رئيس الجمهورية يركّد على ضرورة انسجام العمل الحكومي    قيس سعيّد: "لا وجود لأي مواجهة مع المحامين ولا أحد فوق القانون"    لجنة التربية والتكوين المهني والبحث العلمي تبحث تنقيح قانون التعليم الخاص    درجات الحرارة ليوم الخميس 16 ماي 2024    نمو مستمر للإسلام في فرنسا    يوميات المقاومة .. تحت نيران المقاومة ..الصهاينة يهربون من حيّ الزيتون    جلسات استماع جديدة ضد الصهاينة في محكمة العدل ...الخناق يضيق على نتنياهو    العدوان في عيون الصحافة العربية والدولية ..أمريكا تواصل تمويل حرب الإبادة ..دفعة أسلحة جديدة بقيمة مليار دولار    عاجل: بطاقة إيداع بالسجن في حق المحامي مهدي زقروبة ونقله إلى المستشفى    متابعة سير النشاط السياحي والإعداد لذروة الموسم الصيفي محور جلسة عمل وزارية    بعد تعرضه لمحاولة اغتيال.. حالة رئيس وزراء سلوفاكيا خطيرة    عقارب: أجواء احتفالية كبرى بمناسبة صعود كوكب عقارب إلى الرابطة المحترفة الثانية.    ايقاف مؤقت لبرنامج Emission impossible على اذاعة إي إف أم    ينتحل صفة ممثّل عن إحدى الجمعيات لجمع التبرّعات المالية..وهكذا تم الاطاحة به..!!    الكشف عن شبكة لترويج المخدرات بتونس الكبرى والقبض على 8 أشخاص..    دعوة الى إفراد قطاع التراث بوزارة    أولا وأخيرا .. «شي كبير»    سليانة: إلقاء القبض على سجين بعد فراره من أمام المحكمة    صفاقس: اشتباكات بين المهاجرين غير النظاميين فيما بينهم    القرض الرقاعي الوطني 2024: تعبئة 1،444 مليار دينار من اكتتاب القسط الثاني    البنك الاوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يتوقّع انتعاش النمو في تونس    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    الديوانة تطلق خدمة التصريح بالدخول الخاص بالإبحار الترفيهي    مندوبية التربية بقفصة تحصد 3 جوائز في الملتقى الوطني للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    بمناسبة عيد الأمهات..البريد التونسي يصدر طابعا جديدا    الإعلان عن تركيبة الإدارة الوطنية للتحكيم    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    الفلاحون المنتجون للطماطم يطالبون بتدخل السلطات    مكثر: وفاة شاب واصابة 5 أشخاص في حادث مرور    مجلس عمداء المحامين يصدر بيان هام..#خبر_عاجل    في اليوم العالمي للأسرة: إسناد 462 مورد رزق لأسر ذات وضعيّات خاصة ب 15 ولاية    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و2033    لاعب الأهلي المصري :''هموت نفسي أمام الترجي لتحقيق أول لقب أفريقي ''    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    على هامش الدورة 14 لصالون للفلاحة والصناعات الغذائية صفاقس تختار أفضل خباز    وزير الفلاحة يعرب عن إعجابه بصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ: إصدار بطاقات إيداع بالسجن في حق 7 أشخاص    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    وزير الرياضة في زيارة تفقديّة للملعب البلدي بالمرناقية    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    اليوم إياب نصف نهائي بطولة النخبة ..الإفريقي والترجي لتأكيد أسبقية الذهاب وبلوغ النهائي    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المراحل الثلاث التي مر بها مراحل العقل الاسلامي
نشر في الحوار نت يوم 09 - 08 - 2014


تقديم
اشتهر الفيلسوف الفرنسي أوغست بتأسيسه للمدرسة الوضعية التي من أهم نظرياتها تقسيم المراحل التي قطعها العقل البشري ( بالمفهوم الاوربي طبعا) إلى ثلاثة مراحل، وهي المرحلة اللاهوتية حيث ساد الفكر الاسطوري و المرحلة الميتافيزيقية حيث سادت الفلسفة وجدالها و نظرياتها و أخيرا المرحلة العلمية حيث فسرت الظواهر تفسرا علميا و صيغت الظواهر صياغة كمية رياضية.
