ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واقع التجربة التركية و آفاق التجربة التونسية بقلم د. زبير خلف الله
نشر في الحوار نت يوم 20 - 11 - 2011

واقع التجربة التركية و آفاق التجربة التونسية من الثورة الصامتة في تركيا إلى الثورة الصارخة في تونس
د. زبير خلف الله: رئيس المركز التونسي التركي للدراسات الإستراتيجية والحضارية - استانبول
شكل وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي إلى سدة الحكم في تركيا العلمانية سنة 2002 منعطفا جديدا في التاريخ السياسي الحديث ليس في تركيا فقط بل في كامل المنطقة العربية. ذلك أن حزب العدالة استطاع أن يحقق نجاحات هائلة في تركيا الجمهورية التي عانت كثيرا من فساد الحكومات السابقة، وأوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس وإغراقها في الديون، وارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير مما أحدث حالة من الإحباط لدى الشعب التركي الذي بات يطمح إلى مشروع وطني حقيقي وإلى رؤية سياسية جديدة تنقذهم من هذا الوضع الذي وصلت إليه البلاد. إن النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية وقدرته على الفوز في ثلاث دورات انتخابية على التوالي شكل ثورة صامتة في رأي الكثير من المحللين باعتبار أن حزب العدالة نجح في كسر الحظر المفروض عليه من قبل الأحزاب العلمانية النافذة في الدولة وحتى في قطاع كبير من المجتمع ووسائل الإعلام، كما أن حزب العدالة استطاع بخطابه العلماني رغم خلفيته الإسلامية غير المعلنة أن يقنع قطاعا كبيرا من المجتمع بأن يصوت له ليحكمه في ثلاث مناسبات انتخابية. من زاوية أخرى بدت التجربة التركية الجديدة مغرية وملهمة لدى الكثير من الحركات الإسلامية في العالم العربي وحتى لدى الحركات العلمانية باعتبار أنها تجربة نجحت في إعادة تشكيل رؤية جديدة لعلاقة الدين بالسياسية وعلاقة الدين بالدولة، وإرساء جملة من المفاهيم الجديدة داخل الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ودعوة البعض من دعاته إلى نسخ التجربة التركية وتطبيقها أو الاستفادة منها على الأقل في خطوطها العريضة في عالمنا العربي. إلا أن هذا الأمل لم يكن بالإمكان تحقيقه في عالمنا العربي جراء سياسة الاستبداد والقمع المسلط على الشعوب العربية، ومصادرة حريتها، وعدم إعطاء الفرصة للحركات السياسية للتعبير عن أفكارها وتصوراتها السياسية وإنضاجها بشكل أفضل ، بل إن الكثير من الحركات الإسلامية عانت الويلات من السياسات القمعية للأنظمة الديكتاتورية التي تحولت في النهاية إلى عصابات مافياوية تحكم البلاد، وتنهب خيرات الشعوب مما أحدث لدى الكثير من الشعوب العربية حالة إحباط واسعة وخصوصا لدى النخبة السياسية التي باتت تبحث ولو عن بصيص أمل من أجل التواجد على الساحة السياسية، وحاولت في كثير من الأحيان أن تتبنى خطابا مهادنا مع السلطة، والدخول معها في حوارات علها تجد صيغة للتوافق معها. لكن هذه الأنظمة استمرت في استبدادها وقمعها للشعوب ومصادرة حرية الرأي مما كان سببا في انطلاق أول ثورة شعبية في التاريخ السياسي الحديث في تونس والتي لم يتوقعها أحد بما فيهم النخبة السياسية ودول الغرب وذلك بسبب هيمنة عصابة الرئيس المخلوع على الدولة، وحكمها بسياسة الحديد والنار، وتحالفه مع دول الغرب التي كانت تنظر إلى نظام ابن علي على أنه النظام الوحيد رغم ديكتاتوريته الذي يمكنه أن يحافظ لها على مصالحها الاقتصادية، وأن يحمي أمنها القومي من الإرهاب على الضفة الجنوبية للمتوسط. شكل هروب المخلوع ابن علي يوم 