لجنة التربية والتكوين المهني والبحث العلمي تبحث تنقيح قانون التعليم الخاص    درجات الحرارة ليوم الخميس 16 ماي 2024    نمو مستمر للإسلام في فرنسا    يوميات المقاومة .. تحت نيران المقاومة ..الصهاينة يهربون من حيّ الزيتون    جلسات استماع جديدة ضد الصهاينة في محكمة العدل ...الخناق يضيق على نتنياهو    العدوان في عيون الصحافة العربية والدولية ..أمريكا تواصل تمويل حرب الإبادة ..دفعة أسلحة جديدة بقيمة مليار دولار    عاجل: بطاقة إيداع بالسجن في حق المحامي مهدي زقروبة ونقله إلى المستشفى    متابعة سير النشاط السياحي والإعداد لذروة الموسم الصيفي محور جلسة عمل وزارية    مواصلة تنفيذ برنامج التمكين الاقتصادي    بعد تعرضه لمحاولة اغتيال.. حالة رئيس وزراء سلوفاكيا خطيرة    عقارب: أجواء احتفالية كبرى بمناسبة صعود كوكب عقارب إلى الرابطة المحترفة الثانية.    ايقاف مؤقت لبرنامج Emission impossible على اذاعة إي إف أم    ينتحل صفة ممثّل عن إحدى الجمعيات لجمع التبرّعات المالية..وهكذا تم الاطاحة به..!!    الكشف عن شبكة لترويج المخدرات بتونس الكبرى والقبض على 8 أشخاص..    دعوة الى إفراد قطاع التراث بوزارة    أولا وأخيرا .. «شي كبير»    سليانة: إلقاء القبض على سجين بعد فراره من أمام المحكمة    صفاقس: اشتباكات بين المهاجرين غير النظاميين فيما بينهم    القرض الرقاعي الوطني 2024: تعبئة 1،444 مليار دينار من اكتتاب القسط الثاني    البنك الاوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يتوقّع انتعاش النمو في تونس    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    الديوانة تطلق خدمة التصريح بالدخول الخاص بالإبحار الترفيهي    مندوبية التربية بقفصة تحصد 3 جوائز في الملتقى الوطني للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية    عاجل : هزة أرضية في قفصة    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    بمناسبة عيد الأمهات..البريد التونسي يصدر طابعا جديدا    الإعلان عن تركيبة الإدارة الوطنية للتحكيم    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    الفلاحون المنتجون للطماطم يطالبون بتدخل السلطات    بسبب لقطة غير لائقة من الجمهور في مباراة الترجي والنجم: التلفزة التونسية تفتح تحقيق..    مكثر: وفاة شاب واصابة 5 أشخاص في حادث مرور    مجلس عمداء المحامين يصدر بيان هام..#خبر_عاجل    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و2033    لاعب الأهلي المصري :''هموت نفسي أمام الترجي لتحقيق أول لقب أفريقي ''    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    على هامش الدورة 14 لصالون للفلاحة والصناعات الغذائية صفاقس تختار أفضل خباز    وزير الفلاحة يعرب عن إعجابه بصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزير الرياضة في زيارة تفقديّة للملعب البلدي بالمرناقية    بنزرت: إيداع 7 اشخاص بالسجن في قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    اليوم إياب نصف نهائي بطولة النخبة ..الإفريقي والترجي لتأكيد أسبقية الذهاب وبلوغ النهائي    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يكون العمل السياسي الإسلامي مستقبلا؟
نشر في الحوار نت يوم 01 - 04 - 2014


*محمد الحمّار*

الفهرس

الإسلام السياسي وتحديات المرحلة .I
المقدمة..................................................................................


الانقلاب على النفس...................................................................


بؤرة الفشل.............................................................................
الخاتمة.............................................................................................
. الإسلام السياسي والفلسفات الأجنبية II
المقدمة..................................................................................

الإشكالية................................................................................


تعارف ومعرفة واعتراف.............................................................
الحل يكون علميا لا سياسيا...........................................................
الخاتمة..................................................................................

III. كيف يتحرر الإسلام من زنزانة الحزب الديني؟

المقدمة..................................................................................

من أزمة المضمون إلى أزمة المنهج................................................
نموذج للمنهج التأليفي...............................................................
أسباب الإخفاق في التأليف............................................................
بين الحُلم المضاد والحُلم..............................................................
من صياغة المنهج إلى صياغة المشروع............................................
الخاتمة..................................................................................

الإسلام السياسي وتحديات المرحلة .I
* المقدمة


نخصص الحلقة الأولى من هذا البحث لتقييم التجربة الإسلامية الحزبية بصفة إجمالية مع استخلاص العبرة مما آلت إليه ورصد أهم المبررات لإيجاد صيغة جديدة للعمل السياسي الإسلامي_ أي العمل السياسي للمسلمين.