وقد مر العقل الاسلامي بدوره بثلاثة مراحل الأولى مرحلة الحرية الفردية وتوليد الاحكام، و انتاجها بشكل غير مسبوق، وخصوصا مع أئمة المذاهب الأربعة. و المرحلة الثانية هي المرحلة الفلسفية حيث الاهتمام بالقواعد النظرية. اما المرحلة الأخيرة فهي المرحلة المعاصرة التي هي عبارة عن التزاوج بين المرحلتين، وتداخل بين القواعد الأصولية و الأحكام الشرعية، تداخل العقل مع التجربة و النظرية مع التطبيق.
وبما ان الحديث هنا يمس بعض الأمور المعقدة، فقد يطالع القارئ بأفكار خارجة عن المألوف، فمن المطلوب منه في مرحلة أولى ان يترك الباحث يتكلم و شأنه، عسى ان تكون النتائج محمودة وذات مردودية. فعند الصباح يحمد القوم السرى. أما الغاية من هذا الكلام فهي رسم منهج أصولي يستند ويقوم على الربط و الارتباط بين الألفاظ و المعاني و بين النصوص و المصالح مما يؤدى إلى القول بأن الأدلة و الأحكام ليست جامدة و لامتجمدة بل تتجدد وتحور مع الواقع و مقتضيات الأحوال، ويكشف عن الديالكتيك بين الثابت و المتغير في الشريعة الإسلامية، والأول هو الألفاظ و الثاني هو المعاني.
1 المرحلة الأولى أحكام بلا أصول

ويوازيها عند كومت المرحلة اللاهوتية وذلك كما قيل بأنه في القرن الثاني كان عصر أئمة المذاهب الفقهية وتولد الأحكام على نحو ملفت للنظر. ففي هذا العصر كان ظهور أئمة المذاهب الأربعة وهم: أبو حنيفة ( 80 ه 150 ه ) و مالك بن أنس (93 ه 179 ه ) و الشافعي ( 150 ه 204 ه) وأحمد بن حنبل ( 164 ه 241 ه) و إذا قلنا بأنه عصر الأحكام دون الأصول فإن ذلك نسبي، فالغالب هو الاهتمام بالأحكام. كما أن الغالب في المرحلة التالية هو الأصول و إن كانت هناك بلالة من الأحكام.
كان هم العلماء في هذه المرحلة هو إيجاد الأحكام الداخلية و الخارجية. و أعني بالأولى الأحكام المتعلقة بالمفاهيم الشرعية كالقوانين المتعلقة بالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و السرقة وما إلى ذلك. أما الخارجية فأعني بها إيجاد الأحكام للوقائع الجديدة. و لا نفتقد الصواب إن قلنا بأن إطلاق الأحكام في هذه المرحلة لم يكن دائما حسب القواعد و الأصول، نعم تحدث أبو حنيفة عن منهجه قائلا « إذا لم أجد في كتاب الله و لا سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره » كما قال الشافعي بأن الاصول عنده هي الكتاب و السنة و الاجماع والقياس فقال : « لا يجوز الحكم أو الإفتاء إلا من جهة خبر لازم الكتاب و السنة أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا» [1]، لكن النظرية شيء و التطبيق شيء آخر، فقد بنيا الأحكام بدون تأصيل. يقول الطاهر بن عاشور عن السبق الزمني للفقه « إذ كان علم الأصول لم يدون إلا بعد تدوين الفقه زهاء قرنين ، على أن جمعا من المتفقهين كان هزيلا في الأصول يسير فيها وهو راجل» فإن الشافعي قد كتب أصول الفقه بعد انتشار المذهبين المالكي و الحنفي و ربما بعد بلورة المذهب الشافعي نفسه. الذي عرف مراحل من التطور قسمها البعض إلى ثلاثة اطوار آخرها طور النضج الذي بدأ مع دخوله مصر سنة 199ه و قد سبقه طور المذهب القديم بين 179 ه و 199ه قبل ان يكتب الشافعي أصوله متمثلة في الرسالة، وهذا يعني أن الرسالة هي تعبير عن واقع قائم تبرره، و ليس استشرافا لمعرفة جديدة بقواعدها و فروعها.
