تجاوبا مع تعقيب الأخ ناجي الجمل بخصوص مقالي حول رد فعل حركة النهضة على إعدام الطاغية صدام، أود لفت الانتباه إلى النقاط التالية: 1- أشكر الأخ ناجي على رده المؤدب والراقي الذي انصرف إلى نقد الأفكار، لا إلى التجريح الشخصي، وهو أمر كنت أفتقده للأسف عند بعض الإخوة من قيادات وأعضاء حركة النهضة، وأتمنى أن يتواصل هذا الالتزام، على نحو يمكن أن يثري فعلا الساحة الفكرية والسياسية الوطنية، ويفيد القراء أينما كانوا..شكرا أخ ناجي. 2- تضاريس علاقتي مع حركة النهضة بسيطة جدا، فأنا لم أكن غير عضو بسيط جدا لفترة وجيزة امتدت من سنة 1989 إلى غاية 1991، وهو تاريخ مغادري أرض الوطن إلى المغرب الأقصى لإكمال دراستي الجامعية، غير أن النظام الحاكم في تونس أبى إلا أن يعاقبني على جرم الانتماء ثلاث سنوات بعد ذلك التاريخ، مما أوصد في وجهي أبواب العودة، حيث صدر ضدي حكم غيابي صدر عن المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد، بأربع سنوات ونصف سجنا وخمس سنوات مراقبة إدارية، وهو الحكم الذي طال آلافا من قادة وأعضاء الحركة الإسلامية في تونس خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين. 3- طال عائلتي طيلة سنوات التسعينيات أيضا، كما هو شأن عائلات تونسية كثيرة، ظلم كبير وضنك، وحرمت شخصيا من رؤية والدي وأشقائي وبلدي لفترة قاربت العشر سنوات، وهو أمر يسري أيضا على آلاف التوانسة، و ما يزالون. 4- نلت عفوا رئاسيا خاصا من الرئيس زين العابدين بن علي يوم 11 نوفمبر 1998، أي في يوم عيد ميلادي التاسع والعشرين، وأنا شاكر للرئيس بن علي هذا العفو، كما أنا شاكر للأخ والصديق محمد الهاشمي الحامدي، الذي قاد في تلك الفترة مبادرة مصالحة، اعتقد أنها لم تستغل إيجابيا من قبل قيادة حركة النهضة، وأنها كانت فرصة لغلق ملف مؤلم تضرر من ورائه عشرات الآلاف من التوانسة. 5- ليس لي أي مشكلة شخصية مع الشيخ راشد الغنوشي، الذي قابلته لمرة واحدة في صفاقس في حفل خروج الشيخ الحبيب اللوز سنة 1988، ولا أظنه يذكر أنني قابلته، فقد كنت حينها شابا صغيرا لا يتجاوز عمره تسعة عشر عاما، ومن المفارقات أن عريف الحفل ذلك اليوم كان الأخ الدكتور محمد الهاشمي الحامدي. 6- ومن أبرز الأدلة على أنه ليست لي مشكلة شخصية مع الشيخ الغنوشي، أنني كنت أول من تصدى لمبادرة ليبرالية استهدفت محاكمته دوليا بتهمة التحريض على الإرهاب، ولم أجد غضاضة في إنصافه كمفكر إسلامي، كان أحد رواد فكرة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، تماما كما لا أرى غضاضة في نقده بشدة كقائد سياسي، حيث اعتقد أنه كان موفقا وسديدا في مواقف كثيرة اتخذها وكانت نتائجها كارثية على الوطن والحركة. 7- لا شك أن الصغار يكبرون، و قد سنحت لي دراستي الحقوق والفكر الإسلامي، و استعداداتي الشخصية للنظر والتفكر، فرصة التأمل في تجربة الحركة الإسلامية في تونس والعالم العربي الإسلامي، ومراجعة الكثير من قناعاتي الفكرية والسياسية، فأنا من المؤمنين بأن التحول والتغير سمة إيجابية لدى البشر، ونعمة إلهية تستحق التقدير لا الاستهجان والمعارضة. 