مع الشروق .. قمّة بكين ... وبداية تشكّل نظام دولي جديد    انطلاقا من غرة جوان: 43 د السعر الأقصى للكلغ الواحد من لحم الضأن    رئيس الحكومة يستقبل المدير العام للمجمع السعودي "أكوا باور"    توقيع مذكرة تفاهم تونسية سعودية لتطوير مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس    شهداء وجرحى في قصف لقوات الاحتلال على مدينة غزة..    بطاقتا إيداع بالسجن ضد أجنبيين تورّطا في تنظيم عمليات دخول أفارقة لتونس بطرق غير نظامية    بداية من اليوم: خدمة جديدة للمنخرطين بال'كنام' والحاصلين على الهوية الرقمية    صفاقس: إيقاف 21 افريقيا وصاحب منزل أثر معركة بالاسلحة البيضاء    جنيف: وزير الصحة يؤكد أهمية تعزيز قدرات الدول الإفريقية في مجال تصنيع اللّقاحات    عاجل/ هذا ما قرّرته 'الفيفا' بشأن المكتب الجامعي الحالي    وزارة الصناعة: توقيع اتفاقية تعاون بين أعضاء شبكة المؤسسات الأوروبية "EEN Tunisie"    مفقودة منذ سنتين: الصيادلة يدعون لتوفير أدوية الإقلاع عن التدخين    كلاسيكو شوط بشوط وهدف قاتل    أول تعليق من نيللي كريم بعد الانفصال عن هشام عاشور    بالفيديو: بطل عالم تونسي ''يحرق'' من اليونان الى إيطاليا    مراسم استقبال رسمية على شرف رئيس الجمهورية وحرمه بمناسبة زيارة الدولة التي يؤديها إلى الصين (فيديو)    عاجل/ فرنسا: إحباط مخطّط لمهاجمة فعاليات كرة قدم خلال الأولمبياد    وزارة المرأة تحذّر مؤسسات الطفولة من استغلال الأطفال في 'الشعوذة الثقافية'    بن عروس: حجز أجهزة اتصالات الكترونيّة تستعمل في الغشّ في الامتحانات    بطاقة إيداع بالسجن ضدّ منذر الونيسي    مجلس نواب الشعب: جلسة استماع حول مقترح قانون الفنان والمهن الفنية    رئيس لجنة الفلاحة يؤكد إمكانية زراعة 100 ألف هكتار في الجنوب التونسي    المنتخب الوطني يشرع اليوم في التحضيرات إستعدادا لتصفيات كأس العالم 2026    النادي الصفاقسي في ضيافة الاتحاد الرياضي المنستيري    الرئيس الصيني يقيم استقبالا خاصا للرئيس قيس سعيّد    قبلي : تنظيم اجتماع تشاوري حول مستجدات القطاع الثقافي وآفاق المرحلة القادمة    وزير التعليم العالي: نحو التقليص من الشعب ذات الآفاق التشغيلية المحدودة    عاجل/ حريق ثاني في حقل قمح بجندوبة    مستشفى الحبيب ثامر: لجنة مكافحة التدخين تنجح في مساعدة 70% من الوافدين عليها على الإقلاع عن التدخين    منظمة الصحة العالمية تمنح وزير التعليم العالي التونسي ميدالية جائزة مكافحة التدخين لسنة 2024    صفاقس: وفاة امرأتين وإصابة 11 راكبا في اصطدام حافلة ليبية بشاحنة    تطاوين: البنك التونسي للتضامن يقرّ جملة من التمويلات الخصوصية لفائدة فلاحي الجهة    بمشاركة اكثر من 300 مؤسسة:تونس وتركيا تنظمان بإسطنبول أول منتدى للتعاون.    رولان غاروس: إسكندر المنصوري يتأهل الى الدور الثاني لمسابقة الزوجي    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    آخر مستجدات قضية عمر العبيدي..    