذاته؟
- عالم الاجتماع النطاسي يدرك تمام الإدراك أن التشدد وليد واقع وليس وليد فكر وبالتالي إذا كان هناك فكرة ظهرت في بيئة معينة وانتقلت إلى بيئة أخرى فمعنى ذلك أن هناك احتياجا لها، وإن لم تأتيها من الخارج ستنشأ ولا شك فكرة مماثلة من الداخل.
فكر محمد بن عبد الوهاب ظهر في زمن وبيئة مخالفة لمعظم البيئات العربية والإسلامية المعاصرة وفي أوقات مختلفة تماما.. لماذا لقيت بعض أفكاره رواجا؟
ما حدث أن الهوية والقيم والمبادئ والأخلاق تعرضت لحالة غزو أخلاقي وتدمير وتفكك هائلة فأصبح الإنسان البسيط المسيحي والمسلم يشعر بخطر محيط به هذا الخطر دفع به إلى العودة إلى هويته الحقيقية والأصلية وهي التدين، ثم للآراء الأكثر تشددا، وأصبح التشدد يعيد إنتاج نفسه كوسيلة للدفاع لحماية الهوية والمرجعية من الغزو الثقافي الغربي العلماني.
في تقديرك ما هي الأخطاء التي ارتكبتها المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية المصرية حتى نتج هذا التسطيح الفكري الذي يعاني منه الجميع؟
- المؤسسة الإسلامية الدينية تختلف عن المؤسسة المسيحية لأنها ليست مؤسسة مركزية، المؤسسة التعليمة الإسلامية في مصر هي الأزهر الشريف ومشكلتها أنها خضعت للدولة فأصبحت فاقدة للمصداقية وباتت الساحة الفكرية المصرية بدون رأس علمي يفكر لها في مجال الإسلام. الدعاة والوعاظ المسلمين في غالبهم اليوم ينشرون خطابا إسلاميا مسطحا وبعضهم ينشر خطابا إسلاميا متشددا وبالتالي لا ينمو العقل الإسلامي إلا من خلال بعض القيادات وبعض الحركات الإسلامية الوسطية التي استطاعت أن تحافظ للإسلام على جوهره وحقيقته واعتداله.
أما الخطأ الأكبر للمؤسسة الدينية المسيحية فهو أنها قبلت أن تكون ممثلة اجتماعيا وسياسيا للجماعة المسيحية وقبلت أن تقوم بدور سياسي وأنشأت خطابا يفصل هوية المسيحيين عن الهوية العربية والإسلامية.
والخلاصة أن المؤسسات الإسلامية والمسيحية لم تكن هي الكابح الذي يقف أمام حالة التعصب بل كانت في جزء كبير منها غير قادرة على الوقوف في وجهه أو انتشاره.
لك مكان قيادي في الهيئة القبطية الإنجيلية وهي من أهم الهيئات التي تعني بشؤون الحوار بين المسلمين والمسيحيين في مصر لماذا لا نرى مردودا حقيقيا لتلك الحوارات؟
- حوار الأديان يتم بين نخب، وكثيرا ما يضل طريقه ويتكلم عن المسيحية والإسلام، وهو عندما يتناول العقائد لا يقرب بين الأديان وأنا أتساءل هل هذا الحوار نتاج حالة مجتمعية؟ ليس كذلك، هل من يشاركون فيه من ممثلي التيارات الشعبية الجارفة والكاسحة والمؤثرة في الشارع المصري؟ هذا ليس حقيقيا؟ هل الذين يشاركون في تلك الحوارات من رجال دين إسلامي أو مسيحي يعودون لجمهورهم بمنتج يوزع بينهم لتغير العقليات التصادمية إلى تصالحية؟ هذا لا يحدث.
إذن هذه عملية نخبوية ولهذا لا نتاج حقيقي لها على أرض الواقع مع أسف شديد.