*الانقلاب على النفس


من هو المسلم الذي يرضى أن يبدأ مشوارا نضاليا بالانضواء إلى "جماعة إسلامية" وينتهي متهما بالانتماء إلى نفس التنظيم بوصفه "جماعة إرهابية"؟ هذا ما حصل لإخوان مصر وكاد يحصل لحزب حركة النهضة بتونس لمّا تأكد المجتمع من عدم جاهزية الحزب ذي الخلفية الدينية لأن يقود البلاد إلى الانتقال السياسي و الرقي الاجتماعي والتقدم الحضاري. بينما نحن ننطلق من افتراض مبدئي مفاده أنّ المسلم الحر هو من يبدأ مناضلا وإذا انتهى _ ناجحا أو فاشلا_ فينتهي وهو مقتنع بما أنجزه وبالإطار الذي عمل ضمنه. قد يقال عنه إنه فاشل لكن لا يمكن أن يقال عنه إنه مهرب للدين ومتاجر به وراكب عليه مثلما قيل عن المنتمين إلى الحركات الإسلامية في تونس وفي مختلف البلدان المعنية بهذه المسألة.
فما مستقبل العمل السياسي الإسلامي في ضوء هذه الحقيقة التاريخية؟ أما السؤال الأول الذي يتبادر للذهن في ضوء هذا السؤال التمهيدي فهو: هل بالإمكان ممارسة سياسة إسلامية خارج إطار التحزب الديني؟
من الوهلة الأولى ولمحاولة الإجابة، لا أشك في أنّ المسلم الحر هو ذاك الذي لا يقبل بمثل ذلك الانقلاب على النفس الذي حصل لرمزية المسلم عبر الإخلال بمهمة حفظ وجه المسلم من طرف الإسلام السياسي. وهو انقلاب على النفس لأنه يجسد التعارض التام بين مدخلات ومخرجات النضال لرفع راية الدين الحنيف عبر رفع راية المسلمين دينا وعقلا وعملا.
لقد بدأ هذا النضال دعويا توعويا (في السبعينات من القرن الماضي في تونس) وما راع المجتمعات المعنية (مصر، السودان، تونس، الأردن وما إلى ذلك) إلا أن تحوّل هذا النضال إلى عمل سياسي باسم الدين، حتى انتهى محكوم عليه بالحجر وبالتحجير وبأساليب إقصائية مختلفة.
*بؤرة الفشل
إنّ الاستنتاج الذي نخلص إليه بخصوص السؤال الأول هو أنّ الحركات الإسلامية كانت غير قادرة على التأثير الإيجابي على الحياة العامة وعلى الشأن العام في مجتمعاتها. ومردُّ ذلك أنها حبست الإسلام في حزبٍ سياسي بينما كان عليها أن تعمل خارج ذلك الإطار حتى يبقى الإسلام متحررا وبالتالي يكون عطاؤه أغزر وحتى تتكوّن لدى الأفراد والمجتمع ثقافةٌ سياسية وليدةُ زمانها وتتشكل البدائل الواقعية والناجعة. بينما يلاحَظ أنّ في تبجيل الإسلام السياسي لفكرة التحزب باسم الدين على العمل الإسلامي الإصلاحي المدني_ العلمي والتربوي والتواصلي والاجتماعي _ وبعد وصوله إلى السلطة وممارسته لها، تبيّن أنّ الإسلاميين قد توخوا طرائق وآليات أكل عليها الدهر وشرب وبالتالي لم يُلبِّ مرورهم بالسلطة متطلبات المجتمع. لقد أخطئوا المرمى لأنهم أخطئوا الوسيلة وربما أخطئوا العصر أيضا.