الانتقال الطاقي: مشروع للضخ بقدرة 400 ميغاواط    انتخاب التونسي صالح الهمامي عضوا بلجنة المعايير الصحية لحيوانات اليابسة بالمنظمة العالمية للصحة الحيوانية    رولان غاروس: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 34 عالميا    حادث مروع بين حافلة ليبية وشاحنة في صفاقس..وهذه حصيلة الضحايا..#خبر_عاجل    بعد الظهر: أمطار ستشمل هذه المناطق    جبنيانة: الإطاحة بعصابة تساعد الأجانب على الإقامة غير الشرعية    الرابطة المحترفة الأولى: مرحلة تفادي النزول – الجولة 13: مباراة مصيرية لنجم المتلوي ومستقبل سليمان    الأوروغوياني كافاني يعلن اعتزاله اللعب دوليا    عاجل/بعد سوسة: رجة أرضية ثانية بهذه المنطقة..    إلغاء بقية برنامج زيارة الصحفي وائل الدحدوح إلى تونس    تونس والجزائر توقعان اتفاقية للتهيئة السياحية في ظلّ مشاركة تونسية هامّة في صالون السياحة والأسفار بالجزائر    بنزرت: الرواية الحقيقية لوفاة طبيب على يدي ابنه    الإعلان عن تنظيم الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 23 إلى 30 نوفمبر 2024    منبر الجمعة .. لا يدخل الجنة قاطع صلة الرحم !    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    شقيقة كيم: "بالونات القمامة" هدايا صادقة للكوريين الجنوبيين    محكمة موسكو تصدر قرارا بشأن المتهمين بهجوم "كروكوس" الإرهابي    مدينة الثقافة.. بيت الرواية يحتفي ب "أحبها بلا ذاكرة"    الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفن السيرك وفنون الشارع .. فنانون من 11 بلدا يجوبون 10 ولايات    عندك فكرة ...علاش سمي ''عيد الأضحى'' بهذا الاسم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة التونسية وسلم الحضارة
نشر في الحوار نت يوم 26 - 05 - 2011


مقداد إسعاد
ما موقع 14 جانفي 2011 في السلم التاريخي العربي، الإسلامي والعالمي؟ وهل يحق لنا أن نذكره بهذه الأهمية؟ هل هو من الأهمية والبروز أن نصنفه ضمن المفاصل الكبيرة للتاريخ؟ خاصة وهو لم يزل جديدا لم تمض عليه غير بضعة أشهر. لعل الإجابة على هذه التساؤلات تفرض علينا منهجيا أن نحدد التواريخ التي نعتبرها مفاصل على سلم التطور البشري.
معظم السلالم التاريخية لا يذكر العرب إلا سنة 622 تاريخ تأسيس الدولة العربية الإسلامية الأولى تحت قيادة مؤسسها الكبير خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام. قبل ذلك لا يذكر العرب إلا في سلالم مختصة مثل الأعراق واللغات والهجرات وغيرها. دخل العرب التاريخ سنة 622 ميلادي أي السنة الأولى للهجرة النبوية من مكة إلى المدينة حين جعل منها الرسول الكريم عاصمة لدولته الجديدة ومنها انطلق فاتحا للمعمورة... حكم خلالها عشر سنوات وحد فيها الجزيرة العربية وحدد لخلفائه أهداف المستقبل بأن خرج لغزوة مؤتة في أقصى شمال الجزيرة العربية للقاء الروم في تحد منه وتثبيت لوجهة التوسع المستقبلي. لم يلف الروم لكن الهدف تحدد.