كل التيارات والمؤسسات الإسلامية المصرية رفضت تهديدات تنظيم القاعدة للأقباط وللكنائس المسيحية لماذا لم يتلفت التفاتة مجتمعية بناءة لهذا الموقف بصورة ايجابية؟
- بالتأكيد ما جرى هو مؤشر شديد الايجابية وكان يجب وضعه في الاعتبار، صحيح أن الكنيسة سعدت بهذا التضامن لكن الأمر كان يستحق قراءة أكثر عمقا، قراءة تفرز أول ما تفرز معطى جديد هو انتفاء حالة العنف المسلح من مصر خاصة تجاه الأقباط الذين عانوا منها في تسعينات القرن الماضي وأنه لم يعد لها الآن وجود، وبالتالي نحن في حالة فيها كل التيارات الإسلامية مستعدة للتفاهم والتحاور والتعاون والانفتاح ومن ثم هناك فرصة لبناء هويتنا المشتركة وأنا أظن أنه إذا كانت هناك حرية سياسية ومجتمعية وقامت الأطراف المسيحية المختلفة بحوارات مع الأطراف الإسلامية المختلفة كالتيار السلفي والإخوان وغيرهم وتحاوروا وتعاونوا بعيدا عن أي غيبة الرقابة والتعنت والعنف الأمنيين ، يمكن أن نصل إلى حل للمشكلات التي نعاني منها في زمن قليل لأن الذين سيتقابلون هم أبناء الشعب الذين يعيشون على هذه الأرض ويهمهم جميعا أن يعيشوا في سلام مجتمعي دائم وشامل.
هل يعني هذا أن الخطاب الديني في حاجة ماسة إلى تطويره إن لم يكن تغييره على الصعيدين المسيحي والإسلامي في مصر؟
- بالطبع الخطاب الديني يحتاج إلى تطوير بخاصة النظرة للآخر المغاير دينيا، وهنا أنبه إلى أن الفكر الديني والفقه الإسلامي متفاعل مع الواقع، فهو فقه يبني على التفاعل مع الواقع والأحداث وما يحدث الآن هو أن الخطاب الديني المسيحي والخطاب الديني الإسلامي ليسا في حالة تفاعل والتيارات والمؤسسات الإسلامية والمسيحية على أرض الواقع في البيئة الشعبية ليست في حالة تفاعل.
وحتى الأزمات الطائفية التي حدثت في بدايات القرن العشرين بعد سقوط الخلافة وظهور الدولة العلمانية ظل المجتمع المصري لديه تجمعات وقيادات وزعامات قوية، عندما حدثت أزمة 1911 الطائفية بين الأقباط والمسلمين لم تستغرق شهورا أو سنة، بسبب وجود قيادات مجتمعية فاعلة لها جماهير وشعبية توافقت وشعرت بالخطر وبضرورة إنهاء تلك الأزمة بأسرع ما يمكن.
هذا تغير لأن الدولة المصرية دمرت كل زعاماته وكياناته فلم يعد له رجال ومرجعيات وبالتالي عندما تحدث الأزمة من يديرها؟ لا نجد. وعليه أقول إنه إذا تحرر المجتمع المصري وأعاد بناء نفسه وأصبح له رجاله ومرجعياته سوف تحل كل هذه القضايا في شهور قليلة.
المسألة الدينية بمصر بين الإعلام والأمن
هل أجج الإعلام في الفترات الأخيرة المواجهات بين الأقباط والمسلمين بدرجة أو بأخرى؟
- الغالب على الإعلام المصري الحالي أنه إعلام يعبر عن تيارات ليبرالية أو يسارية وكلها تيارات علمانية، وهذا الإعلام استغل فكرة حقوق الأقباط واعتبرها ورقة رابحة في مواجهته مع التيار الإسلامي وعندما استغلها بهذا الشكل كان يعمق مشكلة اجتماعية موجودة مع أنه لا يصح أن تكون ورقة في الصراعات السياسة وأنه يجب أن تبتعد الصراعات السياسية عن أزمات المجتمع حتى لا تعمقها.
