يتوجب أن نتذكر الماضي بما فيه، ولا يجب أن نتجاهل ما يحتوه من حقائق مفزعة يتم تزيفها على يد كتاب عهد النكبة، وما دفعني لكتابة هذا المقال في مثل هذه الأوقات إلا حيث حوار الكاتب والدبلماسي المصري الأسبق محمد حسنين هيكل مع صحيفة السفير وكان محتوى الخطاب يدور حول تلك الروح العنترية القديمة. مما دفعني أنا وغيري إلى إعادة البحث عن الماضي، وتدوين بعض تاريخ صديق هيكل وقدوته المُحببة وولي نعمته، وتم في هذا المقال تتبع سياسات جمال عبد الناصر والكشف عن ودوره في إدخال المنطقة العربية داخل قلب بؤرة صراع الولاءات وتناطح الأضداد، ونقصد بذلك الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة.
ونتيجة ذلك التعسكر الناصري إنقسم المشرق العربي بين مسميات خبيثة من قبيل أنظمة رجعية "ملكية" وأنظمة تقدمية "جمهورية"، ومازال هيكل يعتمد في حواراته نفس المفاهيم القديمة البالية.
ورغم أن الملكية في مصر في عهد الملك فاروق كانت أكثر تقدمية من العهد الناصري في مجالات التعددية مثل تشكيل حكومات برلمانية ليبرالية، وكان هناك تعددية حزابية كاملة، وحتى داخل الجيش المصري كان هناك متسع لإبن الفلاح وأبناء التيارات الفكرية والسياسية.
وبدون مناخات الحرية في مصر الملكية لما إستطاعت النُخَب والأحزاب أن تنتقد وتتحرك في مظاهرات يومية تجوب الشوارع وتحتج على الفساد وهزيمة حرب عام 1948م، وكانت هذه التعددية داخل الجيش المصري وبدونها لما تمكن مجموعة الضباط الأحرار من المشاركة في ثورة عام 1952م ضد الملك فاروق.
وبعد هذه السنوات التي مازلنا نعيشها اليوم من إنقسام عربي، بين ولاء عربي إلى الشرق والغرب، ولم نتمكن من تحقيق نهضة ولا تنمية ولا إستقلال، وسمحنا للغرب وللولايات المتحدة نحو ممارسة التَوحُش العسكري في بلداننا بحجة منع النفوذ الروسي المُتأرجِح والهزيل في مشرقنا العربي، وأسهمت هذه السياسة في إشعال حروب داخلية، والنتيجة لم تُحَرَر فلسطين بعنتريات ناصر وأمثاله، وأخفقت الجمهوريات في مساعيها، وخابت توجهاتها، ومجملها تعاني اليوم من إنقسامات وحروب داخلية، وبعضها كان ومازال على علاقة سلام وتماهي مع الإحتلال الإسرائيلي، وبينما إستطاعت العديد من التجارب التحررية في العالم تحقيق إنجازات حضارية مميزة، وإنتقلت تلك البلدان إلى مصافي الدول المتقدمة ومنها البرازيل بتجربتها في الإعتماد على الذات وأيضاً الهند وماليزيا واندونيسيا والصين وتركيا.
رغم أن الملكيات العربية خلال النصف الأول من القرن الماضي كانت حليفة بريطانيا قبل الثورة ضد الملك فاروق في مصر، ولكن ثنائية الصراع دفعت هذه الممالك نحو البحث عن حليف دولي جديد يَحِل مكان بريطانيا المنهكة في حينه، ويحميها من ممارسات النظام الناصري تحت ستار الوحدة بدون أسس وقواعد ذاتية، ومارست الملكيات مثل هذا التوجه نتيجة التوسع السوفيتي في المنطقة بحجة دعم حركات الحرر، ومع العِلم أن هذه الملكيات أو في معظمها كانت شبه مستقلة القرار أو أوشكت أن تتحرر وفق إتفاقيات جلاء، وكانت تتحول بهدوء نحو الملكية الدستورية البرلمانية.
وفي موضوع تفضيل روسيا وإعتبارها صديقة العرب لا يوجد في السياسة صداقة حتى النهاية، وعلينا أن نستذكر أن روسيا هي ثاني دولة إعترفت بدولة الإحتلال الإسرائيلي خلال ثلاث أيام من إعلان الإستقلال في 15/5/1948م، قبيل هزيمة عام 1948م المتعارف عليها بالنكبة، وقدمت روسيا في حينه وخلال الحرب كُل العون المادي والبشري والمدني لصالح دولة الإحتلال الإسرائيلي إلى جانب الغرب.
وكانت مرحلة عِشق وهيام روسي أمريكي، لأن روسيا السوفياتية كانت في حينه حليفة الغرب ضد هتلر، ولم تشتعل بَعد نيران الحرب الباردة بين الطرفين، ولذلك هي شريكة في مجمل مشاريع الغرب الإستعماري، وعلينا أن نتذكر موافقتها النسبية حول إحتلال الولاياتالأمريكية للعراق عام 2003م، مفضلة أن تتحالف مع الولايات أمريكية وإيران على حساب صدام حسين الأقرب لها فكرياً ووقفت إلى جانب سياسات إيران، لأنها الأقوى في الإقليم ودعمتها في أفغانستانوالعراق على حساب جزء من التيار القومي والإشتراكي والبعثي والعروبي والتحرري العربي، حليف روسيا التقليدي إذا جاز لنا التعبير.