بهذا المعنى، سيكون المسلمون في حِلّ من إرغامات التحزب المُركّز على الدين. وهذا مما سيوفر لدى الفكر الإسلامي الجديد آليات العمل البديلة التي ستخول للإسلاميين الجدد القدرة على تشخيص حاجيات الفرد والمجتمع ومن ثمة القدرة على إنجاز الإصلاح. وهذه الآليات، التي تخص مهمة تشخيص الواقع ومشكلاته و مهمة الإصلاح، لن تكون ناجعة إلا في صورة اتسامها بأكثر علمية وبأكثر وضوح من تلك التي كانت متوفرة لدى الحركات الإسلامية عند ظهورها قبل ما يناهز نصف القرن.
حين يكون العمل الإسلامي قد انتقل من إطار الحزب الإسلامي الشكلي، أي المُركّز على العقيدة وعلى الهوية دون ارتكازه على دعائم علمية و موضوعية محسوبة على الآثار الطيبة للإيمان، إلى الإطار المدني الإصلاحي النافذ. نتيجةً لذلك، سيحقق المجتمع السياسي حدّا أدنى من التوحد الفكري لأنّ الفكر الإسلامي صار قادرا _ بموجب حيازته على الكفاءة العملية والتأصيلية _ على التجذير التدريجي للاشتراكية وللشيوعية و لليبرالية ولسائر المكونات النظرية والفلسفية الكونية في داخل النسيج الفكري والعقل المجتمعي. وعندئذ سيكون الفكر الإسلامي الإصلاحي بمثابة القاطرة التي تقود المجتمع السياسي على درب تحقيق الأهداف التي تتطلبها تحديات المستقبل بشأن الرقي والتقدم.
إنّ الظرف الذي تمر به تونس (مغادرة الإسلام السياسي السلطة) ملائم جدا لتجديد العمل والفكر الإسلاميين. فالإسلام يسجل في هذه المرحلة تحررا من التحزب العقدي المغلف بالمدنية وبالتالي فالفرصة سانحة للتأسيس لعملٍ سياسي منظم يكون من الصنف التشاركي يلعب فيه العامل الإسلامي _ تبعا لقدرته على استيعاب كل ما يصلح من المكونات الإيديولوجية والفكرية الكونية _ دور الوسيط والمعدل للفكر السياسي العام.
على هذا النحو لا خوف على المجتمع من الاستبداد ولا خوف على الحياة السياسية من الاستحواذ عليها من قِبل طيف دون آخر طالما أنّ الأطياف /الأحزاب كافة ستكون مرتكزة مستقبلا على قاعدة مشتركة متكونة من كُنه المادة الفكرية الكونية التي استوعبها وأعاد تدويرها وتوزيعها الفكر الإسلامي.
*الخاتمة
بالنهاية يتضح أنه من الممكن جدا ممارسة السياسة خارج إطار التحزب الديني وأنّ عندما يتحقق ذلك ستكون كل الأطياف/الأحزاب مشتملة على قسط أو منسوب من الخليط _ الفكري والفلسفي والإيديولوجي_ الذي تمّ إعداده بفضل اضطلاع الفكرة الإسلامية بدورها الطبيعي، دور المستوعب للاختلاف بين الثقافات وبين المعتقدات (حتى داخل المجتمع العربي الإسلامي الواحد)، ومن ثمة اضطلاعها بدور الموحّد، وأخيرا بدور المُوجه للعقل المجتمعي نحو الرؤية الواضحة لمتطلبات النموّ الطبيعي للمسلم وللمجتمع ذي الأغلبية السكانية المسلمة.
.II الإسلام السياسي والفلسفات الأجنبية
* المقدمة