والأمر الآخر الذي أحب أن أشير إليه هو أن جزءا من التنافس الإعلامي للأسف الشديد جعل الإعلام غير منتبه للآثار الاجتماعية التي يسببها كونه مهتما بإخراج العناوين التي تسوق سلعته وأدى ذلك في كثير من المرات إلى تحويل أي حادث له طباع جنائي معتاد إلى حادث طائفي.
يبقى الأمن مفتاح الأمان للحفاظ على النظام العام ومع ذلك يرى البعض أن ملفات بعينها لا يقدر الأمن على أن يديرها ومنها الملف القبطي.. لماذا يرى البعض ذلك؟
- أجهزة الأمن في حقيقة الأمر لا تملك إلا أداة وحيدة في إنفاذ القانون أي الوسيلة الأمنية فهو مكلف بإنفاذ القانون بشكل محايد بين المواطنين جميعا، والأمن لا يملك أي أدوات لإدارة أي صراعات سياسية أو اجتماعية من أي نوع، وعندما يتحول الأمن إلى أداة لمعالجة الملفات الاجتماعية والسياسية الشائكة يعالجها بشكل يضر بها ضررا بالغا، وهذه أكبر مشكلة يقع فيها النظام المصري. المشكلة الحقيقية أن النظام المصري جعل كثيرا من الملفات ملفات أمنية، الحركات الإسلامية، الأقباط، الاحتجاج السياسي، فلم تصبح هناك ملفات سياسية، وهذا خطير جدا.
وللموضوعية نلفت إلى أن أصل المشكلة تاريخي: فوزارة الداخلية في مصر من أقدم الوزارات وكانت تدير بالفعل غالبية تلك الملفات قبل ظهور وزارات سيادية أخرى كالتعليم والصحة والثقافة والسكان وغيرها وعندها تم نقل معظم تلك الملفات إليها لكن هناك بعض الملفات التي علقت في الوزارة ومنها ملف بناء الكنائس الذي أصبح عهدة أمنية وليس عهدة لدى جهة مدنية كوزارة الأوقاف أو الحكم المحلي أو ما شابه. وهذا جعل كل شان الكنيسة لدى جهات الأمن التي لا تحل أزمات مجتمعية وبقاءه لدى الأمن طويلا سيزيد من تأزم المشهد وبخاصة إذا انحاز الأمن لهذا الطرف أو ذاك، وفي كل الأحوال تجد أن المسلمين يرون أن الأمن منحاز إلى الأقباط، وعموم الأقباط يذهبون إلى العكس بالقول إن الأمن منحاز للمسلمين، وبذلك ازدادت الأزمة عمقا.
هل تقلص الانتماء العام في رأيك سببه عدم وجود مشروع قومي عروبي كبير يجمع الكل تحت رايته وغياب حتى المشروعات الإقليمية الكبرى والتي كانت الحرب نوعا من تنويعاتها في كثير من الأحيان؟
- ما هو الانتماء العام؟ يجب أن نترجمه بداية، هو الاتفاق على الهوية والمرجعية ، في وجود دولة تحمل هذا الانتماء العام فالكل ينتمي إليها، وتقوم هي بترجمة رغبات المجتمع وآماله في شكل سياسات داخلية وخارجية. والحادث أنه منذ هزيمة العام 1967 سقط المشروع القومي الناصري والعربي في نفس الوقت بعد تراجع مشروعات اليسار وظهر على السطح المشروع الإسلامي. لكن هذا أيضا تمت مواجهته من قبل الدولة ولم تتبنه الدولة "بمفهومها الواسع" وأصبحت الدولة العربية لا تحمل مشروعا، ولا تعبر عن مرجعيات المجتمع وهويته، وبالتالي لم تعد تمثل الانتماء العام.