ولم يمض على رحيل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أكثر من عشرية حتى كان أتباعه يدركون عرشي القوتين الكبيرتين. أما فارس فقد فتح المسلمون عاصمتها وفر منها شاهها ليسقط في هاوية ويموت وتؤخذ بناته الثلاثة إلى المدينة فيزوجن لأكبر ثلاث شباب من العرب جاها وقدرا، وأما جيش بيزنطة فقد غادر الشام بلا رجعة. دخل العرب التاريخ بطريقة دوخت المحللين لقصر المدة، ثم استقروا في عل لحوالي قرون سبعة سادوا فيها العالم وقدموا للبشرية مالا يضاهيه إلا التطور الحديث. ألفونس دي لامرتين يقول في الرسول الكريم: "أبدا ما استطاع رجل في أقل وقت أن ينجز ثورة عظيمة ومستدامة... إذا كان كبر الإنجاز وقلة الوسائل وعظمة النتيجة تمثل القياسات الثلاثة لعظمة الإنسان، من يجرؤ عل مقارنة أي إنسان لمهمة في عظمته، لأن أعظم الرجال لم يفعلوا أكثر من تحريك الأسلحة والقوانين، ولم يؤسسوا عندما يؤسسون شيئا إلا قوى مادية كثيرا ما تنهار حتى قبل مماتهم. أما هو (أي محمد) فقد حرك أسلحة وقوانين، إمبراطوريات وشعوب مماليك وشعوب بتعداد الملايين وذلك في ثلث المعمورة. هذا كما حرك إضافة إلى ذلك أفكارا ومعتقدات وعقولا. أسس انتماء روحيا جمع شعوبا بلغات وأعراق متعددة. فيلسوف، خطيب، إمام، قانوني، محارب، فاتح وصاحب فكر، محرر للعقول، صاحب دين دون صورة، مؤسس لعشرين إمبراطورية أرضية وإمبراطورية روحية ".[1]
هذا لكن العرب لم يستطيعوا أن يخرجوا على سنن الكون في الارتفاع والنزول، إذ دب فيهم الهزال وأخذوا في التراجع وبدءوا في موت بطيء دام كذلك قرون سبعة أخرى. وكما حير المحللين أمر صعودهم السريع والخارق للعادة فقد أضنى عقولهم تأخرهم وتراجعهم إلى حد أن السؤال أصبح إشكالية تعددت حولها الآراء ولم تزل دون إجماع[2].
اعتبر بعضهم[3] تاريخ سقوط بغداد معقل الخلافة سنة 1258)10فيفري (ميلادي على يد المغول الضربة القاضية. وأرجع آخر سبب تخلف المسلمين إلى تركهم الكتابة واعتمادهم على المخاطبة الشفهية لكن آخرين أرجعوا تراجعهم إلى عدم مواكبتهم للابتكارات الحديثة حتى أن بعضهم يجعل من ابتكار البارود[4] سنة 1330 سببا أعطى لأوروبا مسافة سبق في القوة المقارنة رغم أن أول استعمال له كان في الصين.
حدد لاندز (1998)[5] ذروة صعود المسلمين في سنة 1187 م لما حرر صلاح الدين الأيوبي القدس، ثم بدءوا قي الاحدار.
ويرد بعضهم تأخر المسلمين إلى تطور السفن الذي مكن الأوروبيين خاصة من ايجاد طرق بحرية كثيرة مكنتهم من اكتشافات هامة وعلى رأسها القارة الأمريكية العالم الجديد سنة 1492م. لم يعد العالم العربي والإسلامي هو الممر الإجباري لطرق التجارة نحو الهند، وفقد طريق الحرير ومحطته الرئيسية سمرقند من أهميتهما.
كما تراجع دور طرق التجارة عبر الصحراء حيث القوافل الكبيرة تحمل الذهب الغاني إلى الشمال. وبررت عوضا عن دمشق والجزائر وغرناطة مدن أوروبية جديدة استأثرت بالنشاط التجاري وابتكرت آليات وقوانين التبادل وأثرت أثراء كبيرا مثل فينيس الإيطالية.
بدأ العالم الإسلامي في التراجع ليصبح تابعا بعد إن كان قائدا، انسحب من حلبة التنافس والتدافع، ترك الكتابة والإبداع والفكر والتدبر، وانتظم في شكل مجموعات روحية وطرق صوفية سيطرت على الأمة، من أبسط رجل من الرعية إلى الخليفة نفسه. ثم تحولت تلك الأشكال التنظيمية والعقائد إلى انسحاب من الحياة أصلا. وتهيأ العالم الإسلامي بقابلية كبيرة للاستعمار[6] الذي تداعى عليه كما تداعى الأكلة على قصعتها وقسمه على هواه وبما يخدم مصالحه.