خلصنا في الحلقة الأولى إلى أنّ التجربة الإسلامية الحزبية لم تفِ بوعودها، وأنّ تحديات المرحلة تتطلب أن تنتقل الفكرة الإسلامية من قفص الحزب المركّز على الدين لتذوب في رحاب المجتمع السياسي بتمامه وكماله، وأنّ هذا المنهج الاندماجي سيجسد المعاني الأصلية للإسلام على غرار استيعاب الاختلافات الفكرية والإيديولوجية والمذهبية من أجل تحقيق حدّ أدنى من الوحدة المجتمعية وتسهيل عملية التغيير السياسي والتقدم الاجتماعي. أما موضوع الحلقة الثانية فهو محاولة كشف النقاب عن موقف الإسلام السياسي من الفلسفات الأوروأمريكية .


* الإشكالية


في هذه الفترة من تاريخ تونس، المرتبكة بسبب تنامي الإرهاب، بودي أن أسهم في الجهود الرامية إلى الاهتداء إلى بعض حلٍّ وذلك عبر وضع النقاط على الحروف بشأن المسألة الدينية، سيما أنّ هنالك شبه إجماع مجتمعي على أنّ التشدد الديني يقع في صدارة ترتيب مصادر الإرهاب.
كما أنّ رغبتي في التوضيح تتزامن مع انحسار ما أُفَضّل تسميته "التحزب الديني" ثم أسأل: أليس الأجدر بالإسلاميين _ المتحزبين دينيا_ أن يفكروا في المشاركة في الحياة السياسية عبر بوابات أخرى مع حرصهم _ المشروع_ على الاضطلاع بالمهام النبيلة التي ينص عليها الدين الحنيف؟
في هذا المضمار ألاحظ أنّ الإسلاميين كانوا _ وما زالوا _ متشبثين بتصور خاطئ للعمل السياسي الإسلامي. ويتبين ذلك إجمالا من خلال حبس الإسلام بين جدران الزنزانة الحزبية من جهة أولى وعدم مواكبتهم للفكر الإسلامي المعاصر من جهة ثانية.
هكذا كان التحزب الديني مبشرا بحلٍّ سحري لمشكلة علمية. و يتجسد ذلك في مقولة "الإسلام هو الحل". فكانت النتيجة أن عانى المجتمع التونسي _ والعربي الإسلامي عموما_ من حزمة من المضاعفات المرَضية المتأتية من العلة الأصلية عوضا عن استئصال الداء. ومن بين هذه المضاعفات التي مازالت تضرب في عمق النسيج الثقافي للمجتمع نذكر الاحتباس التواصلي و الاحتقان السياسي والفرز الإيديولوجي والاغتيال السياسي بل واغتيال العقل والتكفير، والآن الإرهاب.
ومن مخلفات خطأ حبس الإسلام في زنزانة الحزب السياسي أن المتحزبين دينيا يمارسون العمل السياسي وكأنّ علاقة الإسلام بالفلسفات الوضعية وبالإيديولوجيات المادية والعلمانية المختلفة السائدة في العالم إنما هي علاقة إقصائية وعدائية. وكأنهم يرفضون أن ينفتح المسلمون على الفكر الوضعي لكي يطوروا حياتهم نحو الأفضل وبالتالي تراهم يعملون على شطب البراديغمات التي يستبطنها ذلك الفكر من قاموس المعرفة في حياة المسلمين ظانين أنّ الإسلام ليس له من مهام سوى الانتصاب كبديل عن تلكم الحاضنات الفكرية والمعرفية. فما هو لبّ الإشكالية وكيف الخروج من المأزق؟
*تعارف ومعرفة واعتراف
إنّ المشكلة ليست في شطب الفلسفات والإيديولوجيات المذكورة ولا في تقدير أنّ الإسلام ينبغي أن يكون في وضع صراع مع مختلف المدارس الفكرية الغربية. لكن تكمن المشكلة برأيي في معرفة ما إذا كان الأس العلمي الذي ينبني عليه قرار الشطب متوفرا أم لا. أقصد هل أنّ الإسلاميين قد ألموا بالفلسفات والنظريات غير الإسلامية واكتسبوا القدرة على توصيف الشر فيها، وقرروا أنها مليئة شرا وليس فيها ما يصلح، ومن ثَمّ حكموا عليها بالزوال؟
لا شيء من ذلك القبيل قد حصل، ولا أدلّ على ذلك من تغاضي التحزب الديني عن مصادر الفكر الإسلامي المعاصر على غرار أعمال مالك بن نبي والطاهر بن عاشور والفاضل بن عاشور وعلال الفاسي وعلي شريعتي وعبد الكريم سروش واحميدة النيفر وعبد الوهاب المسيري وجمال البنا وغيرهم، التي تشتمل على آثار مفيدة لتفاعل الإسلام مع النظريات غير الإسلامية والتي تشترك في خط واصلٍ يعتمد المنهج التاريخي والميداني والتجريبي في قراءتها للواقع عبر مجهر الإسلام.
يُفهم من هذا أنّ نفور الإسلاميين المتحزبين دينيا من المدارس الفكرية والسياسية الغربية كان غير متسق مع محاولات الفكر الإسلامي المعاصر لتجسير الهوة الفاصلة بين الإسلام و تلكم المدارس الأجنبية. وهذا مما يدل على أنّ النفور لم يتمّ على قاعدة منطقية، بل يبدو أنه كان رفضا مذهبيا مؤسَّسا على مسلمات خاطئة لعلّ أبرزها خلط الإسلام (الديانة) بوصفه نظاما أسمى من أن يُقارَن بمنظومة فكرية، والفكر الإسلامي بوصفه مصدرا للأفكار ومجالا للتدارس و للتجريب وللقبول وللرفض.
