كل المؤشرات والأرقام تؤكد أن السنوات الأخيرة كانت كارثية بالنسبة إلى قطاع البناء والبعث العقاري، فقد تأثر هذا القطاع بالوضع الاقتصادي المتدهور للبلاد طيلة السنوات المتتالية، وأثر بدوره في جملة من القطاعات الأخرى. فالقطاع على وشك الانهيار نظرا للصعوبات التي يعرفها و الديون المتخلدة بذمته لدى البنوك والتي تقدر جملية ب10.000 مليون دينار لقطاعي البعث العقاري والبناء وهو ما يؤكد أن أزمة البعث العقاري لا تهم فقط أهل القطاع بل هي شبكة كاملة ومتداخلة تطال أيضا قطاع البناء بمختلف مكوناته المترابطة على غرار الخشب ونجارة الاليمنيوم ومجال الربط بالماء والكهرباء والرخام.. فضلا عن الخدمات العمومية مثل الستاغ والصوناد والبلديات والولايات وديوان التطهير والحماية المدنية .. وهي خدمات ستتأثر حتما بهذه الأزمة. هذا بالإضافة إلى تأثر البنوك وشركات التأمين و المواطن الذي يعتبر الحلقة الأهم. ضربتين على الرأس: أداء مجحف ووباء كورونا تتحمل الدولة المسؤولية عن جزء كبير من مشكلة هذا القطاع بسبب السياسات العشوائية التي تمت صياغتها في قوانين المالية خاصة في قانون المالية لسنة 2018 حيث مثل فرض الأداء على القيمة المضافة على قطاع البعث العقاري ضربة قاضية للباعثين ، بالإضافة إلى الزيادات المتتالية التي شهدتها نسبة الفائدة في السوق النقدية وهو ما زاد الطين بلة وشل القطاع، و إجراءات أخرى على غرار معلوم حق التسجيل باعتماد التسجيل بالمعلوم القار ب25 دينار على صفحة البنايات الجديدة المنجزة من قبل الباعثين هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف أدوات عمل القطاع التي تجاوز أغلبها نسبة 100 في المائة علاوة على الأحكام الجبائية وتراجع سعر الدينار التونسي أمام العملة الأجنبية. وجاءت سنة 2020 بفيروس كورونا لتكون بذلك "القشة التي قصمت ظهر البعير" ذلك أن تداعياتها ستكون ثقيلة جدا على هذا القطاع خاصة أن الإجراءات التي أعلنها رئيس الحكومة لم تأت بإضافة عملية إلى القطاع أو بإجراءات مباشرة تتعلق بقطاع البعث العقاري على غرار الإجراءات التي استهدفت قطاع السياحة والمؤسسات المصدرة كليا. انخرام قاعدة العرض والطلب ورغم أن المواطن يعتبر الحلقة الأقوى في قطاع البعث العقاري لكنه بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد في السنوات الأخيرة أضحى هو الحلقة الأضعف والتائه بين القوانين المرتجلة والأداءات المجحفة والأسعار الملتهبة للعقارات الأمر الذي جعل عددا كبيرا من التونسيين "يمتنعون عن شراء المنازل لتشهد بذلك مبيعات الوحدات السكنية تراجعا ملحوظا حيث هوتْ مبيعات الشقق من 400 شقة في الربع الأول من سنة 2016 إلى 70 شقة في نفس الفترة من سنة 2017. وحسب المعطيات التي أعلنتها الغرفة النقابية الوطنية للباعثين العقاريين فإن نسبة المواطنين التونسيين القادرين على الحصول على قرض بنكي لاقتناء مسكن قد تراجعت من 80% سنة 2011 إلى 11.5% سنة 2018 نتيجة تراجع المقدرة الشرائية عموما و ارتفاع عام في أسعار العقارات بنسبة 3.8 في المائة مقارنة بسنة 2018، فقد شهدت أسعار الشقق ارتفاعا ب 