ليس بجديد الحديث عن ضرورة التحييد الكامل للجهاز التنفيذي خلال المرحلة الانتقالية الثالثة بالنظر إلى أن أهم استحقاقاتها هو بلا منازع تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية، إلا أن الجديد هو تحول ذاك الحديث إلى مقترح قدمته بعض الأحزاب السياسية خلال جلسة الحوار الوطني المنعقدة أول أمس، المقترح يضم دعوة إلى استقالة كل من رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر في صورة عقدهما العزم الترشح إلى الانتخابات الرئاسية القادمة. رغم أن مطلب استقالة المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر من منصبيهما الحالي غير موجود كبند من بنود خارطة الطريق، إلا أنه دخل معترك المناقشات في جلسة أول أمس، هذا المطلب كحال كل المطالب له مساندون ومعارضون، وله حجج تدعمه وأخرى تدحضه، أما المفارقة في خضم مساعي كل طرف إلى ضمان أوفر الحظوظ للفوز في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، هو رفض الرئيس المؤقت قطعيا مغادرة قرطاج، مقابل إعلان بن جعفر عن استعداده لتسليم منصبه على رأس المجلس الوطني التأسيسي إلى نائبته محرزية العبيدي، في صورة ما قرر حزب التكتل من أجل العمل والحريات ترشيحه للانتخابات الرئاسية. تكافؤ الفرض مقترح تعميم التحييد على كل مؤسسات الدولة بما فيها رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس الوطني التأسيسي، تسانده بعض الأحزاب السياسية على غرار الجبهة الشعبية وحزب حركة نداء تونس وحزب المسار وأفاق تونس والتحالف الديمقراطي وفق ما أكده ل»المغرب» أحد ممثلي الأحزاب المشاركة في جلسة يوم أول أمس، ويقوم هذا المقترح على تقديم كل من المرزوقي وبن جعفر استقالتهما من منصبهما الحالي حتى يدخل كل المرشحين للانتخابات القادمة على قدم المساواة، ولتجنب استغلال النفوذ الذي يوفره المنصب في الحملات الانتخابية القادمة. في هذا السياق أكد رافع ابن عاشور عضو الهيئة التسييرية لحزب حركة نداء تونس في تصريح ل»المغرب» أن حزبه يساند مقترح تقديم المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر لاستقالتهما من منصبيهما من منطلق أن المنصب الذي يتقلدانه حاليا سيوفر لهما عديد الامتيازات التي لن تتوفر إلى المرشحين الأخريين، مضيفا أن المساواة في الحظوظ بين مختلف الأطراف يقتضي تنحي المذكورين من موقعها الحالي قبل مدة معقولة حتى يُضْمن مبدأُ التكافؤ في الفرص خلال العملية الانتخابية القادمة. هذا ما أفادنا به زهير حمدي القيادي في الجبهة الشعبية، الذي بيّن أيضا أن هذا الرأي (استقالة المرزوقي وبن جعفر) له مساندة واسعة داخل الحوار الوطني، ووجهات نظر عديدة تدفع باتجاه التحييد الكلي لمؤسسات الدولة بما فيها مؤسسة رئاسة الجمهورية ومؤسسة المجلس الوطني التأسيسي، وهو ما من شأنه أن يخلق مناخا انتخابيا يتسم بالمساواة بين الجميع. وقد يكون في مساندة طيف سياسي واسع لمقترح استقالة ما بقي من الترويكا من منصبيهما الحاليين، من الحجج ما يكفي وزيادة كما يقولون، اذ ان رئيس الجمهورية المؤقت يخوض منذ مدة حملة انتخابية مفضوحة، ويستعين فيها بشكل واضح ولافت وغير معقول في أن واحد، بالأدوات التي توفرها له مؤسسة رئاسة الجمهورية، لنا في ذلك أمثلة عديدة، نسوق على سبيل الذكر وليس الحصر، تعاطيه الإعلامي الذي يفرض فيه بنفسه التوقيت المناسب والمحاور الاقل شراسة والقناة التلفزيونية الاكثر مشاهدة. هذا من جهة، من جهة اخرى وان كانت صلاحيات المنصف المرزوقي محدودة إلا أنها تحدد بشكل من الاشكال سياسة الدولة في عديد من المجالات، أهمها ملف الخارجية، وله في هذا الملف نصيب وافر من كعكعة التعيينات، ما يعني أن بقاء المرزوقي في منصبه كرئيس مؤقت للبلاد التونسية يعد ضربا لاستقلالية الجهاز التنفيذي وتقييدا لحياديته. ورئيسنا المؤقت هو أيضا القائد الأعلى للقوات المسلحة، ذاك المنصب الذي بات واضحا انه المنفذ الذي يبحث المرزوقي من خلاله عن موضع قدم في المؤسسة العسكرية، هذه الاخيرة وإن كانت بمنأى عن التجاذبات السياسية إلا أنها لعبة من اللعب التي يستعملها المرزوقي في حربه ضد خصومه السياسيين، وأخرها حشرها في انقلاب تمكن هو وقيادات حزبه من الحيلولة دون وقوعه. هذا دون أن ننسى المغانم التي سيوفرها الصندوق الاسود