لقد انبنت الدورة الحضارية الغربية المحتضرة على فلسفة مادية متوحشة ، ونفعية ضيقة ، وعنصرية مقيتة ، أنتجت إخلالات رهيبة على مستوى التوازنات السياسية والإقتصادية والثقافية الدولية ، شوّهت قيم الحق والعدل والحرية ، وقسّمت العالم إلى فقراء وأغنياء ، وسبّبت استبدادا داخليا وحيفا خارجيا في حق الشعوب العربية والإسلامية المستضعفة وصل إلى حد لم يعد من الممكن قبوله بأي شكل من الأشكال ، فقررت هذه الشعوب أن تحرر نفسها بنفسها، وتعيد الإعتبار للقيم الإنسانية الخالدة ، وتبشّر بدورة حضارية جديدة تقيم التوازنات الدولية على أسس أكثر عدلا وأرفع أخلاقا ، فكانت البداية بالثورة التونسية المتميزة التي سلّمت أمانة اصلاح البلاد والعباد لحركة النهضة التونسية بعد فوزها في أول انتخابات حرة ونزيهة عكست الإرادة الحقيقية للتونسيين كشعب محب للحرية والديمقراطية والوسطية . فهل يؤسس انتصار حركة النهضة التونسية ومن ورائها المد الإسلامي الوسطي المتصاعد في البلدان العربية والإسلامية لدورة حضارية جديدة تقطع مع المادية والعنصرية ، وتفتح أفقا حضاريا جديدا أكثر انسجاما مع قيم الحق والعدل والحرية في العالم ؟ لن يكون ميلاد هذه الدورة الحضارية الجديدة ممكنا إذا لم تحقق أغلب ثورات الربيع العربي أهدافها ، وخاصة أهدافها العاجلة المتمثلة في تسليم أمانة القيادة السياسية لأكفاء وطنيين ، وإفراغ الدولة العميقة من طاقتها المضادة للثورة لكي يسهل بعد ذلك تشكيل عقل نهضوي جديد يحسن التعامل مع المرحلة ويؤسس لمستقبل محلي وإقلمي ودولي أكثر عدلا وحرية . فما هي أهم مواصفات هذا العقل النهضوي الجديد الذي يمكن أن نأمل بعد تحققه في دورة حضارية جديدة ؟ 1 عقل وفاقي ، يقطع مع العقلية الأيديولوجية التي تريد البقاء في دائرة المختلف والخاص على المستوى الفكري ، كما تحبذ الصدام والصراع على المستوى السلوكي . فالعقل الأيديولوجي هو عقل يهدر الوقت ، ويصنع الحواجز ، ويوتر العلاقات ، ويزرع الأحقاد ، ويضيق الآفاق . فعلى عاتق الأحزاب المستأمنة على مصير الثورات العربية تقع أمانة تربية أبنائها على مغادرة هذا العقل الأيديولوجي الضيق والمهلك ، والسير بهم نحو عقل آخر أكثر نجاعة ، وأوسع أفقا ، هو العقل الوفاقي الذي يبحث عن المشترك النافع بين كل ابناء الوطن رغم اختلافهم لاستثماره في مصلحة البلاد والأمة والإنسانية . وأحسب أن تجربة الحكم في تونس بعد 23 اكتوبر 2011 وتجربة الحوار الوطني هي ثمرة من ثمار هذا العقل الوفاقي . 2 عقل أخلاقي ، إذا حدّث صدق ، وإذا وعد أنجز ، وإذا عاهد أوفى . عقل له مصداقية مع الذات ومع الآخر، يبني العلاقات السياسية والإقتصادية والثقافية على اسس قيمية وأخلاقية صلبة . لقد ضاعت مخططات السياسة وكنوز المال ودروب الثقافة في مستنقعات الإنتهازية الإمبريالية والمادية الإلحادية والنفعية المتحللة من كل القيم الأخلاقية . إنه لا يمكن بعث عقل سياسي دولي جديد يستعمل الوسائل النظيفة لتحقيق الغايات النبيلة إلا بوضع حد لروح الفلسفة السياسية الميكيافيلية السائدة منذ قرون والتي تتأسس على مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " وإحياء العقل الأخلاقي الإسلامي الذي هو عقل أمة جاء نبيها ليتمم مكارم الأخلاق ، ويجعل منها مقياسا للتمييز بين الأفراد والجماعات والشعوب " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . وإذا كانت هذه الأمة تملك شيئا نادرا تستطيع أن تفيد به الإنسانية حاضرا ومستقبلا ، وتبني على أساسه الدورة الحضارية القادمة لإنقاذ البشرية من ماديتها المتوحشة ، وانتهازيتها العمياء ، واغترابها المرعب ، فلا يكون هذا الشيء أمر آخر غير مكارم الأخلاق . 3 عقل ديمقراطي ، لا يحصر قيمة الشورى في مجموعة أشخاص من أهل الحل والعقد ، يزيّن بهم سلطان متألّه أو زعيم مستبدّ قبح سياسته للدولة ، كما لا يعتبر الديمقراطية مجرد آلية انتخابية لحسم التنافس بين الأحزاب والجمعيات المدنية والأفراد، وإنما هو عقل يسعى إلى جعل قيمة الشورى أو الديمقراطية ثقافة شعبية تبدأ من الأسرة وتتحرك في اتجاه المساجد والمصانع والمعاهد والكليات ، لتصل في النهاية إلى البرلمانات وقصور الرئاسة . إن الإستبداد الذي يُنكّد حياتنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية ليس سوى نتيجة واقعية للثقافة الشعبية السائدة في بلداننا منذ قرون . فعلى عاتق قادة الثورات العربية وشيوخها تقع مسؤولية تربية أنصارها على ثقافة الحوار ، والإنصات ، ونبذ العنف ، وحسن الإقناع ، لتشكيل عقل ديمقراطي لديهم ، يحترم العقل والكفاءة وإرادة الشعوب . 4 عقل استراتيجي ، يخرج من دائرة رد الفعل المتسرع ، ويتحرر من الجهل بمعطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي ، ويبني منظومة استراتيجية فعّالة تحسن استثمار نتائج العلوم التجريبية والدراسات الإنسانية ، كما يتحرك هذا العقل في إطار مخططات عاجلة وآجلة تنبني على معطيات ومعلومات موضوعية ، ويحسن فن تبادل المنافع والمصالح في إطار الإحترام المتبادل واستقلالية القرار الوطني والحفاظ على الثوابت . ويمكن بعث هذا العقل الإستراتيجي عن طريق انتقاء نُخب شبابيّة متفوّقة تعليميّا ، يقع تعهّدها بالتّكوين في إطار محاضن أكاديمية خاصة أو معاهد وكليات للبحوث الإستراتيجية يقع بعثها في دولنا لتحقيق مثل هذا الغرض . إذا استطاعت الثورات العربية أن تحسم معركتها العاجلة مع الدولة العميقة وأزلام الأنظمة الفاسدة والخروج بعد ذلك بخيارات واضحة تنتصر للوفاق ، والأخلاق ، والديمقراطية ، وبعد النظر ، فإنها تكون بذلك قد وضعت اللبنات الأولى الضرورية لدورة حضارية جديدة تنتظرها الإنسانية المغتربة في وحل المادية ومرض العنصرية .