وقد تحدث الكثير عن الظهور المتأخر للقواعد الأصولية في المذهب الحنفي على وجه الخصوص. بحيث لا يمكن نسبتها مباشرة إلي أبي حنيفة إلا بشكل مصطنع، وهو ما عبر عنه الأحناف انفسهم بأن هذه الأصول لا يمكن استخراجها من كلام أبي حنيفة إلا بالملاطفة و الرفق. فقال الدهلوي: «وعندي أن المسألة القائلة أن الخاص مبين، ولا يلحقه بيان وأن العام قطعي كالخاص، وألا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي، ولا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلا، وأن موجب الأمر هو الوجوب فيه البتة، وأمثال ذلك، هو أصول مخرجة على كلام الأئمة ، وأنها لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه».[2] وقال الجويني في نقده لمذهب أبي حنيفة: « و بالجملة ليس معهم من علم الأصول قليل و لا كثير ، وإن أقام واحد منهم ألف مسألة فسننقضها في تفصيل الفروع. فإن صاحبهم ما بني مسائله على أصول، و إنما أرسلها على ما تأتى له، فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه القول في تفصيل الفروع».
اذا كان هذا هو الشأن عند أبي حنيفة فإنه الشأن كذلك بالنسبة لمالك فإن أصوله ليست من عندياته بل وجدها قبله كما تمت مراجعتها بعده. ولم يكن مالك إلا حلقة داخل سلسلة طويلة. يقول عالم العصر الكبير الدكتور الريسوني حفظه الله : « لكن الأمر يختلف في نسبة المذهب المالكي إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله. ذلك أنه لم يؤسس مذهبه ولم يضع أصوله وقواعده و إنما وجد ذلك جاهزا مستقرا، وورثه تاما ناضجا فسار عليه و اجتهد في اطاره. و من هنا فإن قولنا المذهب المالكي لا يكون سلميا إلا بمعنى أن المذهب المالكي هو المذهب الذي نسب إليه مالك و ليس المذهب الذي ينسب إلى مالك».
يؤكد على هذا انهم لم يجردوا النظر في هذه القواعد الأصولية التي يعتبر البعض منها لم يظهر عند بعضهم أصلا، أو ظهر بسيطا أوغامضا او انه تردد فيه ولم يتبنى موقفا صارما عنه. ذلك ان الشافعي تحدث عن القياس بأنه ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب و السنة وتحدث عن العام و الخاص و عن الناسخ و المنسوخ بصورة مختصرة جدا و بدائية اذا ما قورنت مع التطورات اللاحقة التي ستعرفها هذه القواعد. اذ لم يعد القياس ملاحظة التشابه بين شيئين فقط بل صار موضوعا متشعب المسائل متعدد الأنواع متنوع المسالك، وهكذا الشأن في الأصول الأخرى. فمالك رغم تشدده في القياس و نظر إليه على ان مذهبه حديثي في مقابلة مذهب اهل الرأي و القياس في العراق، فإننا نجد أن القياس يعتبر من الأصول الأساسية عنده. و كذلك فإن ابن حنيفة لم يتخلص له موقف واضح من المصلحة المرسلة فظل هذا الأصل غامضا عنده يقول الريسوني: « و إذا كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه قد نفذ بصره إلى إدراك المقاصد المصلحية لشريعة الإسلام .. فإن ذلك لم يخل من غموض على الأقل في توضيح ذلك للآخرين و قذ ظل هذا الاستحسان يكتنفه الغموض زمنا غير قصير»[3]
و في هذا السياق تجب الاشارة إلى أنهم في كثير من الأحكام عارضوا الأصول و اعتمدوا على آرائهم الخاصة فرد مالك حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، وقال: جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته، وكان يضعفه ويقول يؤكل صيده فكيف يكره لعابه، ورد حديث خيار المجلس، وقال: ليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه. ورد أبو حنيفة هذا الحديث أيضا كما رد خبر القرعة[4] هل يعني هذا الكلام ان الأئمة اصدروا الأحكام بدون الرجوع إلى اصل يستندون عليه؟
