اذا ما افترضنا جدلا ان حركة النهضة لن تدعم أي مرشح خلال الدورة الأولى وأنها ستبقى على "الحياد المؤقت" ما هي الخيارات الممكنة والفرضيات الواردة في هذا الإطار؟ ومن من المترشحين قد يحسم الانتخابات لصالحه؟ومن سيستفيد من الناخبين الذين كانوا قاطعوا التشريعية والبالغ عددهم 1,5 مليون ناخب؟ مازالت الجبهة الديمقراطية الاجتماعية لم تحسم بشان مرشحها الرئاسي بعد، بعد ان عجزت مبادرة مصطفى بن جعفر في توحيد الصف وراء مرشح»ديمقراطي» قادر على منافسة بقية المترشحين والدخول للاستحقاق الانتخابي بقاعدة شعبية قد تحقق المعادلة السياسية وتفرض مرشحا «وسطيا» لمقارعة مرشح اليمين الليبرالي قائد السبسي الذي حصل حزبه على اكثر من مليون و279 ألف صوت خلال التشريعية او مرشح اليسار (الجبهة الشعبية) حمة الهمامي والذي تحصلت قائماته على 125الف صوت. وتبقى المفاجآت واردة مع إمكانية دخول المقاطعين للانتخابات التشريعية والذين تبلغ نسبتهم نحو 28 بالمائة من مجموع المسجلين والبالغ عدد نحو5,5 مليون مسجل. 212 ألف صوت دون النهضة بالعودة إلى مجموع الأرقام المصرح بها فان تجميع العائلة الديمقراطية وراء مترشح واحد دون تدخل حركة النهضة فان مرشحهم لن يتجاوز 250 ألف صوت. فجمع جملة الأصوات التي حصلها حزب المؤتمر 70الف صوت زائد حزب التكتل 24,600 صوت زائد التيار الديمقراطي 66 الفا و400 صوت، زائد اصوات حزب البناء الوطني4الاف و300 زائد أصوات حزب الإصلاح والتنمية محمد القوماني 4الاف و400 زائد الأصوات التي تحصلت عليها قائمات الشعب يريد والمحسوبة سياسيا على رابطات حماية الثورة 4الاف صوت زائد الأصوات التي تحصل عليها حزب التحالف الديمقراطي 23الفا و700 صوت، كما لا ننسى عدد النهضاويين الذين سيصوتون لفائدة المرزوقي إضافة الى احتمال دخول عدد من السلفيين على الخط خاصة وان عددا منهم لم يتقدم للانتخابات التشريعية بالإضافة إلى تأثير رابطات حماية الثورة عليهم والذي لن يتجاوز عددهم مجتمعين 15 الف صوت ويبقى موقف حركة النهضة هو الحاسم اذا ما تدخلت لفائدة هذا الطرف او ذاك. فان تدخلت الحركة لفائدة مترشح «العائلة الديمقراطية» فان إجمالي الأصوات التي سيحصدها هي عدد أصوات المسندة للحركة 948 الف صوت زائد عدد الأصوات المتحصل عليها لمجموع الأحزاب المذكورة 212 ألف صوت فنحصل على مجموع مليون و 160 ألف صوت وهو ما سيؤجل الحسم إلى الدور الثاني. تكتيكات التفاوض في واقع الأمر يدخل الباجي قائد السبسي الرئاسية بحظوظ وافرة تفوت بقية المترشحين وذلك اذا ما عدنا للأصوات التي تحصل عليه حزبه في الانتخابات التشريعية وهو ما يعني عدم حاجته لأي تحالف في هذه المرحلة على الأقل. وتدرك القيادات في النداء إن تحييد حركة النهضة سيضمن لمرشحها حسم الانتخابات من الدور الأول, بيد ان تحييد النهضة قد يضطر خلالها الندائيون للتنازل عن الحكومة لفائدة شخصية مستقلة وعدم المطالبته بالحقائب السيادية سيما تلك المتعلقة بالداخلية والعدل كما يتطلب تنازل حزبهم عن رئاسة المجلس النيابي لفائدة شخصية نهضاوية من اجل خلق توازن سياسي تحت قبة البرلمان. في المقابل يضمن نداء تونس شراكة سياسية مع النهضة بما يتيح لكلا الطرفين «التعايش السلمي» تحت القبة وخارجها. و تبقى هذه الأرقام مجرد قراءات لفهم المشهد السياسي وإذ إنها لا تخلو من المفاجآت فإنها لا تخلو أيضا من الوقوف على معطيات أخرى. اذ لا يكفي حصول حركة نداء تونس على أغلبية ب 85 مقعدا في البرلمان الجديد للحديث عن انتصار، كما لا يستقيم وصف حصول حركة النهضة على 69 مقعدا بالهزيمة. ثلاث ملاحظات قبل الفصل هناك مسار سياسي أدّى إلى أسبقية انتخابية لحركة نداء تونس ولكنّه لم ينتج أسبقية سياسية، ذلك أنّ المشهد عرف بالإضافة إلى هذين القطبين صعودا مهمّا للقوى