إذا ما حاول بعض الملاحظين أو المنتقدين - ممّن وردوا على مملكة الدّنمارك من أمثالي لاجئين فارّين من بطش حكّامهم أو متحيّنين فرصة عمل شريف أو طالبين علما أو ترقّيا فيه - لبعض المظاهر في المملكة، سمع دون طول انتظار "الدّنمارك بلد ديمقراطي"!... وكأنّ القائل يقول أنّه لا مجال بعد ذلك - خاصّة لمن لم يكن "ديمقراطيّا" أمثالنا – لانتقاد ما يجري أو يحدث... فكلّ ما يُقترف أو يُؤتى من فعل أو قول إنّما هو يتكلّم بلسان الديمقراطيّة المبين الذي إن عارضه معارض كان متخلّفا أوربّما كان عاملا على مخالفة توجّهات الأمّة الدّنماركية التي اختارت بالإجماع لنفسها هذا النهج بعد أن بذلت فيه الأنفُسَ (بضمّ السين) والأنفَسَ....
والحقيقة أنّ الديمقراطيّة في الدّنمارك قد خطت خطوات إيجابية – إلاّ ما كان من بعض الهِنات التي سبّبها "الوطنيون" نتيجة حساسيتهم المفرطة مع الأجانب - لا تُجرّئ بعض النّاس على انتقادها... والدنمارك تطبّق بعض السياسات الاجتماعية التي تذكّرنا نحن المسلمين بعدل عمر الفاروق رضي الله وبمسيرة الإسلام إبّان قرونه الأولى، خاصّة فيما يتعلّق بالتكافل الاجتماعي الذي قلّ مثيله في عالم اليوم... غيرأنّ ذلك لا يعني بالمرّة أنّ كلّ ما يُرتكب وكلّ ما يُتّبع هو في منأى عن الملاحظات والتقييمات التي تنشد الترقّي وتصرّ على نفع النّاس كلّهم بدل الاكتفاء بشريحة معيّنة... فقد انضمّ اليوم إلى العديد الدّنماركي أناس جدد ذوو ثقافات مختلفة من شأنها – إن قُبلت واحتُرمت – الإسهام في صقل بعض ما غفل عنه التطوّر السريع الذي خرج بالمجتمع الدّنماركي بُعَيد الحرب العالميّة الثانية من مجتمع محافظ أو شبه محافظ إلى مجتمع متحرّر أو شبه متحرّر من كلّ ما يربطه بنمط الحياة القديم الذي كان مرجعه العائلة وتقاليد العائلة بما في كلمة العائلة من معاني لا يستقسيم أي مجتمع إلاّ بفقهها واتّباعها
ولقد سمحت لي فرصة التواجد بالمستشفى الاستعجالي في ناحية من نواحي العاصمة كوبنهاغن ملاحظة ما لم أتقبّله ولم أقو على فهمه أو حتّى تفهّمه... فقد كانت قاعة نوم المرضى مختلطة بين النّساء والرّجال... وهو أمر إن قبله الدّنماركي الهارب من عاداته فإنّه لا يقبله – أحسب – الدّنماركي الجديد صاحب غير العادات والتقاليد ولا الدّنماركي الأصيل الثابت على العادات والتقاليد... إذ لا تزال للمرأة خصوصياتها كما لا تزال للرّجل خصوصياته... وأحسب أنّ مبدأ الاحترام المتبادل الذي نتكلّم عنه كثيرا في الدّنمارك يُلزمنا بالتأكيد كلّ من موقعه باحترام هذه الخصوصيات، لا سيّما وأنّ الأمر (أمر دمج الإناث مع الذكور) لم يأت استجابة لضرورة أو لحاجة أو بسبب جائحة لا قدّر الله، وإنّما جاء – حسب رأيي – نتيجة سهو عن تلكم الخصوصيات ونتيجة عدم احترام لها أو عدم احترام للوافد الجديد أو الدنماركي الأصيل صاحب التقاليد المانعة لهذا الخلط... أو ربمّا جاء نتيجة إصرار على أنّ الديمقراطيّة لا تكون أو هي لا تتمّ إلاّ إذا أزلنا بالكليّة تلكم الخصوصيات... وهو لعمري تصوّر – إن وُجد – يحتاج إلى الإسراع بمراجعته خاصّة إذا انتبهنا إلى العراقيل الكبيرة التي يضعها في طريق اندماج الوافدين ممّا يحرمهم من إظهار إمكانياتهم ويحرم الدّنمارك بالتالي من توظيفهم واستغلال كفاءاتهم الاستغلال المثمر في خدمة المصلحة العامّة للبلاد....
ولقد نظرت في الديكتاتورية فرأيتها أكثر من يستعمل المرأة واجهة تبرّر بها فسادها وتغطّي بها على مظالمها... وظنّي أنّه ما ينبغي للدّيمقراطيّة أن تشترك معها في هذه النّاحية فتذلّ المرأة بإخراجها ممّا يوقّرها لدى أخيها الرّجل...
لقد قبلنا بالممرّضات يمرّضن الرّجال باسم الضرورة، فلمَ تُلحق المرأة المريضة بالرّجل المريض ليجانب سريرُها سريرَه، وهي وهو بالشارع العام لا يقويان – إن لم تكن بينهما معرفة سابقة - على تبادل التحيّة مراعاة منهما لعرف الدنماركي الأصلي قبل حتّى مراعاة الدّنماركي الوافد... أتنجنّب التحايا العابرة بالطريق العام ونرقد سويّا جنبا إلى جنب في قاعة المستشفى!... إنّه لأمر جلل وإنّه لأمر فيه الكثير من الخلل!...
لتكن المحافظة على الاحترام المتبادل كما قلت بالمحافظة على الخصوصيات، فإنّ المرأة للمرأة في ذلك أرحم وأعلم وأنفع وإنّ الرّجل للرّجل في ذلك لأرحم وأدرى وأنفع!... وليكن تعاوننا بلا حدود فيما عدا ذلك... ولنتبارى جنبا إلى جنب في ميادين الدراسة والترقّي في العلوم والعمل وليكن ذلك دائما في إطار الاحترام المتبادل... فإنّه متى التصقنا على الأرض دون رادع أو أخلاق أو تقاليد حارسة التصقنا بالأرض فخمدت جذوتنا وبتنا كالأنعام لا نهتمّ إلاّ بما يشغلنا عن أجسادنا...
ولكن هل يصرفني المشهد في النّهاية عن التنويه بحسن الاستقبال وجودة الخدمات وسهر الطاقم الطبّي المرابط ليلا نهارا على راحة المرضى؟!... لا يفعل ذلك إلاّ لئيم... فقد والله حمدنا الله على هذه الحظوة التي لا يُعامل أهلنا في ديارنا الأصليّة بأعشارها... ولكنّ الحادثة أوجبت التنبيه إلى ضرورة اجتناب ما يخدش الجهد حتّى نكون إلى الكمال أقرب!...