سيناريوهات الانتخابات الليبية ستغري النهضة بالتحالف مع قيادات علمانية هل تمكن المؤتمر التاسع لحركة النهضة من حسم القضايا الهامة التي كان ينتظرها نوابها وكذلك الطبقة السياسية؟ وهل أن الحركة بتركيبتها الجديدة قادرة على مواجهة الاستحقاقات الانتخابية القادمة؟ وأخيرا هل ستثبت الحركة أن حزبا له مرجعية إسلامية قادر على التعايش مع ديمقراطية حقيقية لا شكلية؟ وما هو مستقبل التيار الإصلاحي داخل حركة النهضة في ظل توازنات المؤتمر التاسع وتداعياته؟ أسئلة تولى الدكتور أعلية العلاني الباحث الجامعي المختص في العلوم الإسلامية الإجابة عنها في حديث ل«الصباح» يتمحور أساسا حول قراءته لابرز التوجهات والتحالفات المستقبلية للمؤتمرالتاسع لحركة النهضة. اعتبر الدكتور العلاني أن أبرز ماتضمنه البيان الختامي هو التأكيد على مدنية الدولة وديمقراطية النظام والدعوة إلى نظام برلماني فضلا عن تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني وتجريم المس من المقدسات علاوة على المطالبة بمنع رموز الحزب الحاكم القديم من الترشح إلى الانتخابات القادمة. وبخصوص اللوائح فقد تم التعرض إلى بعض محاورها، ووعدت القيادة بنشرها خلال أسبوعين لإدخال بعض التنقيحات التي طلبها المؤتمرون.
مؤتمر الحسم المنقوص في تقييمه لنتائج المؤتمر اعتبر العلاني أن نواب المؤتمر ال1103 لم يشكلوا كتلة متجانسة رغم حدة الرهانات المطروحة فقد كان من وجهة نظره هاجس التجميع طاغيا، لكن هاجس النقد والمحاسبة كان أيضا حاضرا وبقوة في هذا المؤتمر. كما أن القيادة التاريخية تمكنت من ترويض المنتقدين، لكنها ستضطر إلى استخلاص النتائج حتما في المحطات القادمة وخاصة خلال المؤتمر الاستثنائي بعد سنتين، فتُغيّر من إستراتجيتها وأدائها. وأضاف العلاني أن الحركة لم تستطع البت في الوثيقة المذهبية أو ما يعبر عنه بالرؤية الإديولوجية لأن ذلك سيؤدي إلى تفجير التناقضات الداخلية بين المتشددين والمعتدلين خاصة وأن التيار الأول ما زال يحظى بعطف النواب. وقد لمس العلاني ذلك من خلال حصول الصادق شورو وعدد من زملائه المحسوبين على الجناح المتشدد على مراتب متقدمة في انتخابات مجلس الشورى (مثلا جاء الصادق شورو في أول الترتيب)، لكن الرأي العام والمحللين يرون في عدم الحسم في الأرضية الإيديولوجية بمثابة إبقاء للغموض الذي يخص المرتكزات النظرية للحركة والتي تعتبرحسب الوثيقة السابقة قريبة من الفكر السلفي، وهروبا من مساءلة التيارات السياسية الأخرى وفقا لما أدلى به المتحدث. وأشار المختص في العلوم الإسلامية إلى أن المؤتمر لم يحسم كذلك بين الدعويّ والسياسيّ وهي مسألة مفصلية في العمل السياسي، إذ لا يمكن الحديث عن مدنية الدولة والديمقراطية التعددية في ظل وجود هذا التداخل. كما أن المؤتمر حسم بصعوبة في شكل اختيار رئيس الحركة، إذ كان التيار الإصلاحي يضغط بقوة لكي يتمّ انتخاب رئيس الحركة من مجلس الشورى لا من المؤتمر. كما كان هذا التيار يرغب في انتخاب القيادة التنفيذية لا تعيينها. لكن أصوات هذا التيار لم تمكنه من كسب الرهان (460 صوتا مقابل 505). وتذكر هذه الحادثة برفض الرئيس الأسبق بورقيبة في المؤتمر التاسع للحزب الدستوري الحاكم سنة 1971 توصيات المؤتمر بانتخاب الديوان السياسي عوض تعيينه وهو ما أدّى إلى انشقاق داخل الحزب الحاكم آنذاك بخروج أحمد المستيري وجماعته. من جهة أخرى أورد العلاني أن حركة النهضة حرصت على ترك الحسم في عدّة مسائل من أجل تفادي الانشقاق، ومن أجل اللعب على غموض الخطاب لاستجلاب المزيد من المتعاطفين وطمأنة حلفائها من الترويكا والأحزاب الأخرى بتوجهها المدني والديني المعتدل. استعدادا للانتخابات من جهة أخرى أكد العلاني أن هناك هدفين بارزين من وراء عقد المؤتمر وهما تجميع الطيف الإسلامي والخروج بقيادة شرعية منتخبة، ثم الاستعداد للانتخابات المقبلة. ولذلك كان تأكيد رئيس المؤتمر في الندوة الصحفية على قرار المؤتمر بالتجند الأقصى لربح الانتخابات القادمة متزامنا مع دعوته للتصدي لعودة رموز الحزب الحاكم القديم إلى العمل السياسي، في إشارة لحزب «نداء تونس» الذي يرأسه الوزير الأول السابق الباجي قائد السبسي ويشمل أطيافا ليبرالية ووسطية ودستورية.. واعتبر العلاني ان تأكيد البيان الختامي على هذه المسألة يؤشر إلى تخوف جديّ من الحزب الجديد الذي بدأ يجمع حوله نخبة متمرسة بالحكم وانفتاحه وقدرته على تشكيل جبهة عريضة قادرة على افتكاك المراتب الأولى. كما أشار إلى أن تأكيد حركة النهضة على تمسكها بالتوافق وإعلانها العمل على توسيع الحكومة يندرج في الإعداد لشكل تحالفات المستقبل. ويبدو أن سيناريو الانتخابات الليبية سيجبر النهضة على إعداد طبخة للتحالفات مع تيارات علمانية وربما سلفية أكثر إغراء لشركائها لأن تجربة الترويكا في عيون عديد المحللين فاشلة. وربما يضطر حزبا المؤتمر والتكتل في الانتخابات القادمة -وفقا للعلاني- إلى أن ينصهرا في جبهة انتخابية موحدة مع النهضة، لأنه يتوقع أن يحصلا على نتائج ضعيفة جدا إذا ترشحا بمفردهما. وسنشهد بالتالي في انتخابات 2013 تنافسا قويا بين قطبين: جبهة تضم النهضة وحلفاءها من الترويكا والسلفيين وربما حزب التحرير، وجبهة تضم حزب نداء تونس والمتحالفين معه من الليبراليين ووسط اليسار. وهو ما يقترب من السيناريو الليبي الذي أصبح مغريا للعديد من الفاعلين السياسيين. وخلص الدكتور العلاني إلى القول بان نسق التغيير في المؤتمر التاسع لحركة النهضة لم يكن بالشكل المطلوب. فالقيادة التاريخية لم تراع متطلبات العمل السياسي التي تستوجب خطابا أكثر تسيّسا، فمفردات الخطاب الديني في اللوائح والنقاشات تطغى على مفردات الخطاب السياسي، وحتى أشكال التنظيم الديني نجدها تطغى على أشكال التنظيم السياسي (استعمال مصطلح مجلس شورى عوض مجلس وطني أو لجنة مركزية). بالإضافة إلى طريقة الترشح للمناصب التي لا تعتبر مقبولة في عرف الأحزاب السياسية العصرية (الترشح للمناصب في الحركة يتمّ عبر التزكية لا الترشح المباشر).. وأضاف العلاني أن الأسلوب المركزي الذي تدار به الحركة من خلال قانونها الأساسي الجديد والذي يعطي لرئيس الحركة سلطات واسعة يذكرنا بالأحزاب الإديولوجية التي هي أقرب إلى الاستبداد منها إلى الديمقراطية. وهو ما يفرض على الحركة مستقبلا أن تحدث توازنا حقيقيا بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية داخل الحركة وأن تخفف من عبء الأديولوجيا وتنتهج سياسة أكثر براغماتية وأن تسمح بانتعاش ثقافة الأجنحة بداخلها وأن تُنمّي سياسة التوافق بشكل جدي وحقيقي لأنها عنوان نجاح المرحلة الانتقالية. ثمّ إن مستقبل التيار الإصلاحي داخل حركة النهضة سيتضح أكثر خلال المؤتمر الاستثنائي القادم من خلال تموقعه التنظيمي وإسهامه السياسي والفكري ويُتوقع أن يصبح تيارا أغلبيا بحكم التقارب الحالي بينه وبين التيار المحافظ. تجدر الإشارة إلى أن الدكتور العلاني قد اكد ان نجاح المرحلة الانتقالية بتونس رهين باقتناع كل الأطراف السياسية بالحفاظ على نمط المجتمع القائم على الحداثة والتسامح والإسلام الوسطي، ورهين كذلك بالإيمان بأن تحقيق الديمقراطية في تونس يمر عبر ثلاث محطات متشابكة لا تنفصل الواحدة عن الأخرى وهي: انتخابات شفافة، ونشر ثقافة المواطنة، ومجموعة حاكمة قوية تقابلها معارضة قوية، لأن حصر الديمقراطية في انتخابات شفافة فقط لا يحقق الديمقراطية. فالأحزاب النازية والفاشية صعدت بآليات الانتخاب فقط بينما كانت توجهاتها وبرامجها متعارضة مع الديمقراطية. ثم إن مصلحة البلاد تقتضي أن يتشكل قطب ثالث يضمّ التيارات التي لا تتماهى بالضرورة مع القطبين السابقين، يكون له دور بارز في تعديل التحالفات ودفع العملية الديمقراطية بالبلاد.