خرجت أوروبا من حرب الأديان فيها بشكل تنظيمي جديد تمثل في ظهور الدولة الحديثة التي احتكرت السيادة على محيط جغرافي وبشري محدد. مكن هذا التقسيم من تطورات هامة على طريق البناء الاجتماعي والسياسي ما كان أن تكون لو بقي ذلك النظام الديني الهلامي تحت سيطرة الكنيسة.
يؤرخ الكثيرون لبداية عصر النهضة في أوروبا بمطلع القرن السادس عشر الميلادي، أما النهضة في العالم العربي والإسلامي فلا ذكر لها إلا ما يزيد على قرون ثلاثة بعد ذلك. ومن المفارقات أنها مزامنة لبداية الحقبة الاستعمارية، لما وضعت الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون أقدامها على أرض مصر سنة1798. كان ذلك أول احتكاك لأوروبا الحديثة بالعالم العربي المنغمس في سبات عميق، أفاق منه على مدافع الغرب تدق قلبه مصر.
تنافست القوتان الاستعماريتان آنذاك على العالم العربي واتفقتا على تقسيمه وسيطرتا على العالم حتى الحرب العالمية الثانية.
ثم بدأتا تسلمان قيادة العالم إلى القوة العظمى الجديدة الولايات المتحدة المتحدة الأمريكية. وكان لهذا التناوب أيضا تاريخه المفصلي. يعتبر بعضهم سنة 1956 تاريخ الاعتداء الثلاثي على مصر نهاية سيطرة الإمبراطوريات الاستعمارية الفرنسية والإنجليزية لصالح القوة الامبريالية الأمريكية[7]. الامبريالية هي الشكل الحديث للاستعمار وتتميز بالسيطرة على الدول والشعوب لكن عن بعد وبطريقة غير مباشرة. ورغم أن القوى المعتدية على مصر، البلد الفقير المنتمي للجنوب، انتصرت عسكريا انتقاما لتأميم قناة السويس إلا أنها انهزمت سياسيا وفقدت كثيرا من هيبتها أمام العالم الثالث الذي ندد بها وتعاطف مع مصر.
وجدت أمريكا الطريق ممهدا أمامها للسيطرة على المنطقة وهي صاحبة الفضل على أوروبا نفسها "بمخطط مارشال" الذي أعاد بناءها بعد الحرب. استلمت فلسطين واحتضنت دخيلتها إسرائيل وجعلت منها الولاية الثانية والخمسين الأمريكية، بعد أن كانت قد تحكمت في مفاتيح البترول الخليجي.
ولم تبخل الأقدار على الولايات المتحدة الأمريكية بالنجاحات المتتالية. إذ تكونت دولة إسرائيل دون عناء سنة 1948 ولم تمض عشرين سنة حتى كان لهما ما لم تكونان تحلمان به هزيمة 1967. جاءت نتائجها فوق كل التوقعات والأحلام. أنزلت العرب إلى حضيض سحيق، فقدوا فيه كل ثقه بأنفسهم. احتقروا ذواتهم ولعنوا ماضيهم وحقدوا على كل شيء وراحوا في نكات سوداء حول علو شأن إسرائيل وهبوط قيمتهم وقيمة حكامهم. سلموا بأنهم بشر من نوع ثان أقل من الآخرين إنسانية. يحكمون بالنار والحديد لا يبدون رأيا في شؤون حياتهم.