14 جانفي من تونس حدثا عظيما في تاريخ تونس وفي العالم العربي ونجاحا كبيرا للثورة التونسية الشعبية التي انطلقت دون أن يقودها أي تيار سياسي معين، كما شكل في الآن نفسه صدمة كبرى لدى دول الغرب وللأنظمة العربية وخصوصا لدى الشعوب العربية الأخرى التي استفاقت من سباتها ومن حالة الإحباط التي خيمت عليها على مدار عقود طويلة، وأيقنت أنه بالإمكان إسقاط أنظمتها الديكتاتورية مثلما نجح الشعب التونسي في إسقاط نظامه القمعي الهمجي، لتنطلق بذلك هذه الشعوب في ثوراتها من مصر إلى ليبيا ثم إلى اليمن وسوريا، بل إن صدى الثورة التونسية وصل إلى بقية دول العالم مثل دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
قراءة في واقع التجربة السياسية التركية:
لم تولد التجربة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية من فراغ بل هي نتاج لتراكمات و لنضال طويل خاضه على مدار خمسين عاما الشعب التركي والحركة الإسلامية التركية التي انطلقت منذ فوز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس في انتخابات سنة 1950 إلى دخول غمار التجربة السياسية في تركيا العلمانية. وقد تمكنت الحركة الإسلامية التركية بزعامة نجم الدين أربكان من الوصول في السبعينات إلى الفوز في الانتخابات في سنة 1974، وتشكيل حكومة ائتلاف وطني مع اليسار، ثم وصولها للمرة الثانية سنة 1996 و تشكيل حكومة ائتلافية بين الإسلاميين والعلمانيين الوسطيين بقيادة نجم الدين أربكان أيضا. إلا أن هذه الحكومة واجهت تحديات كبرى من الداخل والخارج، فقد أجبرها الجيش بإيعاز من الغرب على الاستقالة وإغلاق حزب الرفاه الإسلامي، ومنع العديد من القيادات الإسلامية من ممارسة العمل السياسي، بل وصل الأمر إلى السجن بأربعة أشهر لرئيس الوزراء التركي الحالي رجب طيب أردوغان الذي شغل منصب رئيس بلدية استانبول سنة 1995 و الذي حقق فيها نجاحات باهرة جعلته يكون محل إعجاب من قبل الشعب التركي . كانت تجربة السجن بالنسبة إلى أردوغان منعطفا حاسما ليعيد فيها داخل أسوار السجن تصوراته للعمل السياسي و صياغة رؤية سياسية نابعة من تحديات الواقع التركي ومتوافقا مع النظام العلماني فيها، وقد استفاد أردوغان أثناء صياغته لمشروعه السياسي الجديد من كتابات الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية والذي ترجمت كتاباته إلى اللغة التركية. كان فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 راجعا إلى طبيعة الخطاب السياسي الجديد الذي توخاه و التركيز على أولويات الشعب التركي واحترام النظام العلماني، بل إن أردوغان صرح عدة مرات أن حزبه علماني وليس إسلاميا، واعتبر أن الإسلام أرقى من أن يتجسد في حزب سياسي يخطئ ويصيب. كما أن أردوغان استطاع أن يقدم نفسه على أنه منقذ للعلمانية ورائد لحركة تصحيحية جديدة داخل الجمهورية التركية العلمانية، وإحداث مصالحة بين العلمانية والإسلام والديمقراطية. هذا التوجه الجديد الذي لم تعهده الساحة السياسية التركية جعل قطاعا كبيرا من الأتراك يمنحون ثقتهم في حزب العدالة والتنمية للمرة الثالثة الذي أثبت جدارته في إدارة البلاد على كافة المستويات بفضل خطابه السياسي المعتدل وبتجربته الناجحة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي و الاجتماعي أو على مستوى السياسة الخارجية التي حولت تركيا إلى لاعب أساسي إقليميا ودوليا مما جعلها محط أنظار الشرق والغرب رغم جملة التحديات والصعوبات المطروحة التي تتعرض لها ولا تزال يواجهها. لقد نجحت التجربة التركية إذن بقيادة أردوغان في إحداث