يري الغزالي الذي تحدث بإسهاب عن هذا الموضوع عند تعرضه لقياس الشبه حيث الأصل هو مناسبة و إخالة بعيدة، أو بعبارة أخري حيث لا أصل وبهذا يفارق قياس الشبه الأقيسة الأخرى القائمة على العلمية حيث وجود الأصل و المرجعية. و يقول الغزالي حول هذا الموضوع أنه لا مفر من البوح بالسر و أنه قد حان وقت الحقيقة متمثلة في وضع القارئ أمام الحقيقة. وهو هنا الأمثلة من كلام الشافعي و أبو حنيفة حيث بنيا الأحكام بدون الرجوع الى الإيماء و المناسبة، أي بدون العودة إلى الأصل بعبارة أخرى. قال الغزالي « قلنا اما التعليق بالإيماء فقد قررنا طريقه و ليس مسلك الشافعي مقصورا عليه، فإنه علل الربا في الدراهم و الدنانير بكونهما جوهري الأثمان و لا إيماء فيه ، وأما تلك المناسبة فمن محدثات المتأخرين ، لم يذكرها الشافعي»[5] كما أورد الغزالي فصلا من الرسالة بدون تدخل و لا إزعاج ليقول « هذا كله نقلناه من لفظ الشافعي فليتأمل المنصف ليعرف كيف علل بهذه الأوصاف التي لا تناسب ذاهبا إلى أن المشارك له في هذه الاوصاف في معناه غير معرج على المناسبة و الإيماء» [6].
هذا المنهج القائم على اطلاق الأحكام جزافا دون تقيد بالإيماء و المناسبة كان هو المنهج الذي سمح لأئمة المذاهب بإنتاج قدر لا بأس به من الأحكام. دون أن يكون هناك مبرر واضح أو إبداء مناسبة بينه و بين اصل شرعي حتي يكون البحث موضوعيا و ليس ذاتيا.
و من من قرأ الموطأ لمالك و المدونة و الأم للشافعي يجد إطلاق الأحكام بدون التزام بتخريج الدليل هو حقيقة لا تدفع وواقع لا يقنع.
مثل قول مالك في باب جامع الغسل حدثني يحي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمركان يقول لا بأس بأن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا
وسئل مالك عن رجل له نسوة و جواري هل يطؤهن جميعا ؟ فقال لا بأس بأن يصيب الرجل جاريته قبل أن يغتسل ، فأما النساء الحرائر فيكره أن يصيب الرجل المرأة في يوم الأخرى فأما أن يصيب الجارية ثم يصيب الأخرى وهو جنب فلابأس بذلك» وهنا نلاحظ أن مالك لا يقدم الدليل من النص بل يقول الأحكام من عندياته وبطريقة جزافية.
2 المرحلة الثانية أصول بلا أحكام
ويوازيها عند أوغست كومت المرحلة الميتافيزيقة و القاسم المشترك بينهما هو الفلسفة
هذه المرحلة يمكن ان يعبر عنها بمرحلة العقل البرهاني، بلغة الجابري رحمه الله. و قد قامت على انقاض مرحلة العفل البياني لكن البرهان هنا هو برهان صادر عن المنطق اليوناني، الذي هو صادر عن الفلسفة اليونانية التي كانت المعرفة تخلو فيها من التجربة و الحس مما جعل النظريات عقيمة لا تلد.
في هذه المرحلة كان ظهور العلماء الكبار في المعرفة الاسلامية وقد حددها الجابري بين القرنين الثالث و الخامس وهي في رأيه « أزهى عصور الثقافة الاسلامية» [7] و الميزة الأساسية لهذه المرحلة هي انتشار الفلسفة و المنطق حيث « انتشرت علوم المنطق في الملة وقرأه الناس و فرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط.[8]»
في هذه المرحلة ظهرت الكتب الأربعة في الأصول، مثلما ظهرت في المرحلة السابقة المذاهب الأربعة في الفقه. وهي كتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني والمستصفي للغزالي وكتاب العمدة لعبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البحري. قال ابن خلدون« وكانت الأربعة قواعد هذا الفقه وأركانه[9]».