للرئيس المؤقت ولحزبه على حد سواء، فمن المعلوم أن للمرزوقي الحرية التامة في التصرف في الموارد المالية الموضوعة على ذمته في الصندوق الأسود، والمعلوم أيضا أنها لا تخضع الى اي رقابة حكومية تقريبا، والخلاصة تعني أن هناك مالا وفيرا قد يخصص جزء قليل أو كثير منه لخوض الانتخابات القادمة، وهذا أمر غير مقبول بالمرة لا أخلاقيا ولا سياسيا. قد ينفي المرزوقي ودائرته كل هذه الحجج، وقد تقدم لنا الرئاسية بدورها حجج تدعم «شرعية» المرزوقي لمواصلة المشوار في منصبه حتى الموعد الانتخابي القادم، لعل أهمها هو شخصي في النهاية ومحوره رفض الرئيس الحقوقي تمكين اي شخصية غير منتخبة من كرسي رئيس الجمهورية، فهو أول رئيس منتخب في تونس بانتخابات حرة ونزيهة، وتاريخه النضالي والحقوقي يجعله لا يقبل تقديم المنصب لزيد أو عمر طالما لم يختره الشعب في انتخابات كالتي جاءت به الى قرطاج. بن جعفر و العصفورين بحجر واحد الأمر مختلف بالنسبة الى مصطفى بن جعفر، فهو ليس فقط مساندا لمقترح استقالة كل من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني التأسيسي في صورة قررا الترشح لانتخابات الرئاسية القادمة، بل كان سباقا في طرح ذاك المقترح، وأبدى كل الاستعداد للقيام به إذا قرر حزب التكتل ترشيحه، مفيدا أنه ليس من الأخلاق في شيء ان يكون المترشح للانتخابات الرئاسية القادمة من غير خط الانطلاق للجميع، في اشارة الى حليفه المرزوقي. قلنا ان بن جعفر يساند وينادي بتثبيت مقترح «الرئاسة تساوي الاستقالة»، إلا ان تلك المساندة لا تعدو أن تكون تكتيكية، فالمجلس التأسيسي أنهى مهامه التأسيسيه بالمصادقة على الدستور، وتسويق ذاك التوافق الكبير ولذاك الدستور «القمقوم» كما يقول بن جعفر، للحساب الشخصي للأمين العام للتكتل تم منذ مدة، ولن يكون بعد تلك الحملة الانتخابية التي رافقت مراسم الاحتفال بالمصادقة على الدستور وبذاك الجو التوافقي الذي ساد قبة باردو، أي مربوح يذكر في سجلّ الحالم بخلافة المرزوقي في قصر الرئاسة. هذا الامر يعني ببساطة، الخروج من رئاسة المجلس الوطني التأسيسي وتامين تسويق صورة السياسي الذي يحترم نفسه بان يستقيل بنفسه من منصبه من منطلق أخلاقي «لا غير» في حين نعلم أن كل ما من الممكن حصده من نقاط سياسية من بوابة بيت الشرعية انتهى وولى بمجرد الانتهاء من المصادقة على الدستور من جهة ويساعد على فرض استقالة المرزوقي من قرطاج ما يعني تقليصا من حظوظ الرئيس المؤقت في الاستحقاق الانتخابي القادم، والنتيجة تعني في النهاية ضرب عصفورين بحجر واحد، جني ثمار التأسيسي بعد نهاية موسم الحصاد الخاص به، وإزاحة المرزوقي من موقع الرئاسة. إلا ان مقترح «الرئاسة يساوي الاستقالة» لن يتحول بسهولة الى مطلب أو بند من بنود خارطة الطريق، فتحديات التي تنتظر الحوار الوطني لا تحتمل إحداثات جديدة، لتبقى المسألة في الاخيرة مرتبطة باستعداد بن جعفر والمرزوقي الدخول في الانتخابات القادمة من نفس الخط الذي سينطلق منه منافسوهم. عشاء «العادة» للرئاسات الثلاثة يوم أول أمس وبن جعفر يتغيب واضب المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت على تنظيم مأدبة عشاء مرة كل أسبوع يحضرها رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الحكومة، وأصبح ذاك العشاء عادة بمثابة ترويكية ترسّخت رويدا رويدا في قصر قرطاج. العقل يقول ان عشاء الرئاسات الثلاث «كالترويكا» ينتهي بمجرد انتهاء الرابط التحالفي، والعقل يقول أيضا أنه لا مجال لعقد اجتماعات لتنسيقية الترويكا في رحاب قصر الرئاسة بعد تحييد الجهاز التنفيذي في جانبه الحكومي، وبان رئاسة الجمهورية وان بقيت بعيدة عن التغيير في الشكل، فإن التغيير في المضمون أكثر من ضروري. لكن لا شيء تغير، دار لقمان على حالها، وتنسيقية الترويكا لا تزال تجتمع في قصر الرئاسة، وآخرها عشاء يوم أول أمس الذي حضره رئيس الحكومة السابق علي العريض وتغيب عنه رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر. هذا الأمر يتطلب مراجعة عاجلة، حتى يفهم من فاته الركب بأن عنوان المرحلة القادمة هو العمل الحزبي في الأحزاب، والعمل الحكومي للكفاءات، وأن الخلط بين المواقع الحزبية ومناصب الدولة سيؤثر على السياق العام الذي توخته البلاد منذ تولى حكومة مهدي جمعة لمهامها.