منعطف جديد داخل الساحة السياسية التركية وخارجها. لكن ورغم النجاحات الرائعة التي حققتها التجربة السياسية في تركيا إلا أنها تمر بجملة من التحديات التي قد تؤدي في المستقبل إلى تصدعها إن لم نقل إلى فشلها. أولى هذه التحديات أن التجربة التركية ذات التوجه الإسلامي غير المعلن تعيش حالة انفصام على مستوى الهوية الفكرية التي لم تستطع إلى حد الآن ردم الهوة العميقة الموجودة بين العلمانية والإسلام أي بين هوية الشعب الإسلامية وهوية النظام السياسي القائم في تركيا. أما التحدي الثاني فتتمثل في كون التجربة التركية مرتبطة بشكل أساسي بكاريزما رجب طيب أردوغان وبرصيده في النجاحات التي حققها من قبل عندما كان رئيسا للبلدية، فأردوغان يتمتع بشخصية سياسية ذات خطاب سياسي وطني وله القدرة على التأثير في شرائح واسعة من الشعب التركي التي أعطته صوتها للمرة الثالثة، وهذا العامل في الحقيقة على الرغم من أنه يشكل في الوقت الراهن عامل قوة للتجربة إلا أنه يمثل تهديدا لتراجعها في المستقبل في حالة ذهاب أردوغان. صحيح إن هذا الرجل استطاع أن ينضج التجربة ويحقق لها نجاحات لكنه لم يستطع أن يؤسس لها أدبيات وأن يؤصلها نظريا، فهي تجربة مرتبطة بشخصية أردوغان وفاقدة لمرجعيتها الفكرية التي ذكرنا سابقا أنها تعيش حالة من الانفصام في هويتها الفكرية. إن هذه التجربة هي عبارة عن قراءة لخصائص الواقع التركي والتعامل معه كما هو دون الاستناد إلى رؤية فكرية تحمل طابعا إيديولوجيا بل كانت مرتبطة في جزء منها بشخصية رجب طيب أردوغان الذي قد تتصدع أسس التجربة أو تزول بزواله. أما التحدي الثالث فهو الأسلوب البراغماتي في التعامل مع العديد من القضايا، فعلى الرغم من أن التجربة التركية نجحت في حل العديد من القضايا خصوصا في سياساتها الخارجية وفي علاقتها مع الغرب إلا أنها سقطت في أول امتحان في تعاملها مع الثورات العربية التي لم تقف معها في البداية ، حيث كانت مصلحتها الاقتصادية حاضرة بشكل كبير ووقفت إلى جانب نظام القذافي لتترك الثورة والشعب الليبي وجها لوجه مع قوات الطاغية القذافي رغم أن تركيا عدلت من موقفها بعد ذلك عندما رأت نظام القذافي يؤول إلى السقوط. كذلك نفس الشيء بالنسبة إلى الثورة اليمنية والثورة السورية فقد كان الموقف التركي على الحياد ولم يشكل عامل ضغط على هذه الأنظمة التي تقتل شعوبها وتبيدها. هذه البراغماتية أفقدت تركيا مصداقيتها لدى شريحة واسعة من الشارع العربي. أما التحدي الرابع فهو القضية الكردية التي فشلت فيه التجربة التركية من الوصول إلى حل يرضي أطراف الصراع بل وظلت مستمرة في حلها العسكري الذي فشلت فيه الحكومات السابقة. إن البعد القومي للتجربة التركية جعلها تتعامل مع المسألة الكردية على أنه محاولة للتمرد أو تهديد للقومية التركية، ولم تسع بشكل جدي لإحداث مصالحة وطنية حقيقية بين كل الأطراف من أجل تحقيق تعايش سلمي بين الشعب التركي والكردي داخل الدولة الواحدة. ورغم أن حزب العدالة والتنمية حاول أن يسمح للأكراد بالحديث بلغتهم الأم إلا أن هذا الأمر مازال مرفوضا لدى مجموعة ليست بالقليلة في حزب العدالة والتنمية. لذلك فإن المسألة الكردية ستزداد تعقيدا وتشابكا إذا لم تعمل الحكومة التركية على حلها بواسطة حوار وطني شامل ومصالحة بين الأقليات والوصول إلى هوية شاملة للدولة لا تقصي فيها أي قومية من القوميات الموجودة في تركيا. إن المسألة الكردية هي مسألة يتداخل فيها بعد الهوية والعرق واللغة والوضع الاجتماعي والسياسي والخارجي مما يجعلها تشكل تهديدا خطيرا لمستقبل التجربة التركية.