ما الذي حدث بعد سيادة حالة غياب الانتماء العام للدولة العربية بمفهومهما الحديث؟
- رمزية الانتماء العام أننا جميعا ننتمي لدولة واحدة، وإذا كانت الدولة لا تنتمي إلينا فنحن بدورنا لن ننتمي إليها وهنا يبحث كل منا عن مشروع أخر ينتمي له ويوليه اهتمامه على المستوى الاجتماعي. ولهذا ظهرت الحركات الإسلامية لتعبر عن الجماعة المسلمة، والجماعة المسيحية ذهبت إلى الكنيسة فأضحت هذه الحد الأعلى لهويتها وانتمائها، فبدأت تنمي مشروعها ومدركاتها وأهدافها داخل الكنيسة وبمعزل عن المجتمع ولما غاب الانتماء العام صار الانتماء الإسلامي يضم المسلمين وصار الانتماء المسيحي يضم المسيحيين وكذلك الانتماء العربي بعيدا عن الكردي والشيعي بعيدا عن السني وأصبحنا على حالة فيها المجتمعات العربية تعاني من الهويات الفرعية وبعيدا عن أي حد أدنى لمستوى انتماء عام ألا فيما ندر فباتت الغلبة للفروع وليست للأصول.
الطائفية بمصر والعوامل الخارجية
منذ فترة ليست بعيدة خرجت تصريحات لعاموس يدلين مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" ألمح فيها إلى أن إسرائيل نجحت في تأجيج الفتنة الطائفية في مصر.. الأمر لم يعد مجرد حديث مؤامرة إذن وحسب.. أليس كذلك؟
- دعنا بداية نعرف نظرية المؤامرة وما هي؟ هي افتراض حدوث أحداث معينة دون وجود دليل، إذا وجد الدليل على حدوثها لم تعد نظرية مؤامرة بل أصبحت وقائع. الأمر الأخر ولمزيد من التوضيح تجاه هذه الإشكالية نقول إن هناك مستويين للتعاطي، الأول: البحث عن الوقائع، والثاني: في البحث عن التوجهات والمصالح.
على مستوى التوجهات نعم كيان دولة الاحتلال الإسرائيلي كان يبحث عن تفتيت المنطقة، هذا هدف استراتيجي له لأن تحويل المنطقة إلى دويلات ذات طابع طائفي وعرقي يساعد على بقائه قائما قويا ويحمي أمنه، ولهذا فهو يسعى إلى تفكيك ما يمكن تفكيكه.
على مستوى الشأن المصري: حدث بالفعل، في سبعينات القرن الماضي أثناء المواجهات بين البابا شنودة والرئيس السادات، أن ثبت لدى بعض الجهات الداخلية والخارجية أن هناك نوعا من التواصل الذي يتم بين مؤسسات المجتمع المدني الذي يعمل في الداخل والخارج وبين مؤسسات يهودية أو صهيونية لها اهتمامات سلبية بملف الأقباط وتحاول هذه التعاطي إما مباشرة أو من خلال دفع مؤسسات وسيطة للدفاع عن الأقباط، وثبت لدى الدولة والكنيسة ذلك.
والثابت كذلك أن الكثير من المظاهرات الاحتجاجية القبطية في الخارج مؤخرا تجد دعما من منظمات صهيونية، وهذا تناولته صحف غربية ولا نتجنى على أحد، وحدث شكل من أشكال التضامن بين منظمات قبطية وأخرى صهيونية.