إنّ معرفة الشيء أصلٌ لتوليد الرغبة في تقصّيه وتقييمه. لكن معرفة المدارس الفكرية الغربية ليست متوفرة لدى الإسلاميين، كما قدمنا. وبالتالي فإن أيّ تقصٍّ أو فحص أو تقييم أو تقدير يقومون به إزاءها يكون مشوبا بالنقصان، ناهيك أن يرتاح المرء لحكمهم النهائي على فلسفة كذا أو النظرية الاقتصادية كذا أو التوجه الاجتماعي كذا. لنرَ إلى أيّ مدى تصح هذه الفرضية وإلى أيّ حدّ يمكن تسوية الوضع المنهجي المعوَجّ.
لو بحثنا أولا وبالذات عن الدائرة التي كان فيها الإسلاميون على حق لوجدناها بسهولة مما لا شك فيه. وحسب اعتقادي هنالك أمر واحد يعطي هؤلاء الحق في بروز الحركات الإسلامية بجميع أطيافها على الساحة السياسية. ويتمثل هذا الأمر في علة ذات وجهين اثنين، أولهما عدم تقديم المدرسة الحديثة _ في تونس وفي سائر البلاد العربية الإسلامية_ للفلسفات والتيارات الفكرية غير الإسلامية بشكل يسمح بالإلمام بها وباستيعابها، وعلى نحو يسهل تأقلم الناشئة مع العصر بواسطتها.
فماذا يعرف طالب متخرج من الثانوية عن الوجودية وعن الاشتراكية وعن الشيوعية وعن الليبرالية وعن الكونية وعن العولمة، من بين تيارات ومدارس أخرى، عدا أضغاث أفكار تتسم بالتجريد تارة وبالغموض طورا؟ لا شيء يذكر. وهذا كاف لندرك أنّ المدرسة لم تُعلم الناشئة كنهَ التنصيص القرآني الذي جاء في الآية الكريمة" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13). إذن كيف نعجب لتخرج أفواج من الطلبة غير دارين بطرائق التفكير لدى الشعوب الأخرى وبثقافاتها، وبمعتقداتها وبسياساتها الاجتماعية؟ وكيف نعجب لبروز إرهابيين من بين تلكم الجحافل الهالكة تربويا؟
* الحل يكون علميا لا سياسيا
أما الوجه الثاني للعلة التي كان من حق الإسلاميين أن يدّعوا ثبوتها _ لكنهم يجهلونها_ فيتمثل في كيفية معالجة قضية انعدام التعارف والمعرفة، ناهيك الاعتراف بفكر الآخر كوسيلة للتطوير الذاتي. إنّ الأفكار المنبثقة عن مدارس غربية علمانية _ وحتى متدينة _ لا تعاني فقط من ضحالة الإلمام بها من طرف الناشئة المسلمين وإنما أيضا، وبالخصوص، من عدم مناظرتها مع مواقف وأفكار وآراء تصدر عن المسلمين وتتضمن معاني من الإسلام وقيم يحض عليها الإسلام. بالمحصلة بقيت الأفكار والمنظومات العلمانية في عزلة عن عالم الأفكار الداخلي للمجتمع العربي الإسلامي طالما أنها لم تقاس على سُلّم فكر المسلمين والقيم الإسلامية السمحاء التي ورثها هذا الفكر.
فانعدام التداخل بين الأساسات الفكرية للمسلمين مع تلكم النظريات والتوجهات المعرفية الدنيوية كان دوما عقبة أمام تصفية وغربلة (وهما عمليتان ضروريتان) هذه الأخيرة من أجل فرز السمين من الغث واستخراج العناصر الصالحة والقيم البناءة التي أنتجتها مدارسها. من الضروري أن ينجز هذا العمل من أجل تزويد عامة المسلمين بالمكونات المفيدة ابتغاء إحداث التوازن العقلي والعاطفي لديهم لكي يصالحوا أنفسهم في ذات الحين مع الإسلام ومع العصر بثقافاته المختلفة. مع العلم أنّ عندما جاء الإسلام لم يقضِ تماما على الحضارات السابقة - والتي تميزت بغلبة الطابع العقدي على الطابع المعرفي والعلمي فيها- مثل الزرادشتية والمانوية وغيرها، والتي بدورها كانت قد طوعت الحضارة الهلنستية التي سبقتها لحاجيات أتباعها.
إنّ الخطورة الكامنة في موقف التحزب الديني هو أنه لم يع أنّ بقدر ما هو محق في التذمر من مخلفات العلة ذات الوجهين والمتعلقة بغياب القدرة على التأصيل الفكري إزاء مختلف الفلسفات العالمية، ما هو مستخفّ بضرورة تشخيص العلة لكي يجابهها بكل رويّة. وهذا مما جعل الخلل المتسبب في غياب التأصيل الثقافي قد انجر عنه أيضا تضخم في المشكلة وتعقيد لها حيث إنّ الإسلام السياسي خيّر بعث فكرة "الإسلام هو الحل" دون مرور السياسة الإسلامية بمراحل تكوين ومخاض عبر هيئات علمية مختصة قبل تشكلها في الفكر السياسي المجتمعي. فالتأصيل مشكلة تقع طائلة العلم لا تحت طائلة السياسة كما ذهب إليه الإسلام السياسي.
*الخاتمة
بالنهاية يمكن القول إنه عوضا عن مقارنة الأنظمة العلمانية بالإسلام، حريّ بالإسلاميين استخراج الأفكار التي تحتوي عليها هذه الأخيرة وعزلها عن خطها الإيديولوجي والمذهبي، ثم مناظرتها مع ما يخالج فكر المسلمين من آراء وأفكار وأحكام وما يشتمل عليه هذا الفكر الذاتي من بنى ومنظومات ذات متطلبات وحاجيات خصوصية بالإضافة إلى طموحاته الكونية. فإذا كان فكر الإسلاميين تعوزه ملَكة المعرفة فكيف ينشد هؤلاء تطوير حياة المسلمين من دون إعداد هذا الصنف من العُدة لذلك، وكيف سيفلحون في بناء سياسات الارتقاء والتقدم لمجتمعاتهم من دون التعلم من تجارب الآخرين، سيما وأنّ العديد من مفكري الإسلام المعاصرين قد وضعوا علامات وضاءة على الطريق المؤدية إلى الاستفادة من الآخر وإفادتة؟