قراءة في آفاق التجربة السياسية التونسية:
مثلما شكلت الثورة التونسية منعطفا خطيرا في التاريخ السياسي الحديث وصدمة فاجأت شعوب العالم وأنظمتها، فقد كانت نتائج الانتخابات التي أجريت في تونس يوم 23 أكتوبر 2011 ضربة قاسية لكل أعداء الحرية والديمقراطية، وأملا لكل المظلومين والمقهورين وخاصة للحركات السياسية الإسلامية التي ذاقت ويلات الإقصاء والتهميش والسجون من قبل الأنظمة الاستبدادية والقمعية. إن انتصار حركة النهضة في انتخابات تونس كان بمثابة تحولا جديدا في الخارطة السياسية لا في تونس فقط بل كان لها صدى إقليميا وعربيا ودوليا. ذلك أن هذه الحركة رغم غيابها الفعلي عن الساحة السياسية لمدة تتجاوز عن 20 سنة، ورغم السجون والمنافي التي تعرضت لها من قبل نظام المخلوع ابن علي إلا أنها ظلت متماسكة ليس في بنائها التنظيمي فحسب بل أيضا في رؤيتها الفكرية والسياسية ، وسعت إلى إعادة صياغة خطابها السياسي مستفيدة في ذلك على مدار مرحلة الأزمة بينها وبين نظام المخلوع ابن علي من مراجعاتها الفكرية والسياسية وكذلك من التجارب السياسية الناجحة في العالم خصوصا التجربة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية. إن وصول حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي المعلن عكس حزب العدالة والتنمية التركي إلى سدة الحكم بأغلبية كبيرة في المجلس الوطني التأسيسي فتح تونس الخارجة لتوها من ثورة على الديكتاتورية والفساد إلى مرحلة جديدة يأمل الشعب التونسي أن يستعيد فيها كرامته وحريته، ويبني مستقبله الساطع في كنف الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لم يمنح الشعب التونسي ثقته لحركة النهضة لرصيدها النضالي في مقاومة الديكتاتورية والظلم فحسب بل لأن الحركة استطاعت أن تقدم خطابا مقنعا يتصل بهموم الناس ومشاغلهم اليومية، وابتعدت الحركة عن الطوباوية وعن المصطلحات التي لم تقنع الشعب التونسي مثل الحداثة والتقدمية وما إلى ذلك. إن حكومة الائتلاف الوطنية التي سيتم تشكيلها بقيادة حركة النهضة ستواجه العديد من الملفات الثقيلة التي تحتاج إلى معاجلة عاجلة وسريعة حتى تستطيع أن تثبت للشعب وفاءها لوعودها ولشعاراتها التي رفعتها خلال الحملة الانتخابية. وهذا في الحقيقة يجعل الحركة في موقع لا يحسد عليه باعتبار أن فوزها يشكل دفعا قويا وتجربة خصبة لباقي الحركات الإسلامية في المنطقة العربية، وأن فشلها في إدارة البلاد سيكون بمثابة نكسة أو لنقل إحباطا لدى الحركة السياسية الإسلامية في العالم العربي. لم تعد إذن حركة النهضة أملا للشعب التونسي فحسب بل أيضا أملا لباقي الشعوب العربية الثائرة على أنظمتها القمعية، وسندا لجميع الحركات السياسية الإسلامية نحو بناء دولة ديمقراطية عادلة تضمن للشعوب حريتها، وتخرجها من بوتقة الفقر والحرمان إلى دنيا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. في الحقيقة لو قمنا بمقارنة بين وضع حركة النهضة أثناء وصولها إلى الحكم ووضعية حزب العدالة والتنمية التركي لحظة وصوله إلى الحكم لقلنا إن كليهما يتفقان في أشياء ويختلفان في أشياء أخرى. فهما يتفقان في الأزمة السياسية والاقتصادية التي مرت