صناديق اقتراعهم مغتصبة تمتلئ إلى العنق بما لا يحق أن ينزل فيها وهم قابلون، لا قداسة عندهم لشيء، القداسة والكرامة موطنها الشق المقابل حيث الإنسان إنسانا، أما هم فأنصاف بشر أو أقل من ذلك، ثرواتهم كثيرة لكن معنوياتهم إلى أسفل، عددهم كبير لكن إرادتهم ميتة، ماضيهم نضئ لكن حاضرهم بئيس، سنتان بعد النكبة انقلب أحد شباب العرب على ملك بلاده فلم يغادر حكمها إلى اليوم أي طيلة قرابة النصف قرن عبث بمقدرات الوطن وسد أمامه منافذ الرقي والتنمية. وحذوه فعل باقي الحكام العرب. لم يحترموا دساتير الأمة وقوانينها، ورثوا الحكم لابنائهم على هواهم حتى أنهم ظنوا ألا شيء يقف أمام نزواتهم، فهم يحكمون جموع مهزومة لا إرادة لها.
وصل الأمر ببعضهم أن تفرض عليه زوجته، التي لم تبلغ من العلم أي مبلغ أن يقبل بتوريثها حكم بلاده، لم تستح أن تسعى لهذه المسؤولية الكبيرة وهي التي لا تعرف من مهنه غير الحلاقة قبل أن تسطو على عقل الجنرال الرئيس فتأخذ مكان زوجته وأم أبنائه... وطفح الكيل، طفح الكيل عند العرب وبدأ من تونس.
"الشعب يريد إسقاط النظام" مطلب ونداء لم يسبق للعالم العربي أن رفعه في التاريخ، بدى السقف عاليا وسخر الجميع منه، القوى الكبرى وأجهزتها الاستخبارية لم تلق للأمر بالا وهي تحتفل بأعياد الميلاد ورأس السنة. أما الأنظمة الحاكمة فقد سخرت من هؤلاء الشبان العابثين إذ كيف يجرأ العربي على التغيير والثورة. وحتى الأحزاب والنخب لم تصدق هي أيضا أن مطلبا بهذا السقف يمكن ان يسمع، فراح معظمهم ينادي بالحوار والإصلاح. وتفرد شباب الفايس بوك باليقين بإمكانية سقوط النظام. لقد كان يتصرف تصرف العارف المتأكد من فعله والمدرك لنتائجه. الفايس بوك ابتكره الأمريكان ليستعمله التونسيون لإسقاط دكتاتورهم.
"بن علي هرب" فاحتار العالم لما حدث.
يعد منتصف التسعينات من القرن الماضي بداية عصر العولمة الحديثة وقد سبقتها عولمات أخرى عديدة كان من سماتها تطور السفن كوسائل اتصال أو توسع إمبراطوري مثل توسع الإدارة الرومانية إلى مدى بعيد أو تطور التبادل التجاري بين بقاع من الأرض ممتدة مثل ما فعلته أوروبا بعد اكتشاف العالم الجديد وقبل ذلك بميلاد طريق الحرير نحو آسيا وطرق التجارة المختلفة.
عصر العولمة الحديث له هو أيضا وسائله وأهمها التكنولوجيات الحديثة للاتصال مثل الفضائيات، الهواتف النقالة والانترنيت، والتي تدافعت منذ بداية التسعينات ووقع تعميمها حتى أتت على معظم الحدود أيا كان نوعها قانونية، جغرافية، ثقافية أو سياسية. وأصبح العالم كأنه قرية، يؤثر تصرف كل فاعل في أي بقعة منها في باقي مناطقها. لقد أصبح الصديق الحميم والرفيق المقرب، ذاك الذي تجتمع إليه، تناقشه وتعرف عنه ويعرف عنك كل شيء، تخرج من المدرسة أو من العمل فتلتق به وتتمتعان بتبادل أسراركما، تعرف لونه وقناعاته وميولا ته، أصبح هذا الصديق المقرب على بعد آلاف الأميال منك لكنه أقرب إليك من جارك في السكن.
أما إقتناء الحاجيات فقد تحرر كذلك من عامل الجغرافيا وكذلك الاستثمارات والإتجاز في البورصات والتملك، كل ذلك تحرر من قيود الزمان والمكان.