وتصوري أن جماعات الضغط الصهيوني عادة تعمل في المنطقة العربية والإسلامية لدعم حركات الانفصال أو الغضبات الداخلية أو الاحتجاجات لدى الأقليات العددية في مصر ولبنان والعراق. وكل الوقائع تشير إلى أن ثمة يدا صهيونية تفعل بعض الأفعال. لكن، وفي نفس الوقت، يجب أن نقول: إذا لم تكن هناك أزمة مجتمعية، وإذا كانت وحدة الجماعة الوطنية في أحسن صورها، ما استطاعت أي جماعة خارجية أو قوى مغرضة التدخل. اليد الخارجية، أمريكية كانت أو صهيونية، عندما تتدخل في العراق مثلا بين السنة والشيعة، أو بين العرب والأكراد، تتدخل في حالة وجود أزمة مجتمعية قائمة وهي بذلك تستغل الموجود وتحاول منع وعرقل حله لمصلحتها.
في ظنك هل التقارير الأمريكية الأخيرة الخاصة بالحريات الدينية ساهمت في تأجيج نار الخلافات بين الأقباط والمسلمين في مصر؟
- تعلمنا من التاريخ أنه عندما تتدخل يد خارجية لدعم أو مناصرة المسيحيين في مصر فإن العلاقة بين المسيحيين والمسلمين تتأزم؛ وقد جرى العرف أن غالبية الأقباط يرصون صفوفهم لرفض أي تدخل خارجي، وكان هذا هو الحائل دون تعميق حالة النزاع الديني في مصر.
لكن منذ السبعينات أصبح من الواضح أن الجماعة المسيحية تستظل بالدعم الدولي وتعتبره مفيدا لها بأي درجة من الدرجات، وأصبح عامة المسلمين يرون أن المسيحيين هم المستفيدون من التدخل الخارجي. يحدث هذا في الوقت الذي تناصر فيه الولايات المتحدة إسرائيل وتحتل العراق وأفغانستان. إذن التدخل لصالح الأقباط يأتي من طرف عدو للمسلمين أو شبه عدو في أفضل حال، وبالتالي عندما ينافح هذا العدو ويدافع عن المسيحيين فهو يعمق المشكلة بشكل أكبر.
وإجمالا أستطيع القول إن هذا التدخل الغربي شجع الأقباط على الحركة في مستوى طائفي سياسي في مواجهة الدولة، شجع الكنيسة أن تتعامل مع الدولة ليس بندية كاملة ولكن بخلفية تعرف من خلالها أنها محمية بدرجة أو بأخرى؛ وبالتالي شجعها أن تحتج في وجه الدولة عدة مرات. في نفس الوقت أدى إلى أن عامة المسلمين أصبحوا يعتقدون أن الأقباط جزء من الهيمنة الغربية وبالتالي جزء من التحالف المعادي للمرجعية العربية والإسلامية والمعادي للإسلام أيضا. الخلاصة أن كل تقارير الحريات الدينية أدت إلى الإضرار بوضع الأقباط في مصر، ولم تفدهم بأي درجة من الدرجات.
العلمانية.. فكرة الخلاص
إذا كان العالم محكوم الآن بأصوليات ثلاث يهودية ومسيحية وإسلامية فهل بالفعل الخلاص في العلمانية؟
- أتصور أن النظر إلى الدين باعتبار أن له أثرا سلبيا هي نظرة معادية للدين، ونظرة تأخذ من التاريخ اللحظات التي لم يكن للدين فيها دور ايجابي فتعتبر أن هذه هي حقيقة الدين.
والواقع أن الدين كنص له دور ايجابي وهو يمثل دافعا إنسانيا نهضويا أخلاقيا هائلا، والبقية ترتكن إلى التطبيقات البشرية.
الأمر الآخر أنا أرى أن العلمانية حاجة غربية ولكن الانتماء الديني المحافظ الشرقي حاجة عربية إسلامية وأرى كذلك أن المجتمعات العربية والإسلامية إذا تمت علمنتها بالكامل سوف تتفكك بالكامل لتصبح غابة لا توجد فيها دولة واحدة، وسوف تسقط كل الدول لأن الدين في هذه المجتمعات مكون رئيسي، فيما المجتمعات الغربية المكون الرئيس فيها مادي متمثل في العقل، والتقدم المادي الأساسي للغربي، وهو ما يتيح لهذه المجتمعات الغربية نهضته المادية بواسطة العلمانية لكن المجتمع الغربي يدفع الثمن أخلاقيا وروحيا كما يتجلى في أزماته الأخيرة.