2.18 بالمائة، والمنازل بنسبة 9.17 بالمائة، والأراضي المخصصة للبناء بنسبة 8.1 بالمائة وهو ما أدى ضرورة إلى تراجع حجم المبادلات العقارية بنسبة 4.8 بالمائة حسب نشرية المعهد الوطني للإحصاء الثالثة لسنة 2019. -بنوك تئنّ.. ورجع صدى الأنين لدى شركات التأمين ويعتبر القرض السكني من بين أهم الوسائل التي يلجأ إليها المواطن للحصول على سكن لائق خاص به، ويُعد من القروض طويلة الأمد التي تمنحها البنوك للأفراد لتمكينهم من تلبية حاجاتهم في الحصول على السكن. وبهذا يكون للبنوك دور مهم اذ أصبحت هذه الأخيرة تحتل مكانة هامة كأداة لدعم وإنعاش الاقتصاد لأي دولة من خلال القروض التى تمنحها والتي تعد من بين النشاطات المربحة التي تسعى من خلالها البنوك لتحقيق أرباح ملائمة بمخاطر أقل. وحتى تتجاوز البنوك المانحة للقروض العقارية المخاطر المرتبطة بالقرض العقاري كان عليها طلب مقابل منح المقترضين القروض المطلوب بعض الضمانات الملائمة من بينها الضمانات العينية (الرهن بأنواعه) والضمانات الشخصية (الكفالة) من أجل ضمان استرجاع أموالها زائد الفوائد. ويعد التامين على القرض العقاري من بين أهم الضمانات التى تشترطها البنوك المانحة للقروض العقارية على المقترضين حتى يتم الموافقة على منحهم القروض المطلوبة لتمويل مشاريعهم السكنية. وتعود أهمية هذا النوع من التأمين إلى الحماية التي يوفرها فهو يعتبر آلية حمائية بامتياز لصالح البنوك من خطر عدم الوفاء وأداة تحفيزهم على منح قروض جديدة. ولكن في ظل الارتفاع المتواصل لأسعار العقارات وزيادة نسبة الفوائض التي تحتمها البنوك على طالبي القروض السكنية، وانزلاق الدينار التونسي إلى جانب غياب سياسة جدية تأخذ في الاعتبار مصلحة جميع الأطراف المتداخلة، أصبح الحصول على مسكن في تونس حلما صعب المنال، وتراجع بذلك الإقبال على قروض السكن وتبخرت أحلام عدد كبير من التونسيين في امتلاك منزل ليدخل قطاع البعث العقاري في حلقة أزمة أثرت بشكل مباشر على البنوك كما أكده ل'لجريدة' الخبير الاقتصادي معز الجودي الذي بين أن الأزمة العقارية تعصف بالمنظومة البنكية والمالية ذلك أن 5.6 مليار دينار هي قيمة التمويلات البنكية الخاصة بالبعث العقاري وأمام ما يشهده القطاع من تردي تقف البنوك عاجزة ومهددة بمخاطر انهيار المنظومة المالية فالأزمة العقارية يمكن أن تحطم اقتصاد الدولة بشكل كامل، حسب تعبيره. هل من حلول قبل تفاقم الأزمة؟ يتطلب قطاع البعث العقاري الدعم وليس تكبيله بمزيد من الضرائب والأداءات، لذلك مطلوب التدخل الفوري والعاجل من قبل الحكومة و مجلس النواب والنظر في سبل إصلاح المنظومة الجبائية العقارية، وذلك بالتخفيض في نسبة الأداء على القيمة المضافة. ويجب على الحكومة العمل على مراجعة برنامج التشجيع على السكن الجديد الذي أظهر قصورا واضحا في استيعاب المشكلة المزمنة خاصة على مستوى التمويل البنكي، فمن غير المعقول أن نجد تمويلا على فترات تصل إلى عشرين وخمس وعشرين سنة مع نسبة فائدة كبيرة تضاف إليها نسبة الفائدة المديرية المرتفعة بطبعها بالرغم من وجود ضمان لخلاص القرض المتمثل في العقار نفسه.