عصر العولمة سرع الأحداث وجعل سلم التاريخ يقاس بالسنين وليس بعشراتها كما كان منذ زمن قريب ولا بالقرون كما كان فيما مضى. وقد تشهد سنة 2011 كما من الأحداث بعدد وأهمية ما شهدته العشرية كاملة. وأيا كان فإن ثورة تونس رفعت سقف المطلب لأول مرة عند العرب إلى إسقاط النظام فكان لها ذلك. كان ذلك السقف الأول والذي كان إلى وقت قريب يعد من المستحيلات مطلبا ونتائج أما السقف الثاني فقد تمثل في فرضه كخيار أو حد عطل المؤسسة العسكرية ومنعها حتى من التفكير في أخذ السلطة بالقوة فاختارت السلم على المخاطرة وطردت الدكتاتور وانحازت إلى الشعب: سقفان كان لهما التأثير المباشر على مجريات الأحداث في باقي بلدان العالم العربي، إذ ذهلت مصر مما حققته أختها الصغرى تونس وهي أم الدنيا ولا يمكنها أن تقتنع بأقل من ذانيك السقفين: إسقاط النظام وليس إصلاحه ثم عدم تدخل الجيش لحماية النظام.
ولا شك أنه لو خفض التونسيون مطلبهم إلى إصلاح النظام لكان ليس فقط زين العابدين على رأس البلاد إلى اليوم، ولكنه كذلك لبقي مبارك رئيسا. لقد أسقط التونسيون بوعيهم وبعد نظر قواهم الشبابية المتعلمة العارفة لحقائق الوضع العالمي، اسقطوا ليس فقط دكتاتورهم بل كذلك هبل مصر.
أما المؤسسة العسكرية المصرية فقد حيدها موقف الجيش التونسي الذي رفض إطلاق النار على المتظاهرين. قد يكون الجيش التونسي فعل ذلك خوفا وليس قناعة وعجزا وليس حلما لكنه أفقد بموقفه ذلك الجيش المصري كل إمكانية لاستعمال القوة، فهو جيش مصر أم الدنيا وهو أيضا يرفض أن يفوته جيش صغير بعشر تعداده في أي من المزايدات. لو استعمل الجيش التونسي القوة ضد الشارع وسواء نجح أو فشل في فرض النظام على الشعب لكان للجيش المصري موقفا آخر، لكان أكل الشعب المصري وعاث فيه فساد. بارك الله في الشعب التونسي.
هذا أما مملكة القذافي الواقعة بين تونس ومصر فقد تفاعلت مع حدث ثورة 14 جانفي ومنها بدت بوادر ردة فعل على مستوى كبير من الخطورة. أعلن القذافي رفضه للتغيير في تونس مخطأ شعبها في انتفاضته على صديقة بن علي زوج ليلى الطرابلسية "سجاح" زمانها وحليفة مسيلمة الكذاب متنبئ ليبيا. اجتمعا وخططا للانتقام من الشعب التونسي وثورته وقررا أن يغرقانه في دماء كانت ستسيل بغزارة جراء الاغتيالات والانفجارات. جندوا مرتزقة من هنا وهناك وأغدقوا من أموال الشعبين المسروقة إنتقاما ورغبة في التشبث بالمكاسب والسلطة. ومكروا ومكر الله. كانت من بركات الثورة التونسية أن يذهب الخوف على الشباب الليبي فيثور بعد قرابة النصف قرن من الخنوع.
انتفض الشعب الليبي فعطل جلاده ومنعه من الانتقام من تونس وانشغل بما هو أقرب، وسقط القناع وانكشفت الحقيقة عن عمالة مسيلمة الكذاب لإسرائيل. هذه الأخيرة أدركت أن الدور آت عليها وأن بقاءها بدأ في العد التنازلي وأن موعدا لا شك آت تلقى فيه نهايتها، فهاهي تفقد بشكل مطرد حلفاءها وعملاءها من الرئيس التونسي إلى زوجته إلى أعظم رجالاتها حسني مبارك إلى مهرجها القذافي والبقية آتية.
ونجحت المصالحة بين فتح وحماس بفضل المطلب الكبير للشعب التونسي المتمثل في إسقاط النظام. نعم إن المصالحة الداخلية الفلسطينية هي من مزايا ثورة 14 جانفي وكذلك ثورة الشعب السوري بل وحتى تراجع الطائفية في العراق والإصلاح السياسي في إيران.
