بدا لي حافظ الميرازي مذيع قناة الجزيرة المستقيل، متفائلا اكثر من اللازم، وهو يتحدث عن سقف الحرية المرتفع لقناته الخاصة، التي سيمكنها من تقديم مادة إعلامية بالمعايير المهنية، وهو تفاؤل ليس في محله من وجهة نظري، والتي أتمني ان تخيب هذه المرة، ويثبت لي ان الحداية يمكن ان تُلقي كتاكيت! لقد نظمت (ساقية الصاوي) لقاء للإعلامي المصري العائد من واشنطن، وهو لقاء (شرفته) بحضوري، وكانت هذه هي المرة الأولي التي ادخل فيها هذا المكان، والذي قيل انه كان (مقلبا للزبالة)، حولته وزارة الثقافة الي مجمع ثقافي، الأمر الذي يؤكد قدرتنا علي تحويل الفسيخ الي شربات، اذا توفرت لدينا الإرادة، وهي وان كانت متوفرة في وزير الثقافة فاروق حسني، فإنها لم تتوفر في وزير الإعلام انس الفقي، الذي هبط علي الوزارة بالباراشوت، وسط ذهول المشاهدين، ولعله لم يصدق نفسه حتي الان، وربما يقضي يومه مدندنا بالأغنية الشهيرة: لا اعرف من اين أتيت، ولكني أتيت.. وهذا هو المهم. عندما علمت بخبر اللقاء شددت الرحال الي ساقية الصاوي في الموعد المضروب، وكنت أظن ان الميرازي سوف يحاضر فينا، لكني اكتشفت ان اللقاء أشبه ما يكون بالحوار التلفزيوني، وكانت المحاورة إحدي السيدات التي تبدو من حيث كلامها انها مهمة: فهي تعتقد، وتتصور، وتظن، وتقول: في اعتقادي.. وفي تصوري، وبرأيي، وقد استعرضت مواهبها الإعلامية، ربما ليكتشفها حافظ فيستعين بها في قناته، لتقوم بعملية تطفيش للمشاهدين، فالكلام يخرج من بطنها مرهقا، ومفككا، ومبعثرا، فطريقتها في الحديث اقرب ما تكون الي طريقة مني الشاذلي، مقدمة برنامج (العاشرة مساء) علي قناة (دريم) الخاصة، والتي تعطيك إحساسا انها تقدم برنامجها بعد ان تناولت وجبة عشاء دسمة، وبعد جوع، فأكلت حتي سحبوها من علي المائدة سحبا، وان كانت مقدمة لقاء حافظ الميرازي تتفوق عليها في المساحة التي شغلتها في الحديث، ربما لانها تعتقد ان هذا الحضور الكريم جاء ليستمع الي حضرتها! لقد (فقعت) مقدمة اللقاء مرارتنا، لكن حديث حافظ الميرازي الممتع هون علينا نكد الدهر، وان اختلفنا معه في تأكيده علي ان الإعلامي ينبغي ان يكون محايدا، مع ان الحياد أشبه ما يكون بالغول، والعنقاء، والخل الوفي، ليس فيما يختص بالإعلام فقط، ولكن حتي في مجال البحث العلمي في العلوم الإنسانية، وليس في عالمنا العربي المتخلف، ولكن ايضا في الغرب المتقدم! في البداية تصورت ان هذا اللقاء هو أشبه ما يكون ببرامج (التوك شو)، الذي تقوم فكرته علي الاستعانة بمجموعة من الشباب مهمتهم التصفيق بأوامر من المخرج، علي النحو الذي بدا فجا في برامج (هالة سرحان)، لاسيما وان كاميرا قناة النيل الثقافية كانت منصوبة، وتصورت انه بعد انتهاء اللقاء سيمر علينا مارا بمكافأة الحضور والتصفيق، لكن أحدا لم يصفق، كما ان معظم الحضور هم إعلاميون وسفراء وكتاب، والمعني ان مقدمة اللقاء رأت ان تعاملنا معاملة الرهائن، فما دمنا قد جئنا لنستمع الي حافظ، اذن فلنستمع إليها بالمرة، لعل أحد