III. كيف يتحرر الإسلام من زنزانة الحزب الديني؟

* المقدمة

حاولنا في الحلقة الثانية كشف النقاب عن موقف الإسلام السياسي من الفلسفات الأوروأمريكية. وقد قادنا البحث إلى أنّ للإسلاميين تصور خاطئ للعمل السياسي الإسلامي انجرّ عنه حبس الإسلام في زنزانة الحزب السياسي. فأسفر عن هذا التحزب الديني انزواء فكري للإسلاميين تجسد في نكرانهم للفكر الكوني ولنظرياته ولفلسفاته وفي عدم قدرتهم على استخدام هذا الفكر العالمي كوسيلة لتطوير الفكر الإسلامي.
أما موضوع الحلقة الثالثة والأخيرة فيخص كيفية التوظيف الناجع للإسلام لكي يتحرر من زنزانة الحزب الديني ويستعيد حركته الطبيعية فيكون محركا صالحا لدخول المجتمع العربي الإسلامي العصر من الباب الكبير.


* من أزمة المضمون إلى أزمة المنهج
يا ترى أيّ السؤالين التاليين يصح أكثر من الآخر بشأن صياغة مقاربة بديلة عن الفكر الإسلامي المتحزب دينيا:"ماذا يتوجب على التحزب الديني أن يفعله للاهتداء إلى منهج قويم؟" أم "ماذا ينبغي أن يفعله المجتمع (المدني) لكي ينجز ما فشل الإسلام الحزبي في إنجازه؟" للإجابة أعتقد أنّ السؤال الثاني هو الأنسب. ذلك أنّ التنوع الذي يكفله تشريك مجتمع بأكمله في صياغة الفكر الجديد إنما هو الشرط الضروري لجواز ممارسة الإسلام في السياسة. مع هذا فلا يجوز في اعتقادي أن تتم المزاوجة المجتمعية إسلام/سياسة بمنأى عن المعالجة العلمية للإشكالية لأنّ العلم هو الذي سيوفر البنية الأساسية التي سترتسم انطلاقا منها ملامح الفكر الجديد من أفكار و آداب وسلوكيات تكون بحوزة عامة الناس، وذلك على إثر انقضاء فترة المخاض. فكيف يتمّ ذلك؟
ما من شك في أنّ بحوزة المجتمع مداخل نظرية وعلمية عديدة ومتنوعة ومتكاملة، كافية لتأسيس مقاربة فكرية و سياسية تستبطن المصالحة بين السياسة و الدين وتهدف إلى التقدم العلمي و الرقي الاجتماعي والنهوض الحضاري. والمداخل متوفرة في كتب الأكاديميين وعلى أعمدة المجلات وعلى مكاتب الجامعيين. إلا أنّه من المضحكات المبكيات أنّ تأبيد حالة التصحر البيداغوجي بوصفه عقبة أمام تشكيل مثل هذه المقاربة التنفيذية للمشروع العلمي والاجتماعي والحضاري قد تسبب في طمس الحقيقة المتمثلة في وجود صلة وثيقة بين الدين والسياسة. فبمقتضى هذا الفقر المنهجي أصبح المجتمع مقسما إلى إسلاميين وعلمانيين وصار هؤلاء يتشدقون بشعار "الدين مسألة شخصية" ليتهموهم خصومهم الإسلاميون بأنهم أعداء الدين، والإسلاميون ينافقون أنفسهم برفع شعار "الدولة المدنية" قبل أن يتهمهم منافسوهم بازدواجية الخطاب. وذلك عوضا عن تفرغ الجميع للبدء في تنفيذ مشروع الرقي والتقدم.
إنّ هذا يعني أنّ المقاربة التنفيذية قد تعطلت وأنها رهنٌ بتأسيس المقاربة المنهجية لا بديلا عنها مثلما نسجله من خلال مختلف أوجه الحراك الفكري والسياسي ومن خلال العقم الذي يسم هذا الحراك.
نموذج للمنهج التأليفي*
في حقيقة الأمر وبخصوص هذا العوز المنهجي، أعتقد أنّ بإمكان الفكر الإسلامي أن ينجز انبعاثا داخليا و ذلك بحيازة الخيط الرفيع الذي يربط بين مناهج "الوصل والفصل" (م.ع. الجابري) و "القبض والبسط" (عبد الكريم سروش) و"حياة التفكير" (الطاهر الحداد) و "المقاصد" (الطاهر بن عاشور وغيره) و "العلوم الحكمية" (الفاضل بن عاشور) و تحرير "الرسالة" الإسلامية (مالك بن نبي) و التوفيق بين "مشروعية الماضي ومشروعية الحاضر" (حسن حنفي) و التمييز بين "الدين والتديّن" (احميدة النيفر وغيره) و "الثابت والمتحول" (أدونيس ومرتضى المطهري وغيرهما) و "توليد الواقع" (عبد الوهاب المسيري).
وبصرف النظر عن الحاجة الرابطة بين نظريات هؤلاء المجددين في الفكر الديني الإنساني، ألا وهي الحاجة لقراءة تاريخية وتجريبية وعقلانية للإسلام (وهي حاجة تلاشت إلى حين، وذلك بمفعول الانحراف المنهجي، وأجلت العناية بمضامين التقدم)، من الواضح أنّ الذي يعوق تلك المصادر النظرية لخِيرة مفكري الإسلام المعاصرين ويحُول دونها والتجمع في شكل طريقة مندمجة للتفكير الجماعي ومتأصلة في النسيج الفكري للمجتمع هو غياب التصور التأليفي المنبثق عن نخب مفكرة أخرى مختصة _ في غير اختصاص هؤلاء المنظرين_ من تزويد المسلمين بمثل هذه الطريقة المركزة المنشودة.
