الافلام الصامتة استفادت من غياب اللغة وسيتواصل الاقبال عليها تونس الصباح تبرمج قناة "قرطاج بلوس" منذ مدة مواعيد قارة لبث الافلام الصامتة المصورة بالقيمتين الابيض والأسود وتعرضها في وقت الذروة وتعيدها وتجد هذه الافلام على ما يبدو المشاهدين الذين يتابعونها ويطربون لصمتها ولبلاغة تعبيرها. هذه الافلام الصامتة -التي خلنا والى وقت طويل ان الزمن طواها وانه تجاوزها الى سينما بألوان قوس قزح وبأصوات ومؤثرات متطورة وحوارات مفهومة ومكملة للصورة- تعود لا للعرض فقط وانما ايضا للإنتاج وتتمكن من حصد الجوائز . ولعل الفيلم الفرنسي "الفنان" المتوج بأوسكار افضل فيلم أجنبي احسن دليل على ذلك وهو الذي نال خمس جوائز في مهرجان "كان" لعام 2012 وقد شجعت ردود الأفعال الايجابية والجوائز والمتابعة والإيرادات المنتجين والمخرجين على ما يبدو على العودة القوية للسينما الصامتة، ولتكرار التجربة. و"الفنان" فيلم صامت انتج سنة 2011 ويتناول حياة الفنان جورج فالنتين في سنة 1927 وقد كان يقدم أفلاما صامتة ويسطع نجمه ويتهافت عليه المخرجون والمنتجون. ولكن ظهور السينما الناطقة جعل نجمه يخفت وفي المقابل سطع نجم ممثلة شابة بدأت مسيرتها معه فتبتعد عنه ثم تعود لتنتشله مما تردى فيه لينخرط في عصره ويقبل هو ايضا على السينما الناطقة. وإقبال المشاهدين شيبا وشبابا وأطفالا على كل ما تبثه القنوات التلفزية من افلام صامتة في ايامنا هذه لا يدفع له على ما يبدو الحنين والرغبة في استرجاع مشاعر وأحاسيس رافقت سنوات الطفولة والمراهقة والشباب وانما هنالك شيء آخر هو الذي يجعل الاطفال والشباب الذين ولدوا في عصر السينما الناطقة يحبون الصامتة ويهيمون بها ولا يقلقون من اعادة مشاهدة لورال وهاردي وشارلو وأفلام بوستر كيتن... من التركيز على الاداء الحركي في صمت الى الموسيقى التصويرية بدأت السينما صامتة سنة 1902 معتمدة على تكثيف الصور وعلى ايحاءات غير منطقية في اغلب الاحيان وعلى الاحداث المتداخلة والإشارات الى الاحلام التي تزعج البشر فتحرك لاوعي المشاهد وتدفعه الى التفكير وإعادة التفكير دون التعويل على نص او أي كلام مهما كان قليلا او كثيرا . ولكنه كان صمتا اضطراريا يعود لافتقار السينما وقتها لتقنيات دمج الصوت، وعندما عرفت السينما طفرة وتطورا سنة 1926 اضيفت لها مؤثرات صوتية وموسيقى تصويرية ولكن تواصل غياب الحوار فيها تماما. وكان من اشهر مخرجي هذه المرحلة شالي شابلن المعروف باسم "شارلو" في تونس. كما احب التونسيون وتابعوا كذلك افلام المخرج الأميركي الشهير باستر كيتون بداية من عام 1917 وقد اخرج افلاما عديدة من أهمها "صبي الجزار" و"الجنرال" و"الملاح" .. الكل شارلي شابلن ولورال وهاردي دائما في البال رغم تعدد مخرجي الافلام الصامتة وكثرتها وأهمية البعض منها وبقاءها على مر العصور والأزمان ورغم كثرة مدارس السينما الصامتة فان التونسي يختزلها في افلام شارلي شابلن وهي "ممسك العصا" عام 1914 و"مأزق مابل الغريب" 1914 و"المتخفي" 1914 و"البنك" 1915 و"المهاجر" 1917 و"الطفل" 1921 و"السيرك" 1928 و"أضواء المدينة" 1931 و"الدكتاتور العظيم" 1940و "المسيو فيردو" 1947 . لقد كان شارلي شابلن رمزا لأفلام السينما الصامتة وقد اضيف الى سجله في اذهان بعض التونسيين -خطأ طبعا- عدد كبير من انجح الافلام الالمانية التي تميزت بالتعبيرية والتجرد وتعدد زوايا الصورة وخلط التراكيب وتنوع الديكور ومن بينها افلام المخرج روبرت واين صاحب فيلم "عيادة الدكتور كاليغاري"وقد اخرجه سنة 1919، والمخرج مورناو صاحب أفلام "نوسفيراتو" و"الضحكة الأخيرة" سنة 1924 و"شروق الشمس"، وكذلك فريتز لانغ مخرج فيلم "متروبوليس" سنة 1927.