اليسارية التي اختارت الانخراط في عمل جبهوي وتجاوزت، نسبيّا، الخطابات الإيديولوجية الحادّة إلى خطاب سياسي قريب من الواقع وهو ما يجعلها، إذا استمرّت على هذا النحو في طريق مفتوح أمام الانتشار أكثر واكتساب ميزان قوى أفضل وهو ما أظهرته مداخلة مرشح الجبهة الشعبية على قناة نسمة أول أمس. ما يطفو على سطح التحاليل السياسية للمشهد ما بعد التشريعية وما يتجلّى بكثافة في وسائل الإعلام من تفسيرات وتأويلات يكاد يقف عند حدود تكرار حسابي للنتائج فيما يتمّ إغفال ثلاث ملاحظات هامّة. وأوّل هذه الملاحظات هو الانسجام السياسي الحزبي لحركة النهضة بما يجعلها قطبا معارضا قويّا وقادرا على امتلاك الثلث المعطّل الذي يمكنه حماية مشروعه السياسي والدفاع عن مكتسبات تحسب في صفّه. من ذلك ما حقّقه من اندماج قوي داخل القوى المجتمعية والنسيج الجمعياتي فضلا عن قدرته على حماية مشروع العدالة الانتقالية والإبقاء على هيئة الحقيقة والكرامة إضافة إلى توفّره على رصيد من المنتمين القُدامى والجدد للمنظّمات النقابية وتواجده بنسبة هامّة داخل منظومة المؤسسات الإعلامية. بالمقابل تمثّل حركة نداء تونس قطبا سياسيا جديد متكوّنا من نسيج من الطيف السياسي ولا يمتلك مرجعية سياسية متجانسة وقد برزت عناصر قوّته من خلال انحياز جزء هام من الناخبين لاختياره بديلا عن منظومة «الترويكا» بعد ثلاث سنوات من ارتباكها في الحكم وعدم تحقيقها لانتظارات الأغلبية الساحقة من المواطنين. ومن الضروريّ الملاحظة هنا بأنّ الخليط السياسي الذي يتضمّنه نداء تونس قد يؤدّي إلى خلافات مبكّرة حول التحالفات السياسية لتشكيل الحكومة وقد يفرز مجموعات غاضبة ستنتجها تركيبة الحكومة وتوزيع المسؤوليات في المؤسسات العليا للدولة. هذا وينضاف إلى هذه الخاصيّة أنّ تجربة نداء تونس كحزب سياسي هي حديثة النشأة وهو ما يعني غياب الجانب العقائدي السياسي لدى قواعده وهياكله الوسطى التي قد تجد نفسها في حالة من التنافس على المكاسب والمناصب. وبالرغم من الانتشار الهام لنداء تونس وتحوّله إلى الحزب الأغلبي في البرلمان إلاّ إنّ قيادته للحكومة المقبلة في ظلّ أوضاع اقتصادية صعبة واستمرار للنفس الاحتجاجي الاجتماعي فإنّه قد يلاقي حملات انتقاد واسعة لأدائه في المستقبل خصوصا فيما يخصّ مطالب لا يمكن لحكومته تحقيقها في السنوات القليلة القادمة. الملاحظة الثالثة تتمثّل في أنّ انتصار حركة نداء تونس هي انتصار لماكينة الدعاية الانتخابية القوية التي امتلكها وهو ما يعني أنّ الماكينة الانتخابية لحركة النهضة قد فشلت في مهمتها رغم ما حصدته من نتائج هامّة. فالمنافسة في الواقع كانت منافسة الجهازين الانتخابيين المشرفين على الدعاية والاستقطاب غير أنّ ذلك لا يكفي للإقرار بتفوّق سياسي لمشروع حركة نداء تونس الذي لم يتبلور بعد وقد ترهقه مهمة تشكيل الحكومة فيما تمتلك حركة النهضة مشروعا سياسيا منذ عقود وقد بلغت مرحلة تجديده ومنحه الكثير من النفس الانفتاحي. لا علمانية...لا إسلامية ومن الواضح أيضا أنّ الحديث عن انتصار حزب علماني على حزب إسلامي خصوصا في الصحافة الأجنبية هو تأويل خاطئ لطبيعة المنافسة السياسية في البلاد إذ إنّ كلا الحزبين محافظين وكلاهما يعترف بمدنية الدولة وكلاهما يرفض التطرّف وكلاهما ينتمي إلى الحاضنة التونسية رغم اختلاف الروافد الفكرية التي تنطلق من الحركة الإصلاحية الدينية التونسية بالنسبة لحركة النهضة وتعتمد على المرجعية القومية البورقيبة بالنسبة لنداء تونس. ومن المنتظر أن يصبح هذا الاختلاف مجرّد نقاش ثقافي بين النّخب الفكرية لأنّ الدولة التونسية من حيث هي مؤسسات وقوانين وكذلك المجتمع التونسي الذي يعدّ مجتمعا منسجما وموحّدا ستكون أهمّ بكثير وأكثر تأثيرا من التأثيرات الحزبية ومن الاستقطاب الثنائي.