* أسباب الإخفاق في التأليف
إنّ عوامل عديدة حالت دون تحقيق التأليف بين مكونات الفكر الإسلامي المعاصر وهي التي يمكن حصرها في العوامل الثلاثة الآتية: أولا، لأنّ الذي عني بمسألة صياغة البديل الحضاري عن الفكر الغربي لم يكن المجتمع بمختلف نخبه وإنما انحصر الأمر في الإسلام السياسي المتحزب دينيا. ثانيا، لأن التعرف الدقيق على مكونات التيارات الفكرية ذات المنشأ غير الإسلامي ومعرفتها والاعتراف بها لم يتحقق. ثالثا، لأنّ الإسلام السياسي المتحزب دينيا حكم على نفسه بالفشل، لا فقط لمّا أنكر صلاحية هذه المعرفة، لكن أيضا وبالخصوص لمّا قدّم نفسه من جهة على أنه هو الممثل الوحيد للفكر الإسلامي، ومن جهة ثانية على أنه هو البديل الحضاري عن الفكر الغربي.
بالمحصلة، كان الإسلام السياسي المتحزب دينيا هو العائق الأكبر أمام تلبية شروط التأليف الفكري لمشروع حضاري جديد. كيف لا تحصل هذه النكبة حين نعلم أنّ الإسلام السياسي المتحزب دينيا قدم نفسه على أنه حلٌّ لمشكلة بينما هو مؤشرٌ على وجود هذه المشكلة؟ أما المشكلة فهي الأزمة العلمية _ المنهجية والابستمولوجية تحديدا_ والتي قد يكون المتسبب الرئيس في تناميها واستشرائها صدمة الحداثة في المجتمع المسلم وما أسفرت عنه من تفرقة خاطئة بين الإسلام والعلم، والذي لا يكفي هذا الحيّز للتوسع بشأنها.
* بين الحُلم المضاد و الحُلم
على أية حال، لكي يتم تجاوز الأزمة المنهجية أعتقد أنه ينبغي توسيع الفكر الإسلامي. ولا يمكن الحديث عن مضامين مشروع مجتمعي تقدمي قبل هذا التوسيع. ويحصل التوسيع بانفتاح المجتمع بأسره على الفكر الكوني من جهة وعلى الفكر الإسلامي المعاصر الذي بات مهمشا بسبب اكتساح الإسلام السياسي المتحزب دينيا للساحة الفكرية والسياسية والإعلامية كلما كان الموضوع متعلقا بمسألة "كيف نتقدم". حينئذ يكون الحلم ببديل حضاري "إسلامي" (بالمعنى التاريخي) عن المشروع الغربي السائد أمرا مشروعا للمجتمع العربي الإسلامي كافة، لا حكرا على طرف دون آخر أو خلطا بين حلم نائم وحلم يقظ أو استبدالا لحلم نائم مكان حلم يقظ، كما سنرى.
إنّ التحزب الديني بمثابة تمثُّلٍ لحلمٍ نائم أكثر منه تمثُّلٌ لحلمٍ يقظٍ من شأنه أن يكون مبعثا على الحركة الهادفة والناجعة. وربما ينطبق عليه ما قاله سيغموند فرويد عن الحلم النائم، مما يستميلني لتعريف التحزب الديني بأنه "تحقيق مقنّع لرغبة مكبوتة". بهذا المعنى يتضح أنّ تشبثَ الحزب الديني بالحلم النائم قد حمَل هذا الحزب على أخْذ شروط الحلم النائم على أنها نفس شروط الحلم اليقظ الحمالة لبذور التجسيد في الواقع. فكانت النتيجة أن تحوّل الحلم النائم، على عكس كل السنن والنواميس، إلى واقع ملموس ولكنه بطبيعة الحال واقع هجين: كوارث واقعية (سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية وأمنية وغيرها) تجسدت في مشهد فوضوي شبيه برؤيا الحلم المزعج أكثر منه بمشهد لكارثة معروفة ولو كانت هذه الكارثة اسمها الزلزال أو الحرب.
في ضوء هذا إنّ المطلوب إنجازه اليوم كتهيئة لحسن استخدام نظريات المفكرين الإسلاميين المعاصرين حتى لا يذهب كلامهم سدى هو الوعي بأنّ الرغبة في توظيف الدين الحنيف في السياسة بما يكفل التقدم العلمي والرقي الاجتماعي والنهوض الحضاري إنما هي حلمٌ لكن يشترط أن تكون حلما يقظا لا حلما نائما. حينئذ ستتضح الرؤية بشأن مكونات هذا الحلم ومنه سترتسم أدوات تحقيق الرغبة، لا سيما أنّ العلم الحديث قد أثبت أنّ ل"الصورة المستقبلية" السبق على "الفكرة المشَكِّلة للحاضر" (نظريات إيليا بريغوجين في الفيزياء وفي الفلسفة بخصوص "سهم الزمان").
مع العلم أنه لا يمكن أن تؤسس نخبنا المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري من دون تأسيس خطة منهجية لتوحيد الفكر، أعني مشروعا منهجيا يهيأ أسباب تشكل المشروع الحياتي. وإلا من أين ستأتي المكونات الضامنة لتشكّل المشروع الحياتي مثل التعددية واحترام حق الاختلاف وغيرها من الحاجيات حين يبقى كل طرف متشبثا بقراءته هو للحياة دون غيرها من القراءات؟