أما من سبيل لموائمة خلاقة بين ما هو علماني إيجابي وما هو ديني روحاني؟ أم هناك حتمية تصادمية بين الكيانات الدولية وبخاصة أن هناك نماذج كما الولايات المتحدة الأمريكية علمانية الهوية دينية الهوى؟
- القيمة الأولى بالرعاية في النظام الاجتماعي والسياسي العلماني تختلف عنها في النظام ذي الأصول الدينية وهو اختلاف جوهري، حتى لو وجدت تشابهات.
الغرب في وقت من الأوقات كان مسيحيا، وكانت دوله دولا مسيحية لكنه لم يستطع أن يحقق التقدم تحت مظلة هيمنة القيم المسيحية، وهذا سببه غلبة القيم المادية فحدث نتاج سلبي، لذلك حاول التحرر من القيم الروحيه، لكنه الآن يجاهد لاسترجاع هذه القيم، والولايات المتحدة الأمريكية أكثر النماذج وضوحا في هذا الإطار... تتساءل ما السبب؟
أجيب: بدا أن الغرب تعرض لفيروسات لا أخلاقية تمس بنيته الاجتماعية وتؤثر عليه تأثيرات هيكلية، ويمكن أن تحطم المجتمعات والأفراد، لأن غلبة المادة في نهاية الأمر يمكن أن تحطم معنويات الإنسان. يتجلى هذا في تيار اليمين المسيحي الأمريكي الذي يقدم مشروعه الديني مدركا أن العلمانية خطر عليه وخطر على العالم المسيحي الذي كان موجودا في أوربا. وينادي هذا التيار بإعادة تبشير أوربا بالمسيحية ويريد أن يمرر أجندته من خلال الحزب الجمهوري، وثلاثة من رؤساء أمريكا "كارتر وريغان وبوش الابن" وصلوا للحكم من خلال دعم هذا التيار الذي يريد أن يبني أمريكا دولة مسيحية.
في بلداننا الوضع مختلف، فالعلمانية ليست الدافع لإحداث التقدم، العلمانية هي قيمة مادية كافية لتفكيك مجتمعاتنا أكثر مما هي مفككة وتحويلها إلى حالة من شبه الدولة الفاشلة.
بعد متابعتك أعمال سينودس أساقفة الشرق الأوسط الذي انعقد في روما ما تعليقك علي فعالياته وقراءته وتوصياته؟
قرأت ما قدم بعناية فائقة وأستطيع أن أقول إن الرؤية الكاثوليكية معمقة ومنظمة وأفكارها قوية وهذا ينقص معظم الرؤى المسيحية العربية والإسلامية, والورقة الأولية التي قدمت فيها بها الكثير من الرؤى المحافظة والتي تتوافق مع توجهات سائدة في المجتمعات العربية والإسلامية، ويوافق عليها بسهولة. وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين في مصر الدكتور عبد الرحمن البر كتب دراسة نقدية لورقة السينودس ووافق على العديد من القضايا المنشورة فيها وهي منشورة على موقع أخوان أون لاين.
وهناك أشياء لافتة في الحوارات عن أهمية دور المواطن المؤمن وهذا كلام قريب جدا مما تقول به الحركات الإسلامية في مجتمعاتنا، والمتعلقة بإعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي على أسس من القيم الدينية حتى يكون النهوض منظما من خلال القيم الدينية.