الحضور يكتشفها، ان تعذر ذلك علي الميرازي، بسبب ساعته البيولوجية، التي لا تزال مبرمجة علي العمل الإعلامي الرصين في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومن حولها، وربما انه متأثر بالكتب هناك اكثر من تأثره بالواقع. انشغلت في البداية لأعرف محل مقدمة اللقاء من الإعراب، وهل هي احتلت هذا الموقع بوضع اليد، ام أنها مسؤولة في ساقية الصاوي، ام لكونها مذيعة من جيل حافظ في إذاعة (صوت العرب) قبل ان يهاجر الي واشنطن، وان كنت من المؤمنين ان مذيعي الإذاعة المصرية، افضل من مذيعي التلفزيون .. أتحدث عن القاعدة. ولم أتمكن علي اية حال من معرفة محلها من الإعراب، فأخذت بحق الحضور منها (حلف)، فعندما جاء موعد أسئلة الجمهور، وقررت ان تتلوها هي بالنيابة عنهم، طلبت منها ان تترك كل سائل يطرح سؤاله بنفسه، وعندما اعترضت لان من يسأل قد يشغل فترة زمنية اكبر، قلت لها ان أي مدة للسائل في ترديد سؤاله لن تكون اكبر مما يمكن ان تشغله هي، وكان واضحا ان القاعة معي، فسمحت علي مضض بذلك، فأخيرا وجدت نفسها مضطرة لان تتخلي عن الميكروفون، وان كان التخلي لم يكن كلية، فقد كان المتحدث يلقي سؤاله ثم يضعه بعيدا عنها، فكانت تقوم وتسحبه لتعلق عليه، علي الرغم من انها تبذل جهدا ملحوظا في ذلك، لان الله منحها بسطة في الجسم! لقد توقعت ان تكون كاميرا (الجزيرة مباشر) حاضرة، لاسيما وأنها في كثير من الأحيان تغطي ندوات اقل في الأهمية، وفي بعض الأحيان يكون أصحابها مجهولين، لكن من الواضح ان النفوس فيها شيء، وهذا الشيء لم أتمكن من معرفته، فمعلوماتي ان حافظ استقال بإرادته، فضلا عن انه وبعد الاستقالة حضر مهرجان الجزيرة الذي تم عقده مؤخرا، لكن خبرا نشره موقع الجزيرة توك علي الإنترنت يفيد إصابة الميرازي بالسرطان، أزعج بعض الإعلاميين، وجعل هناك من يسألني عن مدي صحة الخبر، وعندما اتصلت هاتفيا بحافظ أكد لي انه إشاعة، وقمت بالرد علي السائل برسالة إلكترونية، فحملني مسؤولية تكذيب هذا في هذه الزاوية، ورأي البعض ان الموضوع فيه (ان). لم أسأل حافظ في المؤتمر فقد اكتفيت بإحساسي بالنجاح لسحب الميكروفون من اليد القابضة عليه، لكن زميلنا معوض جودة بقناة الحرة سأله حزمة من الأسئلة المهنية، كان أهمها من وجهة نظري ذلك السؤال الخاص باعتقاده عن سقف الحرية الذي يمكن ان يسمح به أهل الحكم في مصر لهذه الفضائية، وهل يعتقد انهم من الممكن ان يتحملوا محطة فضائية تنوي الانغماس في الشأن المصري المحلي، وهم الذين ينتفضون لمجرد ان قناة الجزيرة تبث خبرا او خبرين عن مصر في الأسبوع؟! لقد أحال حافظ الميرازي السائل الي القوم، ثم تنبه الي انه معني بالإجابة، فلا يعقل انه ترك واشنطن، واستقال من الجزيرة، ليأتي الي مصر ليشتري سمكا في الماء، فالمفروض ان يكون قد حسبها، وان الحسابات مبنية علي واقع وليس علي أماني، فأستطرد مؤكدا ان الغضب من الجزيرة له مبرراته، باعتبار ان الاغراب ليس لهم حق التدخل في الشأن المصري، لكن الأمر سيكون مختلفا عندما