بها تركيا سنة 2002 وكذلك نفس الشيء بالنسبة إلى تونس بعد نجاح الثورة كما أن التجربتين تتفقان في الأسلوب البراغماتي في إدارة الدولة وفي السياسة الخارجية التي تحاول أن تطمئن الغرب للحفاظ على مصالحه سواء داخل تركيا أو تونس وهو ما قام به أردوغان سنة 2002 وحركة النهضة عندما فازت في الانتخابات. إلا أن الاختلاف في التجربتين يكمن في طبيعة التجربة في ذاتها وفي طبيعة الإطار المكاني والزماني اللتين تتمان فيهما ، حيث أن التجربة التركية تميزت بأنها تجربة إسلامية في شكل علماني تفتقد إلى تأصيل فكري لا يؤهلها من الناحية النظرية أن تصبح توجها جديدا في الفكر السياسي الإسلامي، وتفتقد إلى مرجعية فكرية نابعة من عمق هوية الشعب الذي ولدت فيه، كما أنها ولدت في إطار اجتماعي تتميز بنيته بالتعدد الإثني والعرقي والديني، وفي ظرفية زمنية اتسمت بحالة ركود وإحباط شاملين داخل الساحة العربية والإسلامية، الأمر الذي يجعلها تجربة عابرة ونتاجا لظروف واقعية قد تنتهي بانتهاء هذه الظروف، كما أن نجاح حزب العدالة والتنمية للمرة الثالثة على التوالي أفقد الساحة السياسية ديناميكيتها وساهم في تكلسها وتحنيطها جراء هيمنته على مقاليد السلطة لوحده ودون الدخول في تشريك باقي الأطراف السياسية في المسائل الإستراتيجية في البلاد مثل القضية الكردية وغيرها. كما أن هذه الهيمنة لحزب العدالة وضعته أمام مأزق حقيقي تجاه الملفات الكبرى المطروحة في البلاد ، الأمر الذي دفع بالكثير من المعارضين وحتى المحللين السياسيين بأن يصفوا مرحلة هيمنة حزب العدالة على مقاليد السلطة بمرحلة ديكتاتورية الحزب الواحد. لكن بالنسبة إلى الحالة التونسية فإنها تجربة إسلامية معلنة واضحة المعالم، وتتسم بوضوح في مرجعيتها الفكرية، وهي نتاج لتراكمات ومراجعات فكرية عرفتها الحركة الإسلامية على مدار 30 عاما تقريبا. كما أنها تجربة ولدت في مجتمع متناغم ومتجانس دينيا وعرقيا واثنيا، وفي ظرف زمني يشهد ثورات عربية على أنظمة ديكتاتورية وتغيرا جذريا على مستوى المنطقة العربية مما يجعلها تجربة مؤهلة أن تحقق نجاحات كبيرة، وأن تكون نموذجا جديدا في الفكر السياسي الإسلامي قد يستفاد به في باقي الدول العربية والإسلامية. كما أن مبدأ التوافق الذي دعت إليه حركة النهضة لتشكيل الحكومة يعد قفزة نوعية في الممارسة السياسية لتشريك كل الأطراف السياسية وكل قوى المجتمع في صياغة مستقبل تونس التي هي وطن للجميع مما يساهم في نجاح التجربة وفي تسويقها محليا وخارجيا. ونحن هنا لا نقلل من التجربة التركية الرائدة ولكن نريد أن ندرس التجربة في بعدها النظري والعملي. ويمكن القول إن التجربة التركية هي نتاج لتجارب سياسية سابقة شكلها الواقع بكل تعقيداته وملابساته، أما التجربة التونسية فهي نتاج لمراجعات فكرية شاملة صيغت على ضوء ما يتطلبه الواقع. فهي تجربة مزجت بين مقتضيات النص ومقتضيات الظرف التاريخي. وخلاصة قولنا فإن كلا التجربتين تكملان بعضهما البعض. ومهما تباينت التجربتان فإنهما يشكلان مشروعين ورافدين جديدين داخل الفكر السياسي الإسلامي وفي المنطقة العربية والإسلامية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.