لكن ينسب إليك تعبير مفاده أن بعض ما جاء في الورقة الختامية يعيد إنتاج الاسلاموفوبيا. كيف ذلك.. ولماذا؟
في معالجة ورقة التوصيات الختامية لأوضاع المسيحيين العرب تكلمت عن المخاوف من الحركات الإسلامية السياسية وأسمتها الإسلام السياسي رغم أن كل ما تكلمت عنه من قيم يجب الحفاظ عليها، هي القيم التي تهتم الحركات الإسلامية السياسية بالحفاظ عليها. ومعنى ذلك أن من صاغ الورقة لم يدرك طبيعة الأمور على الأرض، سيما وأن فكرة إعادة بناء الإنسان الملتزم دينيا ودوره ورسالته في المجتمع القائمة على الوصية الإنجيلية الهامة "أنتم ملح الأرض أنتم نور العالم" إنما هي جزء أصيل من فكرة الحركات الإسلامية في الدعوة لإعادة بناء المجتمعات القائمة على أساس ديني أخلاقي. لكن الورقة لم تستطع أن تستنبط ذلك وأعادت إنتاج الاسلاموفوبيا بنفس أنماطها.
لماذا أجدك ترفض فكرة العلمانية الإيجابية التي دعا إليها السينودس. أليست مجتمعاتنا في حاجة إليها لمقاومة التشدد أي كان مصدره؟
الغرب اليوم يعاني من هجمات العلمانية المتحررة والدعوات تنطلق لعودة أوربا إلى قيمها المسيحية فكيف له أن يحاول تحويل تلك العلمانية المنفلتة إلى علمانية إيجابية؟ هذه عملية شاقة إن لم تكن مستحيلة. ثم هو يريد أن يصدر لنا طبعة مخففة من العلمانية "الإيجابية" ولا يدرك أن القيمة الأولى بالرعاية في النظام الاجتماعي والسياسي الشرقي قيمة دينية وليست علمانية بالأساس، ولهذا فأنا أرى أن هناك تناقضا جوهريا بين تلك الدعوة وبين الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها الحياة الذهنية في مصر فلا يمكن معالجة العلمانية المتطرفة بعلمانية إيجابية.
نبهت أصوات إسلامية إلى خطورة تفريغ الشرق من مسيحييه.. من يدفع هؤلاء إلى ترك أوطانهم؟ وما هي الخسارة التي ستحل بالحضارة العربية والإسلامية جراء هجرتهم القسرية؟
- هي بالفعل ظاهرة شديدة الخطورة، وخطرها واضح على المجتمعات العربية والإسلامية، وخطر على المشروع الحضاري الإسلامي وعلى مشروع النهوض الحضاري العربي الإسلامي، لأن الحضارة الإسلامية قوتها في تنوعها، قوتها أنها تاريخيا لم تكن حضارة عرب فقط، شارك في بناءها عرب وفرس وأتراك ومصريون وغيرهم... قوتها في وجود طرق صوفية وتيارات فكرية وأخرى روحية متباينة، هذا التنوع جعل منها القوة الأولى في العالم لمدة ثمانية إلى عشرة قرون، وبالتالي إعادة العبث بهذا التنوع الداخلي يضرها.
الجماعة المسيحية في العالم العربي مهددة بالفعل لأنها صغيرة الحجم وقاربت على الانقراض سيما في الأراضي المقدسة، القدس وبيت لحم والناصرة وهي مهد المسيحية.