يكون خاصا بقناة مصرية! أتمني ان تكون هواجسي ليست في محلها، وان مردها الي أنني متشائم بطبعي، ربما خشية ان أتفاءل فأموت، وهناك (نكتة بايخة) تقول ان هناك متشائما تفاءل ذات يوم فمات، وهي شبيهة بنكتة أخري تقول مرة واحدة شيوعية استحمت - أي أخذت حماما - فماتت. الاغراب في الدوحة معذرة، فناقل النكات البايخة ليس ببايخ، وما يعنيني ان الغضب المصري ليس لان الأغراب في الدوحة يدسون أنوفهم بين البصلة وقشرتها، فقد كانت ضمن شروط منح الترخيص القانوني لقناتي دريم والمحور ألا تبثا نشرة أخبار، لان نشرة الأخبار هذه من علامات السيادة الوطنية، ولهذا ينبغي ان تكون مقصورة علي التلفزيون الرسمي، لانه اذا كانت السيادة تحتم ان تبدأ نشرات الأخبار بخبر حول نشاط الرئيس ولو كان افتتاح كوبري، او وضع حجر أساس لسنترال مفتوح، او اتصال تليفوني بنظيره في بوركينا فاسو لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك، ولو كان الخبر الثاني هو قيام حرب البسوس الثانية، فان القنوات الخاصة لن تفعل هذا، ولم يشفع للقناتين ان ملكيتهما لاثنين من رجال الأعمال المقربين! عفوا لهذه الوصلة النكد، ونعود الي الكلام المبهج، فحافظ في معرض حديثه عن قضية حقوق المرأة قال مازحا ان رجلا اعلن انه يترك لزوجته الأمور الخفيفة بينما هو مشغول بالقضايا الكبري، فتربية الأولاد، ومتابعة دراستهم، وكل أمور المنزل هي فقط مسؤولية الزوجة، أما هو فمهتم بقضايا الحرب الكونية، وثقب الأوزون والاحتباس الحراري، وهنا انتفضت مقدمة اللقاء كمن لدغها الثعبان الأقرع، وقالت لا أنا لست معك فقضية الاحتباس الحراري قضية مهمة خالص، وخطيرة خالص، وفزيعة خالص (تقصد فظيعة ولكن لزوم الرقة جري للكلمة ما جري)! وعندما تحدث حافظ عن تجربة (صوت امريكا)، تدخلت المقدمة في الموضوع وقالت أنها لم تستمع الي هذه الإذاعة ولو مرة، واندهش الحضور، وتصورت انها تريد ان تؤكد علي ان وطنيتها الخالصة (خالص)، حالت بينها وبين ترك الإعلام الوطني وتلفزيون الريادة الإعلامية، الي إعلام خصوم الأمة، لكن من بجواري نبهني الي انها تريد ان توحي انها صغيرة في السن، فلم تعاصر راديو (صوت أمريكا). وقد قال الميرازي ان هذه الإذاعة توقفت وان الموجود الان هو (راديو سوا)، فقالت أنها لم تستمع إليه، ولاني (مفلوت العيار) بالفطرة، وبحسب ما كتبه هنا زميلنا حسام الدين محمد من ان لساني طويل، فقد انسحب من لساني معلقا: ان راديو سوا ليس موجها لكبار السن من أمثالنا، فهو موجه الي الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 19 سنة! لقد انتظرت ان أصافح حافظ الميرازي عقب اللقاء لكن قناة النيل الثقافية اختطفته ووقف مذيعها يسأله وقد استمر في طرح السؤال الأول عشر دقائق ربما ليستعرض مواهبه الإعلامية.. فانصرفت! عموما أتمني من أهل الحكم ان يحرجوني ويوافقوا لقناة حافظ الميرازي علي سقف للحرية مرتفع حتي يمكن لهم ان يتغنوا بالفكر الجديد الذي يتبناه الحزب الحاكم منذ ان دان لجمال مبارك!فضائية