وقد كاننت الثقافة الاسلامية قد اكتسحتها الثقافة اليونانية متمثلة في المنطق بنحو غير مسبوق. وقد تناول الجابري هذا الموضوع بشئ من التفصيل وتناول تجليات المنطق في علوم اللغة مثل النحو والبيان. حيث قال النحاة بأن النحو ليس إلا قياسا يتبع. كما ان السكاكي في مفتاح العلوم إنما يقصد به المنطق ذلك أنه في تقاسيم الكتاب سيظهر تأثير هذا العلم فأحد أقسام الكتاب هو تمام علم المعاني و البيان وهو علم الحد والاستدلال.[10]
اما على مستوى الفقه و أصوله فقد كان تأثير هذا العلم لا ئحا. و في الحقيقة أن الكثير من الظواهر العلمية في هذا العصر انما تفهم بربطها بتأثير المنطق في هذه المرحلة و علي سبيل المثال كتب الحكيم الترمذي كتابه الصلاة و مقاصدها وهو كان يتحرك ضمن ارضية منطقية شغوفة بمفهوم العلة عند ارسطو، و ليس داخل دائرة مقاصدية بالمعنى المعروف لهذه الكلمة. ومثل ذلك أيضا ظهور المقاصد الشرعية اضافة الى القياس في هذه المرحلة كان تلبية لمطالب الرغبة المنطقية وذلك من اجل بناء الأحكام على وزان القياس من الشكل الأول. فنقول مثلا حفظ النفس مقصد شرعي واجب والنفقة على هذا الشخص حفظ للنفس، إذن النفقة على هذا الشخص واجبة. لذلك في هذه المرحلة كان العلماء يتحدثون كما لو كانوا فلاسفة يونانيين. فإن كتاب البرهان عند الجويني هو كما يفيد اسمه بناء االمعرفة الأصولية على وفق البرهان المنطقي. لذلك نراه يتحدث باستمرار عن حدود مقبولة و حدود مرفوضة، و يشن الهجوم على الغوغائيين بسبب جهلهم للمنطق. اما أبو حامد الغزالي فقد حمل لواء المنطق في الإسلام. في كتبه المتنوعة مؤكدا على أن النظر الشرعي و القياسي المنطقي لا يختلفان إلا في مآخذ المقدمات فيقول: « فإنا سنعرفك أن النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات، في ترتيبه وشروطه وعياره، بل في مآخذ المقدمات فقط » و نجده في كتاب معيار العلم يكثر من الأدلة الفقهية ليتمرن على ذلك الأسلوب وهذا ما فعله بن حزم أيضا في كتاب التقريب حيث ذكر الأمثلة الإلهية و الشرعية حسب عبارته في ضروب القياس.
لما كان المنطق هو مجموعة من القواعد التي تعصم الفكر من الوقوع في الخطإ، كان علم الأصول هو مجموعة من القواعد أيضا التي تعصم من الوقوع في الخطإ في الأحكام. لذلك عبرت عن هذه المرحلة بمرحلة الأصول و القواعد. لأن الأحكام الجزئية لم يكن يأتي الحديث عنها إلا لماما، كما كانت الأصول في المرحلة السابقة تأتي لماما، أي كمقدمات بين يدي اجتهادات العالم و أحكامه التي ستنهال تباعا.