الثورة التونسية جاءت للعرب وللمسلمين بما كانوا يفتقدونه: الأمل والثقة في النفس، غيرت الموازين الجيو إستراتيجية لصالح العرب والمسلمين. لم تعد إسرائل مدللة كما كانت قبل 14 جانفي كما فقدت إيران كثيرا وزن ما هو في الحقيقة لها وقد رفعت مصر هامتها معيدة الأمور إلى نصابها. هذا كما عاد حزب الله إلى وزنه الطبيعي إلى فاعل بين فواعل كثيرين، نشيط من نشطاء المقاومة وليس هو كل المقاومة ولا قائدها. ونسأل الله له السلامة من مستنقع سوريا الذي قد يغرق فيه ويساند النظام العميل في حربه على شعبه. فالامتحان عسير، أما البحرين فلا بواكي لها وهي أقل الثورات إستفادة من الثورة التونسية. لقد تأخرت عن أهدافها في إسقاط النظام ولا حتى في تغييره ليس بسبب القمع مثل ما وقع في ليبيا من من وحرب إبادة وعبث قذافي، بل بعجز داخلي مرتبط بماهية الثورة البحرينية ذاتها. لقد انحسرت شعبيا لما رفعت صور الإمام الخميني ليس لأن الشعوب العربية تكره الإمام الخميني بل لأنها أعطت عن نفسها صورة الرجعى الذي ينبش الماضي وليس النير المتطلع إلى آفاق الحرية والانفتاح وقبول الآخر مثل ما فعلت الثورة التونسية. لم يستمع الإخوة الشعة إلى العلاقة الفاضل الشيخ حسين فضل الله لما اقترح أن لا يخوض الجميع في السنوات الأربعين الأولى للعصر الإسلامي ويتأسوا بالإمام علي كرم الله وجهه وعليه السلام فيقبلوا ولو على مضض بمجريات الأمور فلا يكونون أكثر ملكيين أكثر من الملك، و الإمام كرم الله وجهه و عليه السلام إمامنا جميعا من تونس إلى إيران.
الساحة السياسية والإعلامية وكذا الشعبية منقسمة إزاء الثورة في البحرين، فمن قائل بأن البحرينيين لا ذنب لهم في أن أغلبية السكان على المذهب الشيعي وقد لاقوا الأمرين من نظام يحسب على السنة وما هو من السنة النبوية بقريب، ويضيفون أن للشعب البحريني الحق في الحرية وهو كما هو أي ذي أغلبية شيعية. هذا إضافة إلى صغر مساحتها وقلة تعداد سكانها. كل ذلك يخدم ضد انتصار ثورتها ولا شك أن أول عوامل انحصارها يعود إلى السياسة العدائية لإيران إزاء ليس الأنظمة العربية بل المنطقة والعروبة أصلا.
نعم إن تاريخ 14 جانفي 2011 يمكن أن يصنف ضمن هذه المفاصل التاريخية الكبرى ويزيد عنها انه يتجه صعودا.
[1] Le grand poète A. de LAMARTINE, Histoire de la Turquie, 1854

[2] Braudel F. Civilisation Matérielle, Economie et Capitalisme, 15eme-18emme siecle, Armand Collin.
[3] Laurens H. 2000, L'orient arabe, Arabisme et islamisme de 1798 à 1945. Armand Collin, rééd. 2002
[4] White L. Jr, 1978, “The expansion of technology 500-1500, in Medieval Religion and technology University of California Press, Berkeley.
[5] Landes D., 1998, The Wealth of nations, Why some are So Rich, and some so poor, Norton
[6] انظر كتاب "شروط النهضة" تحدث فيه مالك بن نبي عما يسميه "معاملين" فعلا فعلهما في الإنسان المستعمر: "المعامل الاستعماري" و "معامل القابلية للاستعمار".
[7] Amine Maalouf, le dérèglement du Monde, Grasset, 2009, paris


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.