* من صياغة المنهج إلى صياغة المشروع
ثم إنّ هذا الوعي _بأن الحياة الإسلامية حلمٌ يقظٌ محررٌ لملكة الاهتداء إلى مقاربة حضارية بديلة عن المقاربة الموجودة_ يستوجب من بين أشياء أخرى تصحيح الرؤية إلى علاقة الإسلام بالحياة عموما وبالتالي إلى علاقة الأفكار والقيم الإسلامية بالمذاهب والمناهج والتيارات والمدارس العلمانية_ بما فيها الديمقراطية_ التي أنشأها غير المسلمين. ويلبَّى هذا الشرط بعد التعرف على الزاد المعرفي والعقدي لشعوب بقية العالم والاعتراف بها و معرفتها. حينئذ سيتضح أنّ الإسلام ليس مطالبا بأن ينتج إسلاما وإنما أن يستعيد مهمته الأصلية بصفته منهجا يُسهل لمعتنقيه توليد أسباب الحياة الكريمة وذلك بفضل بناء المعارف والعلوم والمفاهيم والسلوكيات الإنسانية المناسبة لتحقيق ذلك الهدف المؤدي بدوره إلى تحقيق غاية عبادة الله جل جلاله.
بكلام آخر، إنّ المسلمين ليسوا مطالبين بتقليد الاشتراكيين أو الشيوعيين أو الوجوديين أو الليبراليين أو غيرهم وبنقل أفكارهم ومناهجهم، لا مجزّأة ولا بحذافيرها، بل إنهم مطالبون بالاستفادة من تلكم المناهج و الأفكار باتجاه اكتساب الكفاءات اللازمة لتأسيس نظريات منطلقة من الذات، تكون منبثقة عن كونهم مسلمين، ومن ثَم إطلاق أسماء مستحدثة عليها _ بحسب حداثة كل فكرة وكل نظرية _ كيفما يرونه صالحا ومتناسبا مع شخصيتهم وهويتهم وذاتيتهم، وبالتناسب أيضا مع الكون الذي هم شركاء مع سائر الشعوب في الانتماء إليه.
هكذا بإمكان الإسلام اليوم أن يسهم في تنوير عقول العباد المنتمين إليه حتى تصوغ هذه الأخيرة العديد من المذاهب المعرفية المستحدثة التي تنخرط في الحراك العام الذي يستهدف غاية التقدم والرقي، تماما مثلما كان للإسلام في الماضي مذاهبه المعرفية والمتجسدة في شخصيات من الحكماء و العلماء الأفذاذ على غرار ابن سينا وفكر "الإنسان الحكيم" ضمن المدرسة العقلية، والحسن البصري وأبو حامد الغزالي و محي الدين ابن عربي ضمن المدرسة الصوفية، و عبد الرحمن ابن خلدون ضمن المدرسة التاريخية والاجتماعية، وغيرهم من جهابذة العلم والمعرفة والحكمة.
و حتى من منظور مقارن وباعتماد تاريخ الأفكار المعاصرة في الغرب المتقدم سيتبين لنا أنّ بمقدور الإسلام أن يؤدي مهمة تحويل الأفكار والمعارف الناشئة أوروبيا وأمريكيا إلى أفكار ومعارف بل إلى تيارات يتحكم بها المسلمون ويروّجون لها ويطوّرونها باستمرار. في هذا السياق المقارن، نعاين أنّ العولمة _ مثلا _ لم تكن موجودة لمّا نشأت الليبرالية الاقتصادية. لكن الليبراليين بمعية الرأسماليين طوروا مناهجهم حتى أصبحوا قادرين على التوصل إلى ابتعاث العولمة. ومن زاوية مختلفة نرى كيف كانت الشيوعية سابقة للعولمة ومع هذا فإنّ الكثير من المجتمعات الشيوعية قد تحولت اليوم إلى مختبرات للعولمة. هكذا بإمكان الإسلام، وما أدراك ما هو، أن يؤدي مهمة استيعاب الثقافات ونحت أشكال من الكونية والعالمية تتسم بأكثر إبداع وبأكثر عدل واعتدال وبحكمة وحوكمة أفضل من أشكال الفكر الكوني العولمي الراهن.
*الخاتمة
نخلص إلى أنه إذا توفرت الطريقة البيداغوجية التي تخوّل للمجتمع _ أسرة ومدرسة وشارعا_ الاستفادة من كل مصادر الفكر الشامل من دون إقصاء (ذاتي) لمصدرٍ بعينه لفائدة مصدر آخر، ومن دون تفخيم لمصدر للفكر الإسلامي على حساب مصدر آخر، ستتضح الرؤى وتتبلور التصورات سيتحرر العقل المجتمعي للمسلمين وتنمو مداركه وتُصقل مهاراته ويملأ الفكر بالمضامين الأصيلة والمتناسبة مع حاجيات المجتمع. حينئذ لن يكون هنالك عائقا أمام سياسة المسلمين لكي تكون رافدا من أهمّ روافد التطور المعرفي والعلمي المنشود، بوصفها انعكاسا لتحضر المسلمين. وعندئذ، هل سيكون هنالك مشاهد كارثية وأحلاما مزعجة قطّ ، طالما أنّ مصفاة الإسلام ومُحولاته _ العقلية والمعرفية والعلمية_ شغالة على مدار الساعة في حياة المسلمين بالإضافة إلى فضل العقيدة لمن أراد أن يزاوج العقل والعقيدة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.