والملاحظ هنا أنه حيثما وجد الاحتلال سواء أكان إسرائيليا أو أمريكيا أو حتى التدخلات الأجنبية الخارجية سياسية أو عسكرية ينقرض الحضور المسيحي العربي. ففي ظل الاحتلال الإسرائيلي يتآكل المسيحيون الفلسطينيون وفي ظل الاحتلال الأمريكي للعراق ينقرض ويهجر المسيحيون الكلدان والأشوريين والسريان، وفي ظل التدخلات الخارجية الأمريكية في لبنان يتناقص عدد المسيحيين هناك من 60% إلى 30% تقريبا. الوضع في مصر مختلف بسبب العدد الكبير لكنه يتناقص بدوره وفي هذا خطر على التركيبة المصرية. التعدد في الفكر الإسلامي نفسه هو الذي يدفعك لمعرفة الحق والدفاع عنه، عندما تجد أمامك مسيحيا أو يهوديا فستعرف عقيدتك الإسلامية بشكل أفضل، والمسيحي عندما يجد مسلما ويهوديا من حوله يعرف عقيدته أكثر. وأدلل هنا على صدقية هذا الحديث بما قاله ذات مرة أحد قيادات الكنيسة القبطية من أنه لولا البيئة الإسلامية من حولنا ما استطعنا حماية المسيحية في مصر. هذه هي الحقيقة، فالبيئة الإسلامية بيئة محافظة بخلاف نموذج البيئة في الدولة المستوردة على حد تعبير العالم الفرنسي "برتران بادي".
أنت مفكر إشكالي يصعب على المرء الإحاطة به.. تأتي من عمق الخلفية المسيحية الفكرية.. ونراك منافحا غير اعتيادي تجاه عمق الانتماء الحضاري العرب والإسلامي، كيف تجمع بين هذه المتناقضات أو قل تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة؟
- تخصصي الرئيس هو علم النفس الاجتماعي، ورسالتي للدكتوراه حول الشخصية المصرية، تحليل مضمون عبر خمسين قرنا للفن التشكيلي.. وقد كان السؤال المحوري للدراسة هل الطابع المصري جزء من الطابع العربي الإسلامي أم اليوناني الروماني؟ هل مصر شرق أوسطية؟ أم بحر متوسطية كما قال طه حسين أم هل هي عربية إسلامية؟
كانت تلك الدراسة من خلال تحليل مضمون للفن المصري والعربي والإسلامي في عصور مختلفة والمقارنة بينها.
الاكتشاف الأول الذي وجدته هو أننا بصدد نموذج حضاري وأسس وأصول وحالة متواصلة وثابتة عبر التاريخ في تلك المنطقة منذ الحقبة الفرعونية حتى الدولة العربية الإسلامية، وأن الأخيرة ليست مغايرة حضاريا وإن كانت مختلفة دينيا، وأن الحضارة الفرعونية هي جزء من حضارة العرب، أو أن حضارة العرب هي جزء من الحضارة الفرعونية قلها كما شئت، وأن هذه المنطقة من جزيرة العرب حتى ليبيا هي مهد نمط حضاري معين انتشر في وسط العالم، وكانت أجزاءه التاريخية التركية والفارسية لها نفس النمط الحضاري، وتندهش أن هناك نمطا حضاريا عبر عن نفسه في الفن التشكيلي له ملامح وأسس واحدة منذ عصور الفراعنة.
وخلاصة الدراسة أن الدين هو محور هذه المجمعات والذي يقوم بالوظيفة الأولى وأن هذه المنطقة يجب أن يكون التركيز فيها على دور الدين والحركات الدينية كهوية ومرجعية حتى نعرف ما هي أزمتها وما هو الحل.
وقد تابعت البحث بروح التجرد العلمي بدون أي حسابات أخشى معها الوصول إلى أي نتيجة. كان هدفي هو البحث العلمي لصالح اكتشاف هوية المجتمع، وأعمل من داخل إطار المجتمع لمصلحته. وتوصلت إلى أن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة هذه المنطقة وأن هويتها دينية شرقية وأن القيم الاجتماعية الثقافية الحياتية المسيحية والإسلامية واحدة وأن الخلاف بين المسيحية والإسلام في العقيدة، أما في التطبيق فالاتفاق أكثر بكثير من الافتراق، وأنني كمسيحي عندما أحاول بناء مشروع نهضوي طبقا للقيم المسيحية آو الموروثة من الوعي الجمعي، أجد نفسي ابنا مشروعا ينتمي للحضارة العربية الإسلامية كمنظومة واحدة لكل سكان المنطقة.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.