لقد استنفذت هذه القواعد الأصولية وكان البحث فيها شاملا لم يترك صغيرة و لا كبيرة إلا جاء عليها وهذا مثال أيضا قال الجويني:
« مسألة في صيغة الأمرالصيغة هي العبارة المصوغة للمعنى القائم بالنفس وهذه المسألة مترجمة بأن الأمر هل له صيغة؟ وهذه الترجمة إذا أطلقناها فالمراد ﺑﻬا أن الأمر القائم بالنفس هل صيغت له عبارة مشعرة به وإذا قال نفاة كلام النفس للأمر صيغة فنفس الصيغة عندهم هي الأمر فصيغة الأمر إذا أضيفت إلى الأمر لم تكن الإضافة حقيقية وهي في مذهب قول القائل نفس الشيء وذاته .فإذا لاح ما نعني بالصيغة في كل مسلك فقد اختلفت الاراء في المقصود المعنوي من المسألة .فالمنقول عن الشيخ أبي الحسن رضي الله عنه ومتبعيه من الواقفية أن العرب ما صاغت للأمر الحق القائم بالنفس عبارة فرد.ة وقول القائل افعل متردد بين الأمر والنهي، نظرا إلى مذهب الوعيد وإن فرض حمله على غير النهي فهو متردد بين رفع الحرج على مذهب قوله تعال:ى( وإذا حللتم فاصطادوا ) وبين الاقتضاء ثم هو في مسلك الاقتضاء متردد بين الندب والإيجاب فتبين من مجموع ما ذكرناه تردد اللفظ عند الواقفية بين هذه الجهات كلها ثم اختلف أصحابه في تنزيل مذهبه فقال قائلون اللفظ صالح لجميع هذه المحامل صلاح اللفظ المشترك للمعاني التي هيئت اللفظة لها وقال اخرون ليس الوقف مصيرا إلى دعوى الاشتراك وضعا في اللسان ولكن المعنى به أنا لا ندري على أي وضع جرى قول القائل افعل في اللسان فهو إذا مشكوك فيه على هذا الرأي.
و ما نلاحظ هنا هو عدم وضوح شيئ في المسائل المتناولة. فالأمر يمكن ان يكون الكلام القائم في النفس و يمكن ان يكون الالفاظ المعبرة عنه. و قول القائل افعل قد تكون للأمر و النهي في نفس الوقت فليس للكلام حقيقة وضعية وإنما الشك هو سيد الموقف وهو المنقول عن الأشعري. و لا يغيب عنا أن هذا الأسلوب هو الذي كتب الأصوليون على منواله في هذه المرحلة، ونجده عند الغزالي في المستصفي عندما يتعرض مثلا لصيغ العموم و الخصوص حيث تنقسم المواقف إلى ثلاثة وهي ارباب العموم الذين يرون أن للعموم صيغة وارباب الخصوص الذين قالوا هو ثلاثة وما فوقها مشكوك فيه و قال ارباب الوقف الصيغ لم توضع لشيء لا لعموم ولا لخصوص.
لا جرم في ظل غياب الأحكام ان يسود الخلاف دون الوصول إلى نتيجة كما قال ذلك الطاهر ابن عاشور بأنهم: « لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر وينتهي إليها المشتبه عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلي الأدلة الضرورية فينقطع بين الجميع الحجاج»[11]. وعلى كل حال فما يسمى بمرحلة الازدهار في الثقافة الاسلامية هو ازدهار خال من المردودية متمثلة في الأحكام التي تعالج الواقع وتتدخل فيه ليكون التأثير و التأثر، ذلك أنه مع الجويني و الغزالى قد لا نعثر على حكم جديد و الأمثلة القليلة من الأحكام عندهما كانت موجودة قبلهما.

3 المرحلة العلمية

ويوازيها عند كونت المرحلة العلمية
هذه المرحلة هي التي يجب أن تكون سمة المرحلة المعاصرة حيث يتساعد العلم الحديث مع القواعد الأصولية في بناء الأحكام على وجه أقرب ما يكون إلى العلمية. ففي هذه المرحلة يجب أن تتعانق الأصول و القواعد مع الأحكام فيكون الحكم مرتبطا بأصله و دليله و يساعد العلم الحديث بمعطياته وتحرياته على الوصول إلى هذا الربط بطريقة علمية.
وكما توصلت الوضعية الى وضع قياس ثابت لتمييز العلم عن غيره وهو مبدأ التحقق ويتمثل في الرياضيات و المنطق بعدم التناقض. و يتمثل في العلوم التجريبية بالتجربة فإن مبدأ التحقق هنا هو الدليل الذي يكون نصا في العبادات و مصلحة في المعاملات كما عند الطوفي.
