هل يعقل أن نهمل الرياضة سنوات ثم نطلب من تلاميذ الباكالوريا إجراء اختبار رسمي فيها؟ غياب المدرسين المختصين جعل المعلمين العاديين يدرّسون مادّة لا يفهمون منها شيئا..! لا شك أننا ندرك جميعا معنى تلك المقولة الشهيرة: «العقل السليم في الجسم السليم» لكن هل مازال لهذه المقولة وجود في هذا الزمن خاصة في الفضاءات التعليمية وبالأخصّ الأساسية والإعدادية؟. ولا شك أن الحديث في هذا الجانب يجرّنا الى فتح ملف الرياضة المدرسية والحال التي أصبحت عليها، إن وجدت أصلا، رغم أن الإتجاه السائد منذ سنوات هو تعميم الرياضة في المؤسسات التعليمية وربّما جعلها مادة إجبارية. من «يروّض» الرياضة..؟ تحت عنوان «من يروض الرياضة في المؤسسات التربوية؟» كتب الزميل حافظ الغريبي، رئيس تحرير الأسبوعي، افتتاحية بتاريخ 29 جانفي 2009 سوف أقتطف بعض ما جاء فيها نظرا الى أنه يمثّل جوهر موضوع هذا التحقيق. بداية الإفتتاحية كانت كما يلي: «رحم الله زمنا كان شعاره العقل السليم في الجسم السليم. ورغم أن الأطفال كانوا ينمون بحليب «الغبرة» الذي كان يحل في قدر من الماء الساخن على يد حارس المدرسة ويلبسون «سبادري غزالة» فقد كانوا يؤمنون بنفس القدر الذي تؤمن به وزارة التربية الوطنية آنذاك بهذه المقولة التي كانت توشح جدران الأقسام.. في ذلك الزمان كان للرياضة المدرسية معنى وأهداف. كانت تغرس في التلاميذ فكر المجموعة من خلال الحركات الجماعية التي كانت تدار على شكل لوحات رائقة يقوم بها التلاميذ كل صباح.. في ذلك الزمن ورغم محدودية الإمكانات كانت هناك ملاعب رياضية جيدة وكان هناك معلمو وأساتذة رياضة يعملون بتفان. وكان هناك حصة اسمها حصّة الرياضة وبرنامج عمل شهري واضح يشمل كل أصناف الألعاب.. كان هناك تكوين وبرنامج خاص للإحماء وتقنيات تلقّن». أما اليوم؟! وجاء في تلك الإفتتاحية أيضا: «أما اليوم فقد محيت تلك اللوحات الجميلة من البرامج التعليمية وغابت التجهيزات الرياضية لتحل محلّها تجهيزات «افتراضية» تتجسّم في شكل رسم على الحائط في أفضل الحالات.. اليوم أصبحت حصة الرياضة عقابا لمن يمارسها إذ عليه أن يبقى تحت الحائط صامتا في حين يظل الأستاذ أو المعلّم يتحدث الى زملائه في محاولة لقتل الوقت «ليحلّل» (من الحلال) مرتبه هذا إذا كان له ضمير يدفعه للمجيء.. وأغلبهم يعللّون غيابهم بالتربصات أو التمارين على اعتبار أنهم إمّا رياضيون وإما ممرنون.. وكأن هذه الصفة تسمح لهم بقبض مرتب دون القيام بأدنى جهد ولو جهد الحضور الى المدرسة». تناقض صارخ! كيف نهمل الرياضة في المدارس الأساسية والإعدادية والمعاهد سنوات عديدة ثم نطالب تلاميذ الباكالوريا بإجراء اختبار وطني رسمي في هذه المادّة التي يمكن ان تكون سببا في النجاح أو سببا في الإخفاق؟! هذا طبعا هو التناقض الصارخ بين الجانب النظري للمسألة والجانب الواقعي لها. ولهذا