مع ان سكان ايرلندا لا يمثلون اكثر من واحد في المائة من عدد سكان الاتحاد الاوروبي البالغ عددهم نحو أربعمائة وتسعين مليون نسمة موزعين على سبعة وعشرين بلدا فقد كان لنتائج الاستفتاء الايرلندي الذي اعلن رفض معاهدة لشبونة لاصلاح مؤسسات الاتحاد الاوروبي وقعه الشديد في مختلف العواصم الاوروبية التي رات في هذا الخيار بوادر ازمة ثقة جديدة تهز دول الاتحاد وانتكاسة للمشروع الاوروبي وتراجعا لمصداقية اوروبا في الداخل والخارج بما يجعل القمة الاوروبية المرتقبة الاسبوع القادم في مواجهة سلسلة من الرهانات التي لا يستهان بها لبحث البدائل المطلوبة في اعقاب الاستفتاء الايرلندي. صحيح ان هذا الاستفتاء بالسلب جاء ليعيد الى الاذهان ازمة مماثلة قبل ثلاث سنوات كان افرزها الموقف ان الفرنسي والهولاندي الرافض أن لمشروع الدستور الاوروبي وما اثاره من جدل ومخاوف في مختلف الاوساط السياسية والديبلوماسية الاوروبية بشان الاندماج والتكامل الاوروبي الا ان الواقع ان ما حدث لم يكن ليمنع دول الاتحاد الاوروبي من مواجهة التحديات القائمة ورغم الاختلافات الاجتماعية واختلاف اللغة والعقيدة ورغم كل الصراعات العرقية الدموية التي عصفت باوروبا في الماضي فقد استمرت الدول الاوروبية في جهودها لتوحيد عملتها ودعم مصالحها الاقتصادية والتجارية وفتح حدودها امام مواطنيها بما يمكن ان يخدم رفاهية شعوبها وتقدمها... والحقيقة انه برغم ما حملته نتائج التصويت في طياتها من اشارات بشان ازمة الثقة الحاصلة بين دول الاتحاد الاوروبي والغموض المتفاقم حول مسيرة الاتحاد مستقبلا فقد كان الاستفتاء ضروريا لان القبول بالاتفاقية كان سيتطلب تغيير الدستور والدستور مقدس في الغرب وقد عكس الاستفتاء اهمية ومكانة الموقف الشعبي الذي كشف عن مخاوفه من بنود عديدة في المعاهدة واختار حسم خياره عبر صناديق الاقتراع قبل تبني احد الخيارات المصيرية المتعلقة لا بانتمائه الاوروبي فالايرلنديون لا يشككون ولا يتررددون في تاكيد انتمائهم التاريخي والجغرافي والسياسي لاوروبا قوية بكل ما يعنيه من تكامل اقتصادي وثقافي وانساني ولكن الارجح ان الشعب الايرلندي اختار بهذا الاستفتاء لتحصين مواقعه تعزيز مكانته على الساحة الاوروبية وعدم الاضرار بمصالحه والقبول بالحد من اهمية صوته في المؤسسات الاوروبية بسبب حجمه الجغرافي والسياسي. قد يكون للمتخوفين من نتائج الاستفتاء الايرلندي على مسيرة الاتحاد الاوروبي مبرراتهم ذلك ان هذا الاستفتاء يعني عمليا تاجيل الاصلاحات المطلوبة في مؤسسات الاتحاد الاوروبي وتاجيل وجود رئيس دائم للمجلس الاوروبي لزعماء الاتحاد وتعزيز منصب المسؤول عن السياسة الخارجية واتفاقية الدفاع المشترك وهو ايضا ما يمكن ان يكون له تاثيره في مهمة الوسيط الاوروبي خافيير سولانا في ايران ولكنه تاثير قد لا يرتبط باوروبا بقدر ارتباطه بالاحداث الدولية في المنطقة. من هذا المنطلق فان الحديث عن ازمة خانقة في سماء الاتحاد الاوروبي امر مبالغ فيه فقد اكد قادة الدول الاوروبية وشعوبها في اكثر من مناسبة قدرتهم على تجاوز العثرات وتفادي الانتكاسات بما يجعل المصالح الاوروبية فوق كل الاعتبارات ولاشك ان فرنسا التي تستعد خلال الايام القادمة الى استلام رئاسة الاتحاد الاوروبي من سلوفينيا للاشهر الستة القادمة ستكون امام اختبار جديد قد لا يخلو من التحديات استعدادا لاستحقاقات المرحلة القادمة بما في ذلك مشروع الاتحاد من اجل المتوسط الذي يستعد الرئيس الفرنسي لاطلاقه رسميا في شهر جويلية القادم... وفي انتظار هذا الحدث قد يكون لزاما على دول جنوب المتوسط ان تسعى للاستفادة من تجربة مسيرة الاتحاد الاوروبي منذ انطلاقها بين دول البنلوكس الى حد امتدادها لتشمل سبعة وعشرين بلدا اوروبيا وذلك على مدى نصف قرن من الاندماج والتكامل والنجاحات وان تخللتها الاخفاقات او الانتكاسات...