وأسهمت روسيا وحليفاتها في بلدان العربي (أول حليف جمال عبد الناصر) من زرع بذور القلاقل مجدداً في المنطقة خلال الخمسينيات بعد هدوء دام عشرة سنوات، بعد عهد الإستعمار الغربي المنتهي تقريباً منذ عام 1946م بفضل ثورات حقيقية قادها زعامات تقليدية محافظة منها عمر المختار وعبد الكريم الخطابي والشيخ المقراني والسنوسي والمهدي وثورة الكيلاني... ولكن لم تسمح لنا روسيا وحليفاتها من النُظم العربية الإنقلابية أن نبحث عن هوية نختارها أو إتجاه تنموي كانت بذوره ونتائجه واضحة في مصر وسورياوالعراق كما نجح في الهند والصين، ولكن دَعم السوفيت وتحالفاتهم العربية حَرَكَت الحرب والإنقسام الداخلي في اليمن الملكية عام 1962م وإنقلاب عسكري في ليبيا الملكية المستقرة عام 1969م وحدث قبل ذلك إنقلاب في سوريا وأخر في العراق وإنقلاب على الثورة في الجزائر، ودخلت المنطقة في موجة من الإنقلابات والإنقلابات المضادة قادها مجموعة من الجنرالات الجهلة ممن يؤمنون بكارزمية الفاشست.
ومن المؤسف بعد هذه المجازفة الناصرية تمكنت الولاياتالأمريكية من تجنيد جنرالات مصر ذات التدريب الروسي والبلغاري واليوناني والروماني وتم تجنيد تلك الجنرالات لصالح الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية وتكرر الأمر نفسه لدى جنرالات منظمة التحرير الفلسطينية بعد إتفاق أوسلو وَوَقَعَت جنرالات جبهة التحرير الجزائرية والكوبية في نفس المأزق، والدليل عل ذلك حجم العلاقات العسكرية المميزة بين فرنساوالجزائر، ولم يخرج عن تلك السياقات مؤخراَ قضية إعادة فتح سفارة كوبا في الولاياتالمتحدة خلال مهرجان ضخم، وإعادة العلاقات مؤخراً بين الطرفين بعد وفاة الرئيس الكوبي الشهير بكاسترو.
والمتتبع لمشهد سياسات النظام المصري الخارجية منذ سبع عقود يجدها سبب مباشر بل مُسَبب في مجمل هزائم العرب على أرض فلسطين، ولم تنتهي سياسات الولاء للإستعمار هنا فقط، بل في الأمس القريب تم توقيع إتفاق كامب ديفيد وتأسيس علاقات سلام مع الإحتلال الإسرائيلي، وتبع ذلك تسويف القضية الفلسطينية في متاهات بيروت وتونس نتيجة سير النظام المصري في طريق السلام منفرداً، وتم خَنق قطاع غزة، وتجريف المناطق الحدودية مع قطاع غزة، وإغلاق معبر رفح..، والكثير الكثير بفضل هذه السياسة المرتعشة المشكك بها.
ومنذ عهد جمال عبد الناصر تدخلت الولاياتالمتحدة البعيدة جغرافياً في سياسات المنطقة العربية تحت ستار تحجيم نفوذ السوفيت، وتمكنت من إعادة ترتيب أوضاعها في المنطقة العربية بالتدريج بعد إنسحاب ووتراجع إنجلترا وفرنسا منذ عام 1946م وفق إتفاقيات الجلاء ومعاهدات الصُلح، وهي إتفاقيات جلاء وإستقلال حقيقية تم إبرامها بين العرب وفرنساوبريطانيا قبل عشرة أعوام من التغلغل السوفيتي الأمريكي بمساعدة ضباط مصر الأحرار.
وفَشِلنا للأسف في تحديد نموذج حكم يمكن أن نتبناه ويمكن أن يقدم حلول لمنطقتنا العربية المنكوبة بسبب التجربة الناصرية، وفي نفس التاريخ قَضَت أوروبا على مستبديها أمثال هتلر وموسوليني وفرانكو، بإستثناء روسيا الشيوعية في عهود لينين وصديقه إستالين... وبوتين...، وخلال تلك الفترة نقلت روسيا وباء الدكتاتوريات المستبدة إلى مشرقنا العربي، وتم تتويج الفرعون لينين والفرعون إستالين والفرعون موسوليني والفرعون هتلر والفرعون فرانكو، بدل نُظُم ليبرالية ملكية أو جمهورية تُتيح حرية الإختيار خضعنا بفضل حركات التحرر تلك تحت حكم شيخ العسكر ومَلِك العسكر وإقطاع العسكر، وتلولحي يا داليه يا إم قطوف عالية، وفي مجملها حركات تحرر لم تخضع لإحتياجات العرب في حينه، بل تم تفعيلها ضمن سياقات النزاع الغربي مع السوفيت بحجة تأسيس وحدة عربية بقوة السلاح السوفيتي.