السبب أصبحت الرياضة مثل بقية الدروس الخصوصية الأخرى لها أساتذتها ولها أولياء يدفعون الأموال ويبحث بعضهم عن «الأكتاف» والمعارف عسى أن يحصل أبناؤهم على عدد «قمقوم» يساعده في الحصول على المعدّل العام في الباكالوريا..!! في حاجة الى مراجعة ويختم صاحب الإفتتاحية بالقول: «إن تدريس الرياضة في حاجة الى مراجعة جذرية.. مراجعة تأخذ بعين الإعتبار كل النقائص. فإما أن تعالجها وزارة التربية والتكوين وتعود بنا الى ما كان عليه الحال في سنوات الستين والسبعين وإما إن توقف هذه الحصص شبه المتوقفة بطبعها فتتضح الرؤية للتلاميذ والأولياء ولا تكلف نفوسهم الا وسعها. اليوم أصبحت مادّة الرياضة مثالا حيّا للتمرّد على توجهات الدولة وخطط الحكومة وبرامج الوزارة وهي في حاجة أكيدة لمن يروّضها». تعميم افتراضي؟! من الناحية المبدئية، مثلما قلنا في البداية، يعتقد الناس أن الرياضة مادّة رسمية في المدارس الأساسية والإعدادية والمعاهد الثانوية. وبصفة رسمية أعلن منذ سنوات عن هذا التمشي وعن تعميم الرياضة في المؤسسات التربوية لكن هل هناك تعميم أصلا وهل تمّ الإعداد الجيد لمثل هذا الإجراء خاصة في ما يتعلق بالفضاءات والتجهيزات والإطار المختص الذي سيتولى تدريس مادة تتطلب الإختصاص؟ «الحصير قبل الجامع»! هذا المثل يضرب عادة للحديث عن سير غير منطقي للأحداث كمن يبيع مثلا سلعة لم ينتجها بعد أو كمن يبني جدران منزله ويركب الأبواب والنوافذ قبل ان «يصب الدّالّة»..! وقياسا على هذا المثل يمكن ان نتساءل: ماذا أعدت الجهات المعنية من ضرورات قبل الإنطلاق في تعميم الرياضة في المدارس الأساسية والإعدادية وقس على ذلك في المعاهد والكليات؟ فالملاحظة الأولى التي تطفو على السطح هي أن أغلب أطفالنا يمارسون الرياضة في ظروف غير عادية لأن المدارس والإعداديات لم توفر لهم الفضاءات الخاصة والتجهيزات الضرورية لممارسة النشاط الرياضي الذي يتطلب الجهد والعرق. وبمعنى أدق كم عدد المدارس التي يسمح فيها لتلاميذها بممارسة الرياضة في الملاعب والقاعات الرياضية والمسابح أيضا؟ كيف تصبح الرياضة خطرا؟! إذا لم يتوفر المناخ السليم لممارسي الرياضة تصبح هذه النعمة خطرا عليهم بكل تأكيد.. فالطفل الذي يجري أو يلعب كرة او يقوم بحركات رياضية يبذل جهدا ويعرق. وإذا كان يمارس نشاطه على أرضية ترابية سيختلط العرق بالغبار والتراب. وأول قاعدة صحية يعرفها كل الرياضيين وحتى من لم يجر مترا واحدا في حياته هي أن يستحّم ممارس الرياضة بمجرّد أن ينتهي من النشاط. لكن هل هذا موجود في مدارسنا؟ طبعا لا إذا استثنينا قلة قليلة من المدارس المحظوظة التي تتوفر فيها غرف تغيير الملابس والأدواش.. هذه النقطة المهمّة جدّا يبدو أن البعض أهملها والبعض الآخر تفطّن لها على غرار السيد «عبد السلام» مدير إحدى المدارس الأساسية الذي قال: «لقد أدركنا منذ البداية أن عدم استحمام الطفل يمثل خطرا على صحته وبما أننا نمدّ أرجلنا على قدر كسائنا أي لا نستطيع توفير الأدواش فإننا جعلنا الحصص الرياضية تنتهي دائما مع انتهاء الحصة الدراسية الصباحية أو المسائية بحيث يعود بعدها التلميذ مباشرة الى منزله فيستحم ويزيل عن جسمه ما علق به من عرق وغبار وتراب.. وهذا طبعا أضعف الإيمان في انتظار أن تتحسن الأمور في المستقبل فتتوفر لتلاميذنا كافة الأسباب المريحة لممارسة الرياضة». .. وأخطار أخرى؟ إضافة الى الخطر الصحّي الذي ينجّر عن عدم الإستحمام هناك أخطار أخرى تنجرّ عن الحوادث التي يمكن أن تقع خلال ممارسة الرياضة وقد سجّلت الكثير من الحالات في هذا المجال وكان من الصعب إسعاف الضحايا نظرا الى عدم وجود سيارات إسعاف خاصة بالمدارس وبعد بعض المدارس عن مراكز الحماية المدنية أو المستشفيات او المؤسسات الإستشفائية بصفة عامّة. وهنا تقفز الى الأذهان فكرة أو مسألة التأمين. فمن الناحية المبدئية فإن كافة التلاميذ ملزمون بدفع مبلغ مالي بسيط (3 دنانير تقريبا) مع مفتتح كل سنة بعنوان تأمين على الحوادث أو الإصابات لكن هل ينفع التأمين في حالة إصابة أحد التلاميذ اصابة خطيرة أو في حالة وفاة لا قدّر الله؟! عن هذا السؤال يجيب السيد كمال بن يونس وهو أب لطفلين يدرسان بالأساسي ويمارسان الرياضة: «بكل صراحة لا أثق كثيرا في مسألة التأمين وقد سمعت عن حوادث خطيرة ذهب ضحيتها تلاميذ لم يقع إسعافهم في الحين ولم ينفعهم التأمين في ما بعد. وبكل صراحة أيضا فإن أطفالنا يمارسون الرياضة في ظروف سيئة ومع ذلك لا أستطيع منع طفلّي من ممارستها حتى لا يكونا استثناء بين زملائهما. وأتمنى أن تتغيّر الظروف لننسج على منوال البلدان الغربية إذ زرت العديد منها ورأيت هناك ما معنى الرياضة في المدارس الإبتدائية وما معنى الملاعب والقاعات والتجهيزات التي قد لا نجد مثلها عند أغلب فرقنا المدنية فما بالك بالمدارس الأساسية والإعدادية؟!». نقص في المعلمين والأساتذة عندما نتحدث عن نقص في معلّمي وأساتذة التربية البدنية فإن ذلك يعني بالضرورة أن كل الذين تخرّجوا في هذا الإختصاص يعملون وأن الطلب أكثر من العرض بكثير لكن هل هذا صحيح؟! طبعا لا والدليل العدد الكبير من خريجي المعاهد والكليات الرياضية العاطلين عن العمل. ويبدو أن معالجة هذا الموضوع لم تتم بشكل جذري ومنطقي. فعوض انتداب هؤلاء المختصين لجأت إدارات المدارس، وبموافقة الوزارة طبعا، الى تكليف معلّمي وأساتذة العربية والفرنسية والإيقاظ العلمي والتربية التشكيلية وغيرهم بتدريس التربية البدنية. وهذا خطأ جسيم لا يختلف عن تكليف طبيب بتدريس الفلاحة أو تكليف أستاذ رياضيات بتدريس الموسيقى. وطبعا قد تبّرر الوزارة هذا الخطأ بقلّة الإمكانات المادية. لكن لو نظرنا الى المسألة من جانب أن فاقد الشيء لا يعطيه فإن مسألة الفائدة ستغلب مسألة الإمكانات.