هل أصبحنا نقول للمُغنّي... غَنِّ؟! تونس الصباح.. المسلسلات الدرامية الثلاثة التي أثّثت سهرات فضائيتي «تونس 7» و«تونس 21» في رمضان الماضي مثلت عموما وبدرجات متفاوتة تجارب هامة في الانتاج الدرامي التلفزيوني التونسي. فلقد امكن لهذه المسلسلات ان تحظى باعجاب عدد غير قليل.. بل وهام من الجمهور التونسي الذي فضّل رغم كل اغراءات البارابول ان يولي وجهه قبل القنوات التلفزية الوطنية وان يتابع انتاجاتها الدرامية على مدى السهرات الرمضانية الماضية.. فمن مسلسل «مكتوب» للمخرج سامي الفهري مرورا بمسلسل «بين الثنايا» للمخرج الحبيب المسلماني ووصولا لمسلسل «صيد الريم» للمخرج علي منصور كانت هناك «فسحة» فرجوية درامية متنوعة في شكلها ومضمونها استطاع صانعوها (كتّاب سيناريو ومخرجون) ان يقاربوا من خلالها وبأسلوب درامي فني مجموعة قضايا بعضها اجتماعي وبعضها نفسي هي من صميم الواقع الاجتماعي والنفسي للانسان التونسي سواء في الريف او في المدينة. اللافت هنا ان كتّاب هذه المسلسلات الثلاثة وباستثناء السيناريست المخضرم طاهر الفازع هم يعدون من «الوافدين» الجدد على كتابة السيناريو.. فالأستاذة رفيقة بوجدي مؤلفة مسلسل «صيد الريم» مثلا تعتبر «مبتدئة» في هذا المجال بمقياس الكم طبعا فهي لا تمتلك في رصيدها اكثر من مسلسلين ومع ذلك فقد ابانت منذ مسلسلها الأول عن موهبة وذكاء وثقافة واثبتت انها تمتلك «حِسّا» دراميا اهلها لان تحتل وبسرعة مكانتها في قائمة كتّاب السيناريو الأكثر «صنعة» وحذقا للكتابة في هذا المجال.. علما بان بروز هذا الاسم النسائي التونسي في مجال الكتابة الدرامية للتلفزة لم يكن على حد علمنا ب«طلب» من أحد او من جهة ما.. فالأستاذة رفيقة بوجدي، هذه الجامعية والمثقفة العضوية بالمعنى الغرامشي للكلمة ولأنها استأنست في نفسها القدرة على خوض تجربة الكتابة الدرامية للتلفزة واستشعرت ان من واجبها أن توظف ثقافتها ووعيها وموهبتها من أجل تعرية بعض جوانب القبح في الواقع الاجتماعي بهدف الاصلاح.. قررت في لحظة ما ودونما طلب من أحد ان تتوجه نحو الكتابة الدرامية للتلفزة وفعلت.. كذلك، الشأن ربما بالتسبة للسيناريست والشاعر والرسام والمثقف الاستاذ علي اللواتي الذي يعد أحد أبرز المبدعين والمثقفين على الساحة اليوم.. فهو قد يكون خاض تجربة كتابة السيناريو اول ما خاضها بدافع التنويع والتجريب ولكنه لم يخضها على الأرجح بناء على طلب وصله او «توصية» بلغته من «جهة» ما.. نحن نرجّح هذه الفرضية اعتبارا بالاساس للنجاج الكبير الذي حققه السيناريست علي اللواتي في هذا المجال بالتحديد فكل مسلسلاته واشرطته التلفزية التي ألّفها ووضع لها السيناريو والحوار نجحت نجاحا كبيرا وأحبّها جمهور التلفزة.. فمن مسلسل «الخطّاب عالباب» ومرورا ب«عشقة وحكايات» و«حسابات وعقابات» و«منامة عروسية» و«كمنجة سلاّمة» وغيرها.. كانت كلها انتاجات درامية تلفزيونية غنية بالطرافة وزاخرة بالدلالات والرسائل الثقافية والاجتماعية والحضارية الهامة والذكية.. ولو كانت «مكتوبة» بناء على «طلب» مسبق او «توصية» بالكتابة! مما كان لها أن تاتي على الشكل والقيمة التي أتت عليها.. وما كان لها في رأينا ان تنجح ذلك النجاح الكبير.. ولذلك ومن هذا المنطلق تحديدا نحن نستغرب ان تطلب ادارة التلفزة من الاستاذ علي اللواتي بان يؤلف لها مسلسلا جديدا تنتجه وتبثه في رمضان القادم.. كما نستغرب ان يقبل الاستاذ علي اللواتي «المهمة».. بل ونستغرب اكثر الاخبار التي تقول أن علي اللواتي قد انتهى من كتابة بعض الحلقات الاولى من المسلسل وانه تقاضى بعد «القسط» الاول من «أتعابه» كمقابل!!! فهل أصبحت الكتابة وهي ضرب من ضروب الابداع اولا وأخيرا تحضع بدورها لقانون السوق ومنطق العرض والطلب.. وهل اصبحنا نقول للمغني.. غنِّ؟! نعم للحرفية.. ولكن طبعا مثل هذه الاسئلة لا تعني بل ولا تستبطن ادنى تشكيك في قيمة ومكانة الشاعر والرسام والناقد التشكيلي ورجل الثقافة البارز الاستاذ علي اللواتي.. بل هي أسئلة تحوم حول مدى مشروعية «الطلب بالكتابة» الذي اصبح معمولا له في كثير المجالات ذات الصلة بالتأليف والابداع.. ومنها الكتابة للتلفزة او للسينما.. قد يقول قائل انها طريقة اقتضتها قوانين «الاحتراف» في مجال الانتاج التلفزي والسينمائي خاصة وأن الكاتب او الروائي او السيناريست المحترف والمتمكّن لا يضيره ان يكتب «تحت الطلب»! ونحن اذ نقول: نعم للاحتراف وللحرفية في مجال الابداع والكتابة فاننا مع ذلك وبالمقابل نحذر من محاذير «قوانين» هذه الطرق التي تضبط بمقتضى «عقد رسمي» الكاتب او المبدع او السيناريست وتقيّده على الاقل بمواعيد وتواريخ نهائية ومحددة يجب أن ينتهي فيها من «عمله» ويسلم في آجالها المحددة «ابداعه» وما قد ينجر عن ذلك من مساس بالقيمة الابداعية للعمل على الأقل في مستوى الكتابة!