وقد اشار علماء المسلمين قديما و حديثا إلى اهمية الدليل كمقياس للحقيقة الشرعية. لهذا نرى أهمية الدليل عند ابن حزم و قد خصص الفصل الرابع من كتابه الإحكام في الدفاع عن الدليل قائلا بأنه أفنى عمره في طلب الدليل قبل طلب المدلول. وقال معقبا على الآية الكريمة ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)[12] « و إن لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل و أنه مفتر على الله و كاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل و لا تبديل، و أنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة» وقال أيضا « و كلما قلنا فلم نقله جزافا بل لم نقل كلمة فيه إلا مما قاله الله تعالى شاهدا بصحته وميزه العقل عالما بحقيقته و الحمد لله رب العالمين»[13]
من أجل ان يتحقق البحث الموضوعي في الشريعة يجب أن يكون أمامنا و اقع معطى ودور الباحث هو استخراج معانيه و إمكانياته التأويلية، ووجود هذا الواقع شرط اساسي لكل معرفة موضوعية, و قد تحدث الأصوليون عن هذا الواقع و حصروه في القرآن و السنة فهما علم الحق عند الشافعي وغيره.
وقد شرح الأصوليون كيفية استقاء الأحكام منهما، و ان ذلك يكون بتحقيق المناط عند الأصوليين و بالدليل عند ابن حزم. و ذكر الشاطبي ان هذا هو الموقف الذي يمثل الخلاصة عند الاصوليين و إليه ينتهي طلقهم. فتحقيق المناط هو الاستدلال الذي يكون من اجل معرفة حكم شرعي كما تقول بأن صلاة الظهر أربعا بدليل الحديث الذي روي عن الرسول صلى الله عليه و سلم[14] ويكون أيضا بتنزيل ذات الحكم على واقعة معينة، فاذا شاهدت إنسانا يصلى بعد الزوال يمكن ان تراقب صلاته من حيث تطابقها مع ما جاء في الحديث فإذا تطابقت معه قلت هذه صلاة الظهر صحيحة.
إلا أن هذا إذا كان سهلا على هذا المستوى وهو المستوي الذي يكون الدليل منصوصا عليه فإنه يبقى البحث في الأحكام التي لم يأت فيها نص محل صعوبة، فإنها تتطلب الاجتهاد و التفكير لإيجاد حلول شرعية لها. و في هذه الحالة لا بد من مرجعية لليقين و ذد خرج الوضع من أيدينا أي خرجنا عن الأدلة المنصوصة وهنا يجب الاعتماد على المصالح التي تتشخص بدراسة الواقع فتمثل الدليل و المرجعية في البحث. و هذه المصالح ليست خارجة عن النصوص و انما هي مستمدة من النصوص فكانت امتدادا لها فالنصوص اذن لا تعني فقط ما تفيده الألفاظ بصورة صريحة بل تعني أيضا معانيها و اهدافها و مقاصدها، فهذه جزأ من النصوص لا تنفك عنها. و لو اشترطنا في النصوص الحرفية لما امكن تطبيق أي حكم لأن كل الأحكام الشرعية نزلت في أشخاص و وقائع لم تعد موجودة. فاستلهامها الى أشخاص ووقائع اخرى مماثلة لا يكون بالتنصيص وهذا هو معنى الاجتهاد وهو معنى ان النصوص متناهية و الوقائع غير متناهية. فالاجتهاد يعني سحب معاني النصوص على ما يلائمها من الوقائع. وهذا هو ما يعنيه الأصوليون بضرورة الاجتهاد الذي يمثل تسعة أعشار الفقه. فهو لا يعني استخراج احكام من العدم وإنما تنزيل معاني النصوص على الوقائع الجديدة اما استخراج شيء من لا شيء فهو عدم و خلط و خبط.

[1] عبد الوهاب خلاف علم أصول الفقه ص 96 / 97
[2] سالم يفوت حفريات المعرفة العربية الإسلامية ص 17
[3] المرجع السابق ص 86
[4] مقدمة النووي على شرح صحيح مسلم ص 25
[5] الغزالي شفاء الغليل ص 336
[6] المرجع السابق ص 340
[7] الجابري بنية العقل العربي ص 77
[8] ابن خلدون : المقدمة ص: 379
[9] ابن خلدون : المقدمة ص: 371
[10] الجابري بنية العقل العربي ص 91
سالم يفوت حفريات المعرفة 163[11]
[12] البقرة 111
[13] ابن حزم الإحكام ص 6
[14] صحيح البخارى ص 34


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.