تركت ثورة الطلاب في فرنسا على المفاهيم السياسية والعائلية والتعليمية الجامدة (أحداث أيار 1968) أثراً كبيراً في تاريخ جيل بأكمله، هو الآن يشارف على سن التقاعد، ولا تزال تلك الأحداث العاصفة التي قلبت فرنسا رأساً على عقب، تحتل مكاناً متميزاً في المخيل الاجتماعي الفرنسي، وتثير جدلاً حامياً بين من يرونها هبّة للدفاع عن الحرية، ومن يعتبرها رمزاً للانحطاط، منهم الرئيس نيكولا ساركوزي الذي دعا الى "تصفية" إرثها. وتميّزت الذكرى الأربعون لأحداث أيار في فرنسا بصدور عدد كبير من المنشورات، بينها 100 كتاب، وملحقات خاصة في الصحف والمجلات وبرامج تلفزيونية، ما يدل على استمرار الاهتمام بتلك الحِقبة المؤسسة في تاريخ البلاد المعاصر. واعتبر عالم الاجتماع جان بيار لوغوف، صاحب كتاب "أيار 68 ميراث مستحيل" أن الثورة الطلابية التي تسببت في إضراب عام شلّ حركة البلاد طوال شهر، إكتست أبعاد أسطورة توجه فيها معسكران هما "حراس الهيكل" و"الناقمون"، معتبراً أن "المجتمع الفرنسي يتردد بين الإعجاب بالتمرّد ورفضه، ولا يتمكن من اتخاذ المسافة المناسبة من الحدث لإدراجه في التاريخ". تبقى، بالطبع، خلافات التفسير قائمة: إذ يثابر بعض وجوه الصف الأول على احتلال استديوات الراديو والتلفزيون كما سابقاً في جامعة السوربون، ويستمر بعض المنضوين تحت راية السوق في جعل أيار 68 منطلقاً لتصحيح مسارهم. لكن ذاكرة ملايين المُضربين الذين شلّوا البلاد قد استعادت أخيراً موقعها في النقاش. وهكذا تحتل نضالات العمّال والفصائل السياسية الصغيرة والأقليات الجنسية والحركات المناهضة للاستعمار أو العمّال "الاجتماعيين" صلب سلسلة من المؤلفات ذات الهدف الموسوعي الى حد ما، في إعادة تقييم لمساهمة كل طرف من الأطراف في هذه الحركة. في أحداث مايو 68، اضطلع المثقفون بدور طليعي من أجل تعبئة الرأي العام لصالح أفكار كانوا يؤمنون بصوابيتها، واستخدموا شهرتهم المكتسبة في مجال العلوم أو الفنون أو الثقافة. إضافة الى ذلك، فقد قام هؤلاء المثقفون بأدوارهم الرسولية، منذ قرنين من الزمن في الدول الحديثة، على إعطاء حركة المجتمعات معناها والإضاءة على الطريق التي توصل الى المزيد من الحرية والأقل من الاستلاب. ونذكر على سبيل المثال التحليلات الاجتماعية المعمقة التي قدمها كبار الفلاسفة في فرنسا مثل جان بول سارتر ورولان بارت وميشال فوكو ولوي ألتوسير وليفي شتراوس وبيار بورديو وكورناليوس كاستورياديس وجاك داريدا، واختلاطهم بالطلاب والعمال. فقد وقف الجميع ضد المؤسسات المحافظة، سواء منها الديغولية التي كانت تخنق المجتمع بوصفها مجسدة للدولة الكلية، أي نوع من المونارشية الجمهورية، أو مؤسسة الحزب الشيوعي التي اتخذت موقفاً مناهضاً للتحرك الطلابي، مؤيدة الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا. إذ اعتبر الحزب رجعياً همّه الوصول الى السلطة. غالباً ما يكون الاحتفال بذكرى ما، محاولة لإعادة لقراءة الماضي في ضوء تحديات الحاضر والاحتفال بذكرى 1968 لا يشذّ عن هذه القاعدة. فتحت مرجعية "1968" هذا، لقد تم جمع جداول بالتحركات الاحتجاجية (تظاهرات، احتلال مبان، مسيرات، احتجاز أشخاص، ومواجهات مع قوى الأمن) المتشعّبة بشكل ملموس، والتي استُخدمت فكرة "الثقافة المضادة"، للربط في ما بينها، بمفعول رجعي. في الواقع، يبدو ان العديد من تحركات ال68 لم تبدأ في ذلك العام: ومن الأدق الحديث عن "سنوات ال68" لوصف نزاعات اجتماعية متعددة بلغت ذروتها في ذلك التاريخ الذكرى. ربما تتضح الديناميكية الشاملة أكثر، من خلال مقارنة مايو 68 بأحداث مشابهة، كربيع الثورات الديموقراطية في أوروبا التي تحدث عنها ماركس في العام 1848. فجميع الفرقاء لا يشهدون على تحقق آمالهم، لكنه لا يمكن إلا أن يكونوا قد تأثروا بتلك الظروف. وهذا ما سيثبتونه في الواقع من خلال نشاطاتهم اللاحقة، في الاستثمار السياسي، التربوي، الصحي والاجتماعي، المسرحي، والمطبخي... وغيرها. يتم تصوير ثورة أيار/ مايو 68 دورياً، على أنها مؤامرة (مسيرة من موسكو أو واشنطن)، أو أنها البروفا الأخيرة استعداداً للثورة الكبرى، أو أزمة شبابية عالمية، أو صراع أجيال، أو أزمة نمو الجامعات، أو تحدي أوديبي، وتمرد على الحضارة، أو صراع طبقي (قديم أو جديد)، أو أزمة سياسية، إن أيا من تلك الصور الشمولية لها ليست كافية لتفسير سيرورة تلك الأحداث. لا شك أن أحداث مايو 68 تأثرت بشكل قوي بالحرب التي كانت دائرة رحاها في فيتنام، ولا سيما في ظل القصف العنيف والمدوي من الطائرات الأميركية العملاقة ب 52، إذ دخلت باريس التاريخ أيضاً من باب الثورة الفيتنامية، حيث كانت العاصمة الغربية الوحيدة التي وافق وفد فيتنام الشمالية على الجلوس مع الأميركيين لبدء المفاوضات التي أنهت الحرب. وسط هذه الظروف، كانت أفكار تعبّر في الوقت نفسه عن ترقب وحي جديد (الثورة) غير متوقع، وعن الحساسية النقدية إزاء المسؤولين عن كافة "الخيانات" للتوقعات التي استثمرت في المسيحانية المناصرة للمساواة التي اتسمت بها الحركة العمالية. فقد قدمت هذه الأفكار للطلاب صورة للآخر بألوان توقعاتهم وأحلامهم (الاتحاد السوفياتي وتحوله الى قوة "امبريالية اشتراكية"، يوغوسلافيا، صين ماوتسي تونغ والثورة الثقافية، إنما أيضاً العالم الثالث، من أميركا اللاتينية الى كوبا)، وتجسدها بصورة شخصيات مخلصة (التشي غيفارا أو فيدال كاسترو). هكذا تختصر تلك النضالات، تلك البلدان وتلك العلاقات البعيدة أمل جيل من الناس، وتتحول فيتنام الى مرجع لا يمكن تفاديه في برلين وباريس وميلانو.