الافلام الانقليزية الصامتة ايضا مثلت مدرسة فنية متميزة نجحت وانتشرت دون حوار ولا الوان وقد تطورت على مر الازمنة الى ان عرفت محطة هامة وهي افلام"مستر بين"، التي يجسدها الممثل البريطاني روان أتكينسون منذ تسعينات القرن الماضي وتجد حاليا في اعادة بثة عددا كبيرا من المشاهدين. قضايا انسانية كونية وشاهد على العصر تناولت الافلام الصامتة قضايا عصرها سواء الانسانية او السياسية او الاقتصادية وقد نقد شارلي شبلن في فيلم "الازمنة الحديثة" دون صوت ولا حوار عصر الآلة وتحول الانسان الى روبو مقيدا برغبات اصحاب المصانع في تكديس الثروات والربح السريع وقد صنف هذا الفيلم بكونه اهم وابرز الافلام التي انتقدت الرأسمالية وفلسفة العصر الحديث التي لا تقيم وزنا للإنسان. وارّخت هذه الافلام الصامتة كذلك للثورات ومن بينها افلام الروسي سيرغي أيزنشتاين التي تناول فيها ثورة 1905، وثورة أكتوبر 1917 التي كانت بقيادة لينين، والتي جاءت بأول حكومة شيوعية في روسيا وكانت هذه الثورة نواة للاتحاد السوفيتي . و لعل المدرسة السوفياتية كانت من اهم المدارس الفنية ونافست بشراسة المدرستين الامريكية والألمانية بأفلام إيزنستاين ومن بينها فيلم "السفينة الحربية بوتمكين" عام 1925. وعرضت هذه الافلام الصامتة كذلك احلام وطموحات الشباب والطبقات الفقيرة ومن بينها فيلم الالماني مورناو "الضحكة الاخيرة" الذي يتناول التغيرات التي تحدث لبواب نزل ورث فجأة ثروة وهو حلم من اهم احلام الفقراء في كل المجتمعات.وطرحت الافلام الصامتة كذلك افلام الرعب والخيال واستشراف المستقبل ويبقى من اهمها فيلم "ثلاثة اجيال" لباستر كيتون، و هو أول فيلم روائي طويل يقوم كايتون بتأليفه وإنتاجه وإخراجه وتمثيل دور البطولة فيه تماما مثلما كان يفعل شارلي شابلن. وتدور أحداث هذا الفيلم في ثلاثة عصور: العصر الحجري والعصر الروماني والعصر الحديث، بثلاثة أفلام قصيرة. كل فيلم يقوم بتغطية حياة البطل وتتخلله قصة الحب التي تربط بين الاحداث. من الافلام التي استشرفت المستقبل ايضا نجد فيلم "ميتروبوليس" الذي أنتج سنة 1927و تدور احداثه في مدينة مستقبلية في العام 2026 ويتخيل فيه صانعوه كيف يمكن ان يكون وضع الشباب بعد انقسام المجتمع الى طبقة عاملة كادحة وفقيرة وأخرى غنية وذلك عن طريق قصة حب جمعت بين فتاة فقيرة وشاب من الطبقة الثرية في المجتمع. لماذا يحفل المشاهد بفيلم صامت في هذا العصر المتطور الافلام الصامتة (دون صوت او حوار) سبقت الافلام الناطقة بحوالي اربعين سنة منذ ظهور صناعة السينما ورغم ان مواضيع هذه الافلام كونية وانسانية ورغم ان اغلبها مازال صالحا للمشاهدة وقادرا على التعبير عن كل قضايا المجتمع حتى المستحدثة منها فانه يبقى غريبا بعض الشيء ان نقبل بمشاهد فيلم بلا صوت ولا حوار وان نجهد انفسنا ونحن نتفرج لنضيف الحوار والأسماء ونتخيل الناقص في ظل التقدم التكنولوجي الذي نعيش فيه وبعد تيسر عملية دمج الحوارات مع الصورة وإضافة الموسيقى التصويرية للأفلام والأغرب من كل ذلك هو ذاك الشعور بالسعادة والفرح والتفاعل ضحكا او حزنا مع الابطال رغم مشاهدة تلك الأفلام لعشرات المرات؟ يقال ان اتقان اللغة والترجمة يساعد على التقارب بين الشعوب وفهم قضاياها وعلى تذوق الفنون ولكن الافلام الصامتة كانت ومازالت بلا لغة ومع ذلك يفهمها كل من يتابعها دون الحاجة الى الترجمة الصوتية او المكتوبة ولعل هذا ما جعلها تحتفظ بأوسع جمهور في كل بلدان العالم. لقد بقيت الافلام الصامتة لأنها في الحقيقة تحف فنية اعتمدت على اللقطة السينمائية المعبرة وعلى قصص قصيرة محكمة البناء في غير حشو او تطويل وتميز مخرجوها بالاجتهاد من اجل النجاح في الايحاء والتعبير وخلق مواقف متتابعة ومثيرة تشد انتباه المشاهد وتجعله متشوقا الى اللقطة التالية بما تحمله من اثارة في حل معضلة مؤقتة يواجهها بطل الفيلم الصامت. لذلك لا يملها المشاهد ويضحك ويسعد كلما تابعها. لقد ساعد غياب الحوار واللغة على بقاء هذه الافلام وتميزها وانتشارها عالميا ولعله من المفيد اليوم ان نخصص للبعض من قضايانا مثل القضية الفلسطينية افلاما في مستوى اتقانها وجودتها.