8- و من هذه القناعات التي توصلت إليها خلال السنوات الأخيرة، أن قيادة حركة النهضة التونسية، وعلى رأسها الشيخ راشد الغنوشي، يجب أن تتغير لتفسح المجال أمام قيادات جديدة لا تحمل في رحلتها أثار المحنة، وذلك كجزء من عملية تستهدف البحث عن حلول للأزمة التي ما تزال مطروحة، فالذين يصنعون الأزمات لا يمكن أن يكون جزءا من حلولها. 9- ودعوتي لتغيير قيادة النهضة، ينطلق من إيماني بأن لكل تونسي الحق في نقد أي حزب تونسي وأي سياسي تونسي، فالذين يعتقدون أن حق نقد النهضة مقصور على قادتها وأعضائها إنما يعبرون عن تلك العقلية التي نشأت وترعرعت في دهاليز التنظيمات السرية، والتي ما تزال تؤمن بضرورة الازدواجية. النهضة جزء من الحياة السياسية التونسية، تتأثر وتؤثر في هذه الحياة، وهي بالتالي جزء من الشأن الوطني يهم كل الوطنيين. 10- لقد شكلت حركة النهضة عاملا وتجليا من عوامل وتجليات الأزمة التي عصفت بالحياة السياسية التونسية طيلة العقود الثلاثة الماضية، وبالتالي فإن أي حديث عن حل للأزمة، أو أي محاولة لدفع حركة الإصلاح الوطني والديمقراطي في تونس، لا بد وأن يتطرق بالضرورة إلى حركة النهضة، بل إن ملف الإسلاميين يعتبر في نظري، مفصليا في أي ترتيب مستقبلي لوجهة السفينة الوطنية. 11- أقدر أن أي سياسي وطني في تونس، يرغب في أن يرى حركة النهضة حزبا ديمقراطيا عصريا حداثيا، حتى وإن كانت مرجعيته الفكرية دينية الطابع، فقد ساهمت الأحزاب الديمقراطية المسيحية على سبيل المثال في قيادة أوربا إلى جانب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، إلى معايشة أفضل حقبة عاشتها الديمقراطية منذ ظهورها في بلاد الإغريق. 12- ولكي تكون النهضة حزبا ديمقراطيا عصريا حداثيا، فإن عليها أن تجري في أقصر وقت ممكن، تغييرات جذرية على مشروعها الفكري والسياسي، وتبديلات جوهرية واضحة وحاسمة على هياكلها ومؤسساتها، كما عليها أن ترسل الشيخ راشد الغنوشي إلى التقاعد لكي يشتغل بالفكر والكتابة، أو بأي شأن آخر يريد، وأن تؤسس لحالة سياسية جديدة قائمة على قيم المحاسبة والمسؤولية والعلنية والتداول على المواقع القيادية، وأن تغادر نهائيا دائرة التنظيمات السرية والأجندات الخفية والأجهزة الخاصة والمجموعات الأمنية والعسكرية، وأن تشجع أعضاءها على الشفافية والتفكير الحر وعدم تقديس الشيوخ وعدم الخوف من التجديد والولاء للوطن، وأن يكونوا مسلمين وتوانسة أولا قبل أن يكونوا أعضاء في حركة سياسية، أي أن يكون ولاؤهم لتونس في المقام الأول. 13- وأنا على يقين بأن حركة النهضة تختزن الكثير من الطاقات البشرية والعلمية والإبداعية التي يمكن أن تفيد تونس وتخدمها وتساهم في نمائها وازدهارها، لكن الاستفادة من هذه الطاقات معطلة بفعل ضيق أفق القيادة وتمسكها بمناهج عمل أكل عليها الدهر وشرب، وبتوجهات سياسية مهترئة محنطة لا تحاسب عليها، من قبيل نعي الطاغية صدام وإبداء التعاطف معه. 14- آمل يا أخ ناجي، منك ومن كل الإخوة المخلصين لهذه الحركة، أن لا يكون إخلاصهم تقليدا بل تجديدا، وأن لا يكون ولاؤهم لأشخاص بل للأوطان والأمة